لكم لبنانكم ولي لبناني
لكم لبنانكم ولي لبناني.
لكم لبنانكم ومُعضلاته، ولي لبناني وجماله.
لكم لبنانكم بكل ما فيه من الأغراض والمنازع، ولي لبناني بما فيه من الأحلام والأماني.
لكم لبنانكم فاقتنعوا به، ولي لبناني وأنا لا أقنع بغير المجرد المطلق.
لبنانكم عقدةٌ سياسية تحاول حلها الأيام، أمَّا لبناني فتلول تتعالى بهيبةٍ وجلالٍ نحو ازرقاق السماء.
لبنانكم مشكلةٌ دولية تتقاذفها الليالي، أما لبناني فأودية هادئة سحرية تتموَّج في جنباتها رنَّات الأجراس وأغاني السواقي.
لبنانكم صراع بين رجل جاء من المغرب ورجل جاء من الجنوب، أما لبناني فصلاة مُجنَّحة تُرفرفُ صباحًا عندما يقود الرعاة قُطعانهم إلى المروج، وتتصاعدُ مساءً عندما يعود الفلاحون من الحقول والكروم.
لبنانكم حكومة ذات رءوس لا عداد لها، أما لبناني فجبل رهيب وديع، جالسٌ بين البحر والسهول جلوس شاعر بين الأبديَّة والأبديَّة.
لبنانكم حيلة يستخدمها الثعلب عندما يلتقي بالضبع، والضبع حينما يجتمع بالذئب، أما لبناني فتذكارات تُعيد على مسمعي أهازيج الفتيات في الليالي المُقمِرة، وأغاني الصبايا بين البيادر والمعاصر.
لبنانكم مربعات شطرنج بين رئيس دين وقائد جيش، أما لبناني فمعبد أدخله بالروح عندما أملُّ النظر إلى وجه هذه المدينة السائرة على الدواليب.
لبنانكم رجلان، رجل يؤدي المكوس ورجل يقبضها، أما لبناني فرجل فرد مُتَّكئ على ساعده في ظلال الأَرْز، وهو منصرف عن كل شيء سوى الله ونور الشمس.
لبنانكم مرافئ وبريد وتجارة، أما لبناني ففكرة بعيدة وعاطفة مُشتعلة، وكلمة علوية تهمسها الأرض في أُذُن الفضاء.
لبنانكم موظفون وعمال ومديرون، أما لبناني فتأهُّب الشباب وعزم الكهولة وحكمة الشيخوخة.
لبنانكم وفود ولجان، أما لبناني فمجالس حول المواقد في ليالٍ تغمرها هيبة العواصف ويُحَلِّلها طُهر الثلوج.
لبنانكم طوائف وأحزاب، أما لبناني فصِبْيَة يتسلقون الصخور ويركضون مع الجداول ويقذفون الأكر في الساحات.
لبنانكم خُطَبٌ ومحاضرات ومناقشات، أما لبناني فتغريد الشحارير، وحفيف أغصان الحور والسنديان، ورجع صدى النايات في المغاور والكهوف.
لبنانكم كَذِب يحتجب وراء نقاب من الذكاء لبناني فلا يتصل ولا ينفصل ولا يتفوق ولا يتصاغر.
لكم لبنانكم ولي لبناني.
لكم لبنانكم وأبناؤه، ولي لبناني وأبناؤه.
ومن هم يا تُرى أبناء لبنانكم؟
ألا فانظروا هُنيهة لأُريكم حقيقتهم.
هم الذين وُلدتْ أرواحهم في مستشفيات الغربيِّين.
هم الذين استيقظتْ عقولهم في حُضن طامع يمثل دور أريحي.
هم تلك القضبان اللينة التي تميل إلى اليمين وإلى اليسار، ولكن بدون إرادة، وترتعش في الصباح وفي المساء، ولكنها لا تدري أنها ترتعش.
هم تلك السفينة التي تُصارع الأمواج وهي بدون المُستعار، ورياء يختبئ في رداء من التقليد والتصنُّع، أما لبناني فحقيقة بسيطة عارية، إذا نظرَتْ في حوض ماءٍ ما رأتْ غيرَ وجهها الهادئ وملامحها المُنبسطة.
لبنانكم شرائع وبنودٌ على أوراق وعقودٌ في دفاتر، أما لبناني فقطرة في أسرار الحياة وهي لا تعلم، وشوق يُلامس في اليقظة أذيال الغيب ويظن نفسه في منام.
لبنانكم عجوزٌ قابضٌ على لحيته قاطبٌ ما بين عينيه ولا يفكر إلا بذاته، أما لبناني ففتًى ينتصب كالبرج ويبتسم كالصباح، ويشعر بسواه شعوره بنفسه.
لبنانكم ينفصل آنًا عن سوريا ويتصل بها آونة، ثم يحتال على طرفيه ليكون بين معقودٍ ومحلول، أما لبناني فلا يتصل ولا ينفصل ولا يتفوق ولا يتصاغر.
لكم لبنانكم ولي لبناني.
لكم لبنانكم وأبناؤه، ولي لبناني وأبناؤه.
ومن هم يا تُرى أبناء لبنانكم؟
ألا فانظروا هُنيهة لأُريكم حقيقتهم.
هم الذين وُلدتْ أرواحهم في مستشفيات الغربيِّين.
هم الذين استيقظتْ عقولهم في حُضن طامع يمثل دور أريحي.
هم تلك القضبان اللينة التي تميل إلى اليمين وإلى اليسار، ولكن بدون إرادة، وترتعش في الصباح وفي المساء، ولكنها لا تدري أنها ترتعش.
هم تلك السفينة التي تُصارع الأمواج وهي بدون دفة ولا شراع، أما رُبَّانها فالتردُّد، وأما ميناؤها فكهف تسكنه الغيلان. أوَليست كل عاصمة في أوروبا كهفًا للغيلان؟
هم الأشدَّاءُ الفصحاءُ البُلَغَاء، ولكن بعضهم لدى بعض، والضعفاء الخرسان أمام الإفرنج.
هم الأحرار المصلحون المتحمسون، ولكن في صحفهم وفوق منابرهم، والمُناقدون الرجعيون أمام الغربيِّين.
هم الذين يضجُّون كالضفادع قائلين: «لقد تملصنا من عدوِّنا الطاغية القديم.» وعدوهم القديم الطاغية ما برحَ يختبئ في أجسادهم.
هم الذين يسيرون أمام الجنازة مُزَمِّرين راقصين، حتى إذا ما التقوا بموكب العرس تحوَّل تزميرهم إلى نُواحٍ ورقصهم إلى قرع الصدور وشقِّ الأثواب.
هم الذين لا يعرفون المجاعة إلا إذا كانت في جيوبهم، فإذا ما التقوا بمن كانت مجاعته في روحه ضحكوا منه وتحوَّلوا عنه قائلين: «ما هذا سوى خيال يسير في عالم الأخيلة.»
هم أولئك العبيد الذين تُبدِّل الأيام قيودهم المُصدأة بقيودٍ لامعة، فيظنون أنهم أصبحوا أحرارًا مُطلقين.
هؤلاء هم أبناء لبنانكم، فهل بينكم من يمثل العزم في صخور لبنان؟ أم النيل في ارتفاعه؟ أم العذوبة في مائه؟ أم العطر في هوائه؟ هل بينهم من يتجرَّأ أن يقول: «إذا ما متُّ تركتُ وطني أفضل قليلًا ممَّا وجدتُهُ عندما وُلدت»؟ هل بينهم من يتجرَّأ أن يقول: «لقد كانت حياتي قطرة من الدم في عروق لبنان، أو دمعة بين أجفانه، أو ابتسامة على ثغره؟»
هؤلاء هم أبناء لبنانكم، فما أكبرهم في عيونكم وما أصغرهم في عيني!
ولكن قفوا قليلًا وانظروا لأُريكم أبناء لبناني:
هم الفلاحون الذين يُحولون الوعر إلى حدائق وبساتين.
هم الرعاة الذين يقودون قُطعانهم من وادٍ إلى واد، فتنمو وتتكاثر وتُعطيكم لحومها غذاءً وصوفها رداءً.
هم الكرَّامون الذين يعصرون العنب خمرًا ويعقدون الخمر دبسًا.
هم الآباء الذين يُربُّون أنصاب التوت، والأمهات اللواتي يغزلن الحرير.
هم الرجال الذين يحصدون الزرع، والزوجات اللواتي يجمعن الأغمار.
هم البنَّاءون والفخَّارون والحائكون وصانعو الأجراس والنواقيس.
هم الشعراء الذين يسكبون أرواحهم في كئوسٍ جديدة، وهم شعراء الفطرة الذين ينشدون العتابا والمعنى والزجل.
هم الذين يغادرون لبنان وليس لهم سوى حماسة في قلوبهم وعزم في سواعدهم، ويعودون إليه وخيرات الأرض في أكُفِّهم وأكاليل الغار على رءوسهم.
هم الذين يتغلبون على محيطهم أينما حلوا، ويجتذبون القلوب إليهم أينما وُجدوا.
وهم الذين يولدون في الأكواخ، ويموتون في قصور العلم. هؤلاء هم أبناء لبنان. هؤلاء هم السُّرُج التي لا تطفيها الأرياح، والملح الذي لا تفسده الدهور. هؤلاء هم السائرون بأقدامٍ ثابتة نحو الحقيقة والجمال والكمال.
وماذا عسى أن يبقى من لبنانكم وأبناء لبنانكم بعد مائة سنة؟ أخبروني، فإذا تتركون للغد سوى الدعوى والتلفيق والبلادة؟ هل تحسبون أن الزمن يحفظ في ذاكرته مظاهر الخداع والمُداهنة والتدليس؟
أتظنون أن الأثير يُخَزِّن في جيوبه أشباح الموت وأنفاس القبور؟ أتتوهمون أن الحياة تستر جسدها العاري بالخرق البالية؟
أقول لكم والحق شاهدٌ عليَّ: إن نصبة الزيتون التي يغرسها القرويُّ في سفح لبنان لأبقى من جميع أعمالكم ومآتيكم. والمحراث الخشبي الذي تجرُّهُ العجول في مُنعطفات لبنان لأشرف وأنبل من كل أمانيكم ومطامحكم.
أقول لكم وضمير الوجود صاغٍ إليَّ: إن أغنية جامعة البقول بين هِضَاب لبنان لأطول عمرًا من كلِّ ما يقوله أوجَه وأضخم ثَرثار بينكم.
أقول لكم إنكم لستُم على شيء، ولو كنتم تعلمون أنكم لستم على شيءٍ لتحوَّل اشمئزازي منكم إلى شكلٍ من العطف والحنان، ولكنكم لا تعلمون.
لكم لبنانكم ولي لبناني.
لكم لبنانكم وأبناء لبنانكم، فاقتنعوا به وبهم إن استطعتم الاقتناع بالفقاقيع الفارغة.
أما أنا فمقتنع بلبناني وأبنائه، وفي اقتناعي عذوبة وسكينة وطمأنينة.