المحاورة الثانية عشرة
٢٨ من أبريل سنة ١٩٣٨م
يوم من أيام الربيع التي تشتد فيه حرارة الصيف فجأة، وبلغت الحرارة التسعين إلا نصفًا بدرجات مقياس الحرارة، ولا يزال البخار يملأ جو المكاتب، فأُصِبت بالإجهاد الشديد، ولم يكن بوسع أي إنسان أو أي أمر أن يُغريني بالخروج في المساء، اللهم إلا آل هوايتهد، وحتى في هذه الحالة بلغت دارهم ذابلًا في الساعة الثامنة.
وزالت بيننا الكُلفة في ذكر الأسماء، وأمكننا أن نستغني عن وليمة العشاء، واستطعنا أن نُدير الحديث وحدنا في عمق وفي سرعة، وانفتحت النوافذ تستقبل ليل الربيع، فنسينا كل ما أصابنا من إجهاد أثناء النهار.
وتحدَّثنا عن حياتهما في جرانتشستر حينما كان هوايتهد زميلًا بكلية ترنتي في كمبردج، وكانا يقطنان «بيت مل» القديم، وأطلعاني على صورة مُلوَّنة له في «المجلة الجغرافية الوطنية» لشهر سبتمبر من عام ١٩٣٦م، وكانت الحياة في القرية تسير بكل ما عُرِف عنها من تفكُّك من عهد شوسر، وإلى جوارها الجامعة تُؤانِسها غير آبهة بها؛ فالقرية أشبه بابن الزنا، يخرج إلى الوجود نتيجة ﻟ «غلطة يسيرة»، وكان أهل القرية في سذاجتهم وحسن نيتهم يعتمدون بغريزتهم على الأعيان، كما كانوا يفعلون منذ قرون، والأعيان لا يُخيِّبون رجاءهم، فإن فعلوا فقدوا مكانتهم، وإذا أخطأ أحد المُرشَّحين لمجلس النواب من الأحرار فتخلَّى عن العمادة المحلية، ثارت زوبعة من الغضب، واضطر إلى الابتعاد تفاديًا لسوء العواقب. وكان «بيت مل» جذابًا بهيج المنظر، ليس به إلا عيب واحد، هو الفيران، وكانوا يُقاوِمونها بمختلف الطُّرق، ولكنها كانت تعود أحيانًا، فيُحارِبونها حربًا شعواء داخل جدران ذلك المسكن القديم؛ فكانت الحياة في هذا البيت في نظر الزائر مُثيرة، وكان آل هوايتهد يروون لنا قصتهم مع الفيران، فكنا نُقابِل ذلك بالضحك العميق.
ثم انتقلنا أخيرًا إلى ما أسماه هوايتهد تساؤلنا عن «الألغاز التاريخية»: «هل أوهن من ذكاء الإسبانيين طردهم اليهود والبروتستانت؟» ثم أضاف قائلًا: «إن الذهب الذي أتوا به من أمريكا حط من خُلقهم، كما أن الجيوش التي أرسلوها إلى أوروبا استنزفت جانبًا من أعز ما لديهم من دماء. لا شك في أن الجند قد أنجبوا عددًا مُناسِبًا من الأطفال، ولكن في غير إسبانيا، بيدَ أن الكارثة لم تلحق بالفنون.»
– «وهل أجَّل طرد الهوجونوت الفرنسيين اشتعال الثورة الفرنسية؟»
قال: «ربما كان سببًا فيها.»
– «إن ذلك يُفسِّر هجرة الألمان في عام ١٨٤٨م؛ فإنه بعد فشل الثورات، تنبَّهت جموع كبيرة من الألمان وجاءت إلى هنا.»
– «كان حظكم فيهم حسنًا أيها الأمريكان، وأعتقد أنكم ظفرتم بالألمان الذين لم يستطيعوا العيش في جو سياسي خانق. ولاحظ أن الهجرة دائمًا تختار خير العناصر، بمعنًى من المعاني. لا بد للناس من سبب للانتقال، وقد تختلف الأسباب من دواعٍ خُلقية كبرى إلى وكلاء البواخر الذين يستوردون العمل الرخيص من جنوبيِّ أوروبا. لو أنَّا نحن الإنجليز وجدنا مَناجم للذهب في أمريكا الشمالية، بدلًا من الأرض الصالحة للزراعة ومن التجارة، فربما كان ذلك سببًا في دمارنا، وحتى في هذه الحالة، نجد أن شعبنا في القرن الثامن عشر شعب غبي إذا قُورِن بأهل القرن السادس عشر، بعد أن سحبت الهجرة العناصر النشيطة في القرن السابع عشر. وما دُمنا نسأل أنفسنا الإجابة عن ألغاز التاريخ، فإليك واحدًا منها؛ ألمْ يُؤجِّل «بت» الصغير انهيار أوروبا في العصر الحاضر وذلك بإشعال حرب لهزيمة نابليون، أعاد بها إلى الأسرات الحاكمة الواهنة نفوذها لمائة عام ساءت خلالها الأمور إلى حدٍّ يستعصي على الإصلاح، وذلك بدلًا من أن يترك هذه الأسرات تئول إلى السقوط الذي تستحقه؟ ألمْ تتهيَّأ الفرصة ﻟ «بت» لكي يُصدِر قرارًا من أهم القرارات التي تُؤثِّر في تاريخ البشرية، فأخطأ في القرار؟ وذلك بأن استمع إلى برْك وزمرته، بدلًا من أن يستمع إلى الأحرار.»
ولما تقدَّم المساء قال: «كنت أفكر في العلاقة بين المهارة الفنية والفن، وكنت أُحاوِل أن أخرج بنظرية، لست على يقين من إمكان تأييدها في جميع الحالات، وتلك النظرية هي أن المهارة الفنية — في المراحل الأولى لفن من الفنون — ليست إلا وسيلة من وسائل التعبير عن العقيدة المُلتهِبة التي تجيش في صدور الفنانين، وكثيرًا ما تكون هذه المهارة على شيء من الخشونة. خذ الكاتدرائيات مثالًا؛ إنك تجد فيها شيئًا عميقًا يُحرِّك النفوس، وإلى جانب ذلك تجد شيئًا بعيدًا عن الإتقان، ولكنه لا يحط من شأنها، ثم بعدما ينضج الفن، وتتقدم فيه الصناعة، بحيث يمكن نقلها بالتعليم، يُنتقى الصبيان الأذكياء الذين يستطيعون أن يتعلموا الصناعة بغير إبطاء، ويُهمِل الصبيان أصحاب الأحلام العظيمة؛ فترى في العمل أثر المهارة وإتقان الصناعة، ولكن ينقصه العمق.»
وشرعنا نجول في مُختلِف الفنون لاختبار صحة النظرية، وكان من رأيه أن رفائيل هو أحد هؤلاء الصُّناع الماهرين الذين يظهرون في اللحظة التي يبدأ فيها العمق في الاختفاء، وأن ملتن مثال آخر لذلك، وأن الأسلوب المُتلألئ الزاهي في الفن الغوطي مثال لذلك أيضًا.
وقال: «إن الفن الغوطي الإنجليزي قد استغرق حوالَي أربعة قرون، من عام ١١٠٠م إلى عام ١٥٠٠م، ومرَّ بأربعة أساليب مُتتابِعة؛ الرومانسك، والإنجليزي القديم، والمُزخرَف، والعمودي، وكل أسلوب منها دام زهاء قرن من الزمان، حتى كان القرن السادس عشر حينما بدأ هذا الفن في التلاشي، وخلال هذه القرون الأربعة كانت تُستكشَف أوجه جديدة لفكرة العمارة الغوطية، ثم تأخذ هذه الأوجه في التطور، وكان إمكان التجديد فيها لا ينتهي، فيما يبدو، ولما حل عام ١٥٠٠م بدأ هذا الإمكان من النفاد، ولكنه لم ينفد بتاتًا، ثم جاءت بعد ذلك فترة انصراف شامل، وعاد البنَّاءون إلى أسلوب العمارة عند اليونان والرومان، وتلك هي «النهضة» واستخدموا هذا الأسلوب لكل غرض في العالم الحديث من الكنيسة إلى محطة السكة الحديدية، فشهدت لندن كاتدرائية القديس بطرس بدلًا من الدير الغوطي، وشهدت نيويورك محطة بنسلفانيا للسكة الحديدية، وهي منشأة على طراز حمامات كاراكلا في روما.»
وطبَّقنا هذه النظرية على فن المأساة الإغريقية، وتأكَّدنا من خضوعه لنفس هذه الدورة الحيوية؛ كانت لإيسكلس معتقدات خلقية مشتملة، ولم تزِد قدرته الصناعية في مسرحيته «الفرس» إلا قليلًا عن الموَّال أو المُوشَّح، ولكنا نجد هذه القدرة في «أجاممنون» عظيمة متقدمة. وفي مسرحيات سوفوكليز التي بقيت لنا نجد توازُن العصر المتوسط، نجد العقيدة القوية، ونجد الأفكار التي يُعبَّر عنها بقوة فائقة، وبمهارة صناعية فائقة في الوقت ذاته، مهارة تُطلِق قوة الأفكار إلى أقصى غاياتها. وتنتمي إلى هذه المجموعة «أنتيجون» ومسرحيتَا «أوديب». ولما نصل إلى يوربيديز نجد أن المهارة الصناعية قد باتت مفهومة إلى الحد الذي يُمكِّن من التلاعب بها، وبالرغم من أن العقيدة القوية ما زالت باقية، وبالرغم من أن الأفكار ما زالت قوية، فإن الروح السائدة هي روح النقد الذي يُشكِّك.
ووجدنا أن ما كنا نُناقِشه في مجال المهارات الصناعية هو الدورات الحيوية للأشكال الفنية، ويُمكِن تتبُّع أمثال هذه الدورات في فن النحت اليوناني، وفي التصوير لعهد النهضة، وفي الموسيقى الحديثة، التي بدأت منذ ثلاثة قرون واستمرت حتى القرن العشرين، حتى أمست المهارة الصناعية للتوزيع الموسيقي السمفوني معروفة إلى الحد الذي يمكن من تعليمها للصبيان الأذكياء.
وقد ألقت نظرية هوايتهد هذه فيضًا من الضوء فقلت: «إن بعض هؤلاء الصبيان الأذكياء يُقدِّمون عروضًا تخطف السمع بما فيها من مهارة صناعية فائقة، وضربات تأخذ بالألباب، وهم يستطيعون أن يُذهِلوا الأهالي بمركبات صوتية لم يُسمَع مثلها من قبل، ويستطيعون أن يهزوا قلوب الشيوخ باستخدامهم الكلمات الخبيثة ذات الحروف الأربعة في تنافُر مُنسجِم وانعدام للنغم، ولكنهم لما كانوا لا يؤمنون بشيء فإنهم لا يجدون شيئًا للتعبير عنه، وفنيت الفكرة التي كانت قوية فيما مضى فناءً مُطلَقًا.»
وقال هوايتهد مُحذِّرًا: «ولكن الفكرة قد تعود إلى البعث. من الأفكار ما استقر دفينًا لعدة قرون، ثم نهض مرة أخرى، وأشعل ثورة في المجتمع الإنساني. قد تجد صبيًّا من الصبيان ليس ذكيًّا فحسب، يعثر على فكرةٍ ما، كان يُظَن أنها ماتت من زمان بعيد، فيُعيد إليها الحياة بين يدَيه؛ لأنه حينما تتقد شرارة شاب من الشبان عند استكشاف فكرة عظيمة، لا تهمنا لديه الفكرة المُعيَّنة التي اكتشفها، بمقدار ما يهمنا الوميض الذي تُشعِله الفكرة في نفسه؛ فهنا تجد الإحساس بالمغامرة، وبالحدة؛ لأن الفكرة القديمة قد تراءت للبصر من جديد في صورة جديدة؛ لأن حيوية الفكرة في المُغامَرة. «والأفكار لا تدوم» ولا بد من صيانتها، حينما تكون الفكرة جديدة تكون عند حفظتها الحماسة، ويعيشون من أجلها، بل ويموتون من أجلها إن اقتضى الأمر ذلك، ويستقبل ورثتهم الفكرة، وربما كانت قوية وناجحة، ولكنهم لا يرثون التحمس لها؛ ومن ثَم فإن الفكرة تستقر في منتصف العمر الهادئ، ثم تدب فيها الشيخوخة، ثم تموت، بيدَ أن النُّظم التي تُحاك حولها لا تقف عند حد، إنها تُواصِل الاندفاع بقوة القصور الذاتي المُكتسَب وحدها، أو تُصبِح كالفارس الميت محمولًا على ظهر جواده.»
ولم يُخصِّص هوايتهد القول في هذا التعميم.