المحاورة الرابعة عشرة
٢٧ من فبراير ١٩٣٩م
ظهر في عدد مارس من مجلة الأطلنطيق الشهرية مقال لهوايتهد تحت عنوان «نداء إلى العقل»، وكان العدد بالفعل في أيدي باعة الصحف، وقد حفَّزه إلى كتابة هذا المقال العواطف الثائرة حول تشيكوسلوفاكيا، بيدَ أن مناقشة هوايتهد للموضوع تجاوَزت الحوادث الجارية حتى إن القارئ ينتهي من المقال وهو يُحِس كأنه في عالم أرحب وأوسع، ونشرت مجلة جلوب ملخصًا لمقاله في افتتاحيتها.
وقال في هذا المساء متلطفًا: «قرأتُ لك وقرأتَ لي.»
– «ليس ما كتبت إلا إعلانًا عن ظهور مقالك، وقد أرسلت عددًا إلى بارنجتون وارد بصحيفة التايمز اللندنية.»
قال: «كتبته في نوفمبر الماضي، وقد نسي كل امرئ تشيكوسلوفاكيا الآن.»
– «هذه بالضبط هي قيمة المقال. قد تزول المناسبة العارضة، بيدَ أن التطورات التاريخية التي تربطها أنت بها لا تزول قط.»
قالت مسز هوايتهد: «بدأ المقال أولَ الأمر خطابًا إلى فلكس فرانكفورتر، وكان يُحفِّزنا إلى الحديث في الموضوع، بقوة وعنف.»
– «لا بد أن هذه الأيام كانت أليمة على نفسه بدرجة عظمى؛ لما لديه من إحساس دقيق بالعدالة.»
قالت: «ثم إن هناك عرقًا صليبيًّا ينبض في فلكس.»
قلت: «إن الجهد الذي بذله في سبيل المحاكمة العادلة لساكو وفانزتي وقع من نفسي موقعًا أقوى من مجرد الحماسة الصليبية.»
فقالت مُتردِّدة: «إني أتصوَّره دائمًا من فيينا؛ فعنده مرح أهلها، وإن تكن السنوات الست الماضية — علِم الله — لم يكن فيها الكثير مما يبعث على المرح.»
فقال هوايتهد: «في اليوم الذي أعلن فيه نداءه إلى المحكمة العليا، تصادَف أني كنت وأفلن نستمع إلى الراديو فأصغينا إليه، فنادَينا إحدى العربات وانطلقنا إليه نُهنِّئه، وقد سبقنا إليه عدد قليل من تلاميذه الذين كانوا يدرسون عليه القانون، وكان منظرًا ساحرًا؛ كانوا في نشوة كبرى، ورأينا فيهم كيف يكون الشباب في أحسن حالاته، رأينا اللطف والرقة.»
ومن هذا انحرفت المحاورة إلى محاورة في الحماسة الصليبية، وقال هوايتهد عن الصليبيين المُحترِفين: «إن شيخوختهم أمر يدعو إلى الأسف. إنهم يتنقلون من «قضية» إلى «قضية».»
وسألته: «متى بالضبط تفتُر الحماسة الصليبية عند الإنسان؟ هل يحدث ذلك حينما تبرد دماؤه؟»
قال: «إنها لا تفتر قط عند المُحترِفين.»
– «إن دفاعك الحار عن اليهود في مجلة أطلنطيق يحثُّني على السؤال عن السبب في كراهية الشعوب لهم في كثير من الأحيان، كما ذكرت.»
– «إن ذهنهم حادٌّ، وهذه الحدة كثيرًا ما تكون في صورة تُثير الحسد، وهي صورة النجاح في التجارة. إنها ليست عمقًا دائمًا، وينبغي للمرء حينما ينتقي الرجال أن يحذر من تألُّق الشبان اليهود. إنهم ينضجون في التاسعة عشرة أو العشرين، وقد يلمعون، ولكنهم لا يُحقِّقون دائمًا الآمال المعقودة عليهم، والتي تقوم على أساس عُلوهم على غيرهم في هذه السن.»
وأضافت مسز هوايتهد قولها: «وهم فوق ذلك لم يكتسبوا خبرة حكم الشعوب الأخرى، أو حتى حكم دولة لهم خاصة بهم.»
قال: «إن ذلك يزيد من اهتمامهم بالمثل الأعلى الذي ينفعهم. إنهم يفتقرون إلى روح الفكاهة بدرجة ملحوظة، أو هم كانوا كذلك حتى عاشوا بين الأوروبيين. إن الإنجيل يفتقر إلى روح الفكاهة. لم تكن عندهم بعد مآسيهم — فيما يبدو — حكاية مُضحِكة لأرستوفان.»
– «إن موقعهم بين إمبراطوريات حربية لم يُهيِّئ لهم ما يضحكون منه.»
قال هوايتهد: «إن اليهودي مُكتئِب بطبعه، ولا يعترف لهم أحد بفضل العمل العظيم الذي أدَّوه والأثر القوي الذي كان لهم في تقدُّم أوروبا إذا استثنينا ثلاثة قرون، كان الإنجيل أكثر الكتب شيوعًا خلال ألف وخمسمائة عام، ولا يزال حتى اليوم كذلك.»
وتحدَّثنا فيما حقَّقوه في الفنون الخلَّاقة؛ في الموسيقى مثلًا، وهي الصورة الفنية السائدة في عصرنا، أو كانت كذلك حتى العقد الثالث من القرن العشرين. إنهم يُقدِّمون لنا في الموسيقى مُؤلِّفين من الطراز الأول، من مندلسن إلى أرنست بلوخ، ووفرة من العازفين، فنانين لامعين في الأداء، وبخاصة في عشرات السنوات القلائل الماضية، من عازفين على كمان، إلى عازفين على البيانو، إلى قواد الأوركسترا. كما قال هوايتهد إنهم أنتجوا بعضًا من علماء الرياضة الممتازين.
وكنت أترقب دوري في الكلام لأسأله رأيه في تقدير المستقبل لأعمال لورنس لول: «ماذا كان اسم سابقه؟»
– «إليوت.»
– «لقد قام إليوت بعمل نافع جدًّا. إنه حطَّم التقليد الكلاسيكي في الكلية الأمريكية، وما كان للكلية هنا أن يكون لها معناها في أوروبا لأنكم بعيدون جدًّا عن مصادرها، ليس لكم اتصال جغرافي مباشر بالمدينة الإغريقية الرومانية القديمة، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، ولكنكم لا تتصلون كذلك بعالم العصور الوسطى الذي نقل هذه المدنية، ثم إن العلوم الإنسانية — كما تُدرَّس في الجامعات وكما تُشتَق من اليونان والرومان — تفصل حياة التأمل عن العالم العملي الذي ينشأ في مجتمع به رقيق، إن الرقيق يقومون بالجانب الأكبر من العمل اليدوي، ولا بد من تدريب اليد والذهن معًا، وقد فتح إليوت مجال الدراسة كله للاختيار وأبقى عليه مفتوحًا فترة من الزمن. وأخيرًا، وفي الوقت المناسب جاء لول، فوفَّق بين الجوانب المختلفة، وقد جاء بُعَيد اللحظة الصحيحة، وكان ما قام به عملًا جريئًا شاقًّا.»
قلت: «يُقال إن الرئيس المُتقاعِد إليوت قد قال إنه بعدما كرَّس حياته لتحويل هارفارد من كلية إلى جامعة، كرَّس لول حياته لتحويلها من جامعة إلى كلية مرة أخرى. وربما لم يقُل بذلك إليوت، وربما كانت المُقابَلة مُجحِفة.»
فقال هوايتهد: «لقد عُنِي لول كذلك عناية كبرى بالمدارس العليا، وقام بعمل آخر كانت الحاجة إليه ماسة، وهو إسكان الشبان.»
قلت: «كنا في القرن التاسع عشر نضع نُظُمنا الجامعية على غرار النُّظم الألمانية. أما في القرن العشرين فالظاهر أننا بدأنا ننقل عن الإنجليز، وإني لأعجب على أية صورة سوف تكون نُظُمنا.»
– «لست من أولئك الذين يُقلِّلون من شأن ما يعمل في جامعات الولايات الكبرى في الوسط والغرب الأقصى؛ فهناك محاولات أكثر للتوفيق بين الدراسة النظرية والحياة العملية. وأعتقد أن هتشنز في شيكاغو كان على خطأ شديد حينما هزأ منها لما فيها من دراسات في المهارات العملية، وبما كانت بعض الدراسات التي أسماها «مهارات عملية منزلية» سخيفة — لست أدري — بيدَ أن المبدأ ليس سخيفًا. أما هنا في الشرق، فالعلوم أفضل من الدراسات الإنسانية لوجود العمل في المَعامل، عمل يُؤدَّى ويُختبَر، ويبلغ حد الدقة، ولا يُترك مُعلَّقًا في الفضاء.»
– «إن اهتمام لول المعروف بقسم التاريخ واللغة الإنجليزية هو — كما أفهمه — محاولة للقيام بعمل شبيه بما تقوم به أكسفورد في دراسة اللغة الإنجليزية، ولكن السؤال لا يزال قائمًا: كيف يمكن ربط هذه الدراسات بالحياة العملية؟»
قال: «أرجو ألا تحسب أني أقول إن الإغريقية واللاتينية ليستا من الدراسات الممتازة لمن يُدرِك معناهما. وإنما أردت أن أقول إنكم في أمريكا — وأنتم على مَبعدة من الاتصال المباشر بالمدنيات القديمة والوسيطة — إنكم في حاجة إلى مزيد من الخيال عما يلزم لجميع الطلاب، إذا استثنينا قلة منهم؛ لكي تُدرِكوا كُنه العوالم القديمة من الكتب. إن زملاءكم في أكسفورد — سر رتشارد لفنجستون على سبيل المثال — يقرءون اليونانية واللاتينية دائمًا باحثين عن أثر ذلك في حياتنا اليوم، وكيف نستطيع أن ننتفع به في العالم الحديث؟»
– «كان سر دافيدروس، الذي قَدِم إلينا في عيد الميلاد، يتحدث عما لام به أحد النُقاد الجامعات الأمريكية — وأظنه أبراهام فلكسنر — وقال إنه كان يكتب ويفكر كأن الجامعات إنما تنشأ للدارسين الباحثين وحدهم، أو إذا لم يكن ذلك، فلِكي نُخرِج الباحثين؛ في حين أن عدد الطلاب — كما قال — الذين يلتحقون بالجامعة، من المُؤهَّلين لأن يُصبِحوا من العلماء الباحثين أو من العلماء قلة صغرى. وهل يقوم النظام الجامعي بأسره من أجل هذه القلة؟»
وهنا أُثيرَت مواطن الضعف عند لول.
فقال هوايتهد: «إن به عيوبًا، وقد عرفته جيدًا لعدة سنوات، وأستطيع أن أرى هذه العيوب؛ منها أنه لا يفهم الرجال المُتهيِّبين، ويحسب التهيُّب مذلة.»
وأضافت إلى ذلك مسز هوايتهد قولها: «وهو يصيح في وجه المُتهيِّب. حدِّث لوشيان يا أولتي عن تلك الخبرة التي مرت بك مع رجل مُهذَّب مُتواضِع أراد أن يعرض أمرًا على لول.»
ولما خشيت ألا يتحدث في ذلك زوجها، أخذت تقص القصة، قالت: «إن هذا الرجل جاء إلى هوايتهد ليقول له: «لا أستطيع أن أعرض ذلك على لول، إنه يصيح في وجهي. فهل تستطيع أنت؟» فأجابه هوايتهد قائلًا: «كلا، ولكني سأصحبك.» وقد فعل. وبعث تهيُّب صاحبنا الضيق في نفس لول فصاح في وجهه ثلاث مرات، وفي كل مرة يرفع هوايتهد يده قائلًا: «تريَّث!» وأخيرًا استطاع الزائر أن يعرض قضيته، ولما كان هوايتهد مستشاره، فإن لول لم يغضب.»
وقالت مسز هوايتهد: «إنه أعجب الديمقراطيين. إنه لا يستطيع أن يُمارِس الديمقراطية بشخصه، ولكنه يعتقد فيها اعتقادًا جازمًا.»
وأضاف زوجها إلى ذلك قوله: «وأحكامه كأحكام رجال الدولة.»
وأدَّى ذلك إلى جدل حول بوسطن باعتبارها جزيرة للأمريكيين الشماليين في بحر أيرلندي آخذةً في الاضمحلال.
قال هوايتهد، وعيناه تتألقان بالسرور الباطني: «إن هؤلاء الأمريكيين الشماليين لا يختلطون. اليوم بعد الظهر فقط، كنت مع جماعة منهم، تضم لورنس لول، ولورنس هندرسن، وجون لفنجستون لويس — وهو من إنجلترا الجديدة، على الأقل تشبهًا بأهلها — ولن تستطيع البتة أن تتخيل من كلمة واحدة مما ينطقون أنهم يعيشون وسط مجتمع من مليون ونصف المليون من البشر، سبعون في المائة منهم على الأقل من الأيرلنديين الكاثوليك.»
فقلت له: «إن برننج، رئيس قضاة ألمانيا السابق، ذكر خلال حديث له في بيت هانز زنسر أن التربية يجب أن تُخصَّص للطبقة الممتازة.»
قال هوايتهد: «إلى خمسين عامًا مضت كانت التربية في إنجلترا محصورة في طبقة عليا صغيرة، ولم يكن أحد يفكر أن من الخطأ أن تبقى الجماهير على أُمِّيتها. أما اليوم فنحن نُسلِّم بضرورة تعلُّم الكتابة والقراءة، وكان أبي يُدير مدرسة القرية حينما بدأ الإلزام في التعليم، وكان يُلاقي أشد المعارضة؛ فإن القرويين لم يتعلموا ولم يريدوا لأبنائهم أن يتعلموا.»
فعلَّقت بقولي: «حدث في هذا البلد زحف ضخم مُفاجئ نحو التعليم بعد الحرب العالمية، واستمر هذا الزحف منذ ذلك الحين. ولما حل عام ١٩٢٦م أصبح الزحف شاملًا، واستمر في سنوات الأزمة الاقتصادية، ومع انتشار التعليم زاد اعتبار المُعلِّم.»
فقال هوايتهد: «في أوائل القرن التاسع عشر بأمريكا — كما فهمت — كان المُعلِّم والدارس والأستاذ في مكانة مرموقة، كانوا مُوحِّدين، تُحيط بهم هالة من رهبة الدين. ولما تقدَّم القرن زالت هذه الهالة؛ فإن التوحيد كان دينًا لا يدعو إلى إله واحد وإنما يدعو إلى «إله واحد على الأكثر» بل إلى «إله واحد» إذا كان ذلك.»
قلت: «زِد على ذلك أن القارة كانت مفتوحة، فتكوَّن إحساس في نهاية القرن بأن الرجل إذا كان رجلًا كما ينبغي له أن يكون، فلا بد له من جمع الثروة، وهذا ما دعا وليام جيمس إلى أن يُسمي النجاح «الكلبة المُؤلَّهة» غير أن هذه العبارة لا تسود الآن كما كانت في ذلك الحين.»
وقالت مسز هوايتهد: «لا يزال في كلياتكم «هاربون» من الحياة العملية.»
– «لست أُنكِر ذلك، ولكن رجالًا من ذوي الكفايات الممتازة لا يحترفون اليوم مهنة التعليم فحسب، وإنما يلقون احترامًا كذلك من أجل هذا.»
وحفَّزتني فقرة في مقال هوايتهد «نداء إلى العقل» إلى أن أعود إلى السؤال عما إذا كانت إحدى الولايات قد صرَّحت بالتعبير الكافي عن الدوافع الخلَّاقة عند الإنسان. إننا نرى رؤساء الولايات بين الحين والحين — برغم إنسانيتهم — لا يعملون وفقًا لدافع الخلق والابتكار عند المجتمع، وإنما وفقًا لغرائز التملك فيه.
– «كان هربرت هوفر باعتباره من طائفة الأصحاب، يُطعِم الأطفال البلجيكيين باللبن، وقد أُمِر هربرت هوفر باعتباره رئيسًا للولايات المتحدة بإلقاء القنابل المُسيلة للدموع على المُحارِبين القدماء من جيش المُنتفِعين لطردهم من واشنطن. فما هذا التناقض البعيد المدى؟»
فقال هوايتهد: «إن تقديم اللبن للأطفال البلجيكيين لا يعني قطعًا توافُر العواطف الإنسانية لديه، إنما كان ذلك عملًا تنظيميًّا قضت به العاطفة السائدة في زمانه، عملًا لا مفر من أدائه، وقد كُلِّف بالقيام به. نعم إنه من الأصحاب، ولكنه ضيق الخيال، كان عمله في وظيفته الأولى كمهندس أن يستخرج المعادن من المناجم في الداخل حتى من البحر. وأمثال هؤلاء الرجال لا يفكرون في حدود القِيم الإنسانية أو رفاهية البشر، إنما تأتي هذه القِيم — إن أتت إطلاقًا — عرَضًا في العمل الرئيسي، وهو نقل المعدن من مكانه وطرحه في مكان آخر، ولا تتجه أفكارهم إلا إلى ذلك. فلما اقتضى الأمر طرد جيش المُنتفِعين من واشنطن، نشأ موقف لا بد من علاجه بحكمة بالغة، وقد أثبت قوة قبضته الفعلية.»
– «إذن دَعني أذكر لك مثالًا آخر، وقع لنا حادث مع المكسيك في عام ١٩١٤م؛ ذلك أن أمرًا مُثيرًا قد وقع في ميناء تامبيكو، وكان أول الأمر عراكًا، ثم تحوَّل إلى نزاع حول إهانة تتطلب اعتذار المكسيكيين وتحية علَمنا، وأخذت الأمور تزداد سوءًا؛ فصدرت الأوامر لأسطول شمال الأطلنطيق بالتحرك صوب ساحل المكسيك، واشتعلت نار الشعور العام (أو هكذا على الأقل كان صوت الصحافة) وأمر الرئيس ولسن الأسطول بمهاجمة فيراكروز والاستيلاء عليها، وقد فعل، ومات في سبيل ذلك سبعة عشر فتًى؛ ستة عشر من القوة البحرية وأحد البحارة (ومات بعد ذلك ببضعة أيام رجلان مُتأثِّرَين بجراحهما). وقبل ذلك بست سنوات فقط لم يكن مستر ولسن رئيسًا للولايات المتحدة، إنما كان رئيسًا لكلية جامعية في برنستن، رجلًا إنسانيًّا مُهذَّبًا كأي زميل من زملائك هنا، يحزن إذا مات سبعة عشر طالبًا مُستجَدًّا في فصله على أثر وباء. وجيء بالجُثث إلى فناء الأسطول في بروكلن تحملها طرادة مسلحة، وسارت النعوش مُغطَّاة بالأعلام في أرض الاستعراض في مناسبات مختلفة. وجاء الرئيس من واشنطن ليُلقي كلمة التأبين، فقال إنه يغبط هؤلاء الشبان. وكان ولسن الموظف الذي أصدر إليهم الأمر بالهجوم، وكان ولسن الرجل هو الذي ينظر إلى النعوش السبعة عشر. وأذكر أن ذلك كان في شهر مايو من عام ١٩١٤م، وهو يتنبَّأ بالحرب العالمية أكثر من أي إنسان آخر، فلم يكن عالمنا قد قسا قلبه بعد بمرور سنوات عديدة من القتل الجماعي. وكانت أمثال هذه الحوادث تُقابَل بالشعور العادي؛ فتحطم قلب المستر ولسن. إنما أردت أن أقول إنه كرئيس كان لزامًا عليه أن يعمل مُمثِّلًا لصالح الملكية الجماعية بطريقة لا يرضى عنها كإنسان. إنما كان جانب من الرجل فقط هو الذي يعمل كرئيس؛ لأن جانبًا من الرجل فقط هو الذي تنتظمه الدولة.»
فأجاب هوايتهد بأن الرجال داخل الدولة يُتابِعون مشروعات عديدة مشتركة تُعبِّر عن أوجه أخرى من طبائعهم؛ تربوية، وخيرية، وخلَّاقة، وفنية، واجتماعية. وربما كان من وظيفة الدولة حتى الآن أن تُهيئ ظروفًا من الهدوء الكافي الذي يمكن أن يُمارِس فيه المرء هذه الضروب المُتنوِّعة من ألوان النشاط. وكثير من هذه الألوان — كالعلم والتربية — أصبحت بالفعل دولية، تتجاوز حدود الولاية.
وكان ما قاله في مقاله «نداء إلى العقل» هو: «إن كل كائن بشري بناءٌ أشد تعقيدًا من أي نظام اجتماعي ينتمي إليه. إن أية حياة جماعية مُعيَّنة لا تمس إلا جانبًا من طبيعة كل فرد مُتمدِّن، وإذا خضع المرء خضوعًا كليًّا للحياة العامة ضمرت شخصيته. إن الجماعات تنقصها دقائق الطبيعة البشرية، والحرب قد تحمي ولكنها لا تخلق.»
وخلال مناقشتنا لهذا قال فيما بعد: «ليس واجب الحكومة إرضاء كل إنسان وإنما واجبها على الأقل إرضاء شخصٍ ما. إذا أرضَت طبقة واحدة لها نفوذ معقول، أو طبقتين، حاولت أن تُبقيها في الحكم، وكلما زاد عدد الطبقات التي تُرضيها زادت صلابتها. إن المدنية لا تنهار إذا انحرفت ناحية واحدة كبرى أو ناحيتان من نواحي النشاط، ولكن الاقتصاديات في عصرنا قد تضخَّمت حتى باتت مشروعات جماعية عظمى أتت بلون جديد من الظلم يحتاج إلى المعالجة، وأفلت من أيدينا عيار القومية، وتمزق إيماننا بالدين. ويبدو أن مدنيتنا بين هذا وذاك قد باتت في مأزق.»
قلت: «إن حكم الإمبراطور دوميشيان قد تأثَّر أثرًا سيئًا من تاستس، وهو من غير شك يستحق ذلك، ولكن بالرغم من أنه من الواضح أن وحشية الإمبراطور قد شلَّت الفكر الروماني مدى جيل على وجه التقريب، بحيث لم يطمئن أحد من النبلاء على حياته، إلا أن عجلة الحياة العامة واصلت دورانها، وربما لم يكن ذلك من عمله، ولكنه حدث على كل حال.»
فقال هوايتهد: «كان تاستس يمقُته مقتًا شديدًا، وكنت دائمًا أعتقد أنه من المُحافِظين، يكره — نيابة عن طبقته — في دوميشيان ترقيته إلى مناصب السلطة الإدارية شرذمة من الأشخاص المغمورين، من الإغريق المُتحرِّرين ومن إليهم.»
– «إذا كان اليهود لم يضحكوا إلا قليلًا حتى العصور الحديثة نسبيًّا، فما رأيك في الرومان؟ إننا لم نسمع ضحكاتهم كذلك، على الأقل حتى القرن الثاني قبل الميلاد، كانوا في القرون الأولى في قتال مستمر، آنًا مع الكلت، وآنًا مع أهل قرطاجنة، ولما بدءوا يضحكون؛ أي لما ظهر الضحك في أدبهم، ألم يكن من قبيل التهكُّم، أو الاستمتاع بمصائب الآخرين؟»
وانطلق هوايتهد يقول: «كان الرومان قومًا عجيبين …» وفكَّر قليلًا، ثم صمَّم على ترك الموضوع.
قلت: «إن موهبة الإغريق في الضحك، بما فيه ضحكهم على أنفسهم أدعى إلى العجَب، إذا عرفنا أن العالم القديم لم يعرف إلا قليلًا من الضحك فيما يبدو.»
قالت مسز هوايتهد: «ولكن أمريكا لا تُهيئ لكم إلا قليلًا من الفرص لكي تدرسوا الإغريق؛ لأنكم أنتم أنفسكم كالإغريق، تخلقون عالمًا جديدًا.»
قال هوايتهد: «حقًّا ما قلت. وإن آخر ما كان الإغريق يفكرون في عمله هو أن يقرءوا عما يفكر فيه سواهم، أو يفعل، أو يقول.»
ولكي نضحك قليلًا نحن أنفسنا، بدأنا نستعيد ذكرياتنا الباكرة التي نعيها، وكان من ذكرياتها «أني عضضت أُذن أبي، فلكمني لكمة شديدة من أجل ذلك». ومن ذكرياته أنه وهو طفل في الثالثة من عمره يتناول وجبة في مطعم سويسري، أحس بالعطش الشديد، فأخذ يشرب كوبًا من الماء تلو الآخر، حتى رآه رجل كان يجلس تجاهه، فقال له: «أيها الطفل الصغير، لا ينبغي لك أن تشرب هذا القدر الكبير من الماء.» «وعلى أثر ذلك تناولت ملعقة، ورميته بها، وأصبته في فمه! وتصرَّف أبي تصرُّفًا عاقلًا فلم يُعاقِبني؛ أولًا لأنه سُر مما رأى، وثانيًا لأنه ظن — فيما أعتقد — أن الرجل لاقى ما يستحق.» وقد ذكر هوايتهد هذه الحادثة مثالًا ﻟ «الذاكرة الكاذبة»؛ «فقد أُعيدُ ذكرها على مسمعي مرارًا كلما كبرت، فلما بلغت التاسعة استطعت أن أُصوِّر لنفسي المنظر كله كاملًا وظننت أنني أتذكره.»
قلت لهما لا بد أنهما كانا طفلَين عنيفَين.