المحاورة الخامسة عشرة
١٧ من يوليو ١٩٣٩م
كان آل هوايتهد يُقيمون مع مستر ومسز إدوارد بكمان في مزارع ددلي ببدفورد هربًا من قيظ الصيف في كمبردج، وبكمان هذا من أسرة المُؤرِّخ موتلي، درس القانون، ثم اشتغل ضابطًا بحريًّا أثناء الحرب، واتجه نحو كتابة التاريخ، وأخرج كتابًا تحت عنوان «عقلية العالم المسيحي اللاتيني»، نُشِر منذ عامَين.
وكانت مزارع ددلي ملكًا للأسرة من قبل الثورة، وبالمزرعة بيت ريفي من الطوب ذو سقف مُستدير، به المداخن الطويلة الأربع المألوفة، اثنتان منهما في كل جدار مُتطرِّف، ويرجع تاريخ البيت إلى عام ١٧٩٥م، وبقيت للبناء بساطته برغم إضافة أجنحة جديدة إليه ومنازل للضيوف، والطريق إليه يتفرع من الطريق العام ويتخلل غابات ومَراعٍ تكاد لا تنتهي، تتوسطها أشجار الصنوبر هنا، وبِركة هناك، وما يُسميه أهل كنكورد «حديقة مُستنقَعة»، وكل ذلك يُشبِه حديقة طبيعية مما تراه في إنجلترا الجديدة، وعلى طول الطريق إلى كنكورد ضِياع شبيهة بهذه، تمتد بحذاء الشاطئ مُتلاصِقة، ويُعرف هؤلاء الجيران ﺑ «عائلة النهر».
وكان هناك تيودور سبنسر. وهذا العالم الفارع الطول، الأشقر اللون، لطيف المَعشر، ظهر من عهد قريب في قصة مُغامَرة تُمثِّل العصر الذي نعيش فيه، حينما يحدث أي أمر لأي إنسان، وقد أُحيطَ علمًا على حين غِرة مع كثيرين غيره من أعضاء هيئة التدريس بهارفارد عن طريق الرئيس كونانت بأن وظيفته كأستاذ مُساعِد للغة الإنجليزية التي كان يشغلها بعقد لمدة ثلاث سنوات، لن تتجدد. وثار الشعور عامة، وقال رأس من الرءوس العلمية القديرة في البلاد: «إنني قد لا أعرف كثيرًا في الإدارة، ولكني أشك — إذا قضيتم على عيش عشرة رجال ذات صباح — أشك أنكم تستطيعون بعد هذا أن يسير معهدكم كما كان من قبل.» وهو شك أيَّدته الحوادث في السنوات الثلاث المُتتالِية، وكانت النتيجة مُذهِلة؛ فقد عُيِّن الأستاذ سبنسر أستاذًا زائرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة كمبردج لعام ١٩٣٩-١٩٤٠م. ولما اندلع لهيب الحرب العالمية الثانية كان على هذه الجامعة أن تملأ وظيفة أستاذ زائر بهارفارد، فأعادت تعيين سبنسر ليشغلها، فعاد إلى أحضان جامعته الأولى، وكان ذلك صورة من صور الحياة، غير أن هذه المهزلة التي عرفها أصدقاء سبنسر كإحدى سخريات الحياة الصغرى، لم يتم منها غير الفصل الأول في ذلك الحين، وكانت روحه الفكاهية كفئًا لها، وإن كان في بعض الأحايين يجدها كئيبة إلى حدٍّ ما.
وكنا اثنَي عشر على مائدة العشاء، وحجرة الطعام عبارة عن مطبخ من مطابخ القرن الثامن عشر، مُزوَّد بموقد كهفي وأفران من الطوب، وتُفتَح الحجرة من جانبها الخارجي على أرض خضراء، هي الحديقة، وبها بِركة مُستديرة تحت أشجار الدردار، وتتصل الحديقة بمَراعٍ فسيحة هادئة تنحدر صوب تيار النهر الساكن، ويقول هوايتهد إنه لا يمل التأمل فيها.
ونشط الحديث، ولكن لما كان المُتحدِّثون كثيرين، والكلام ينتقل في سرعة خاطفة، لا يمكن في بدايته إلا أن نُلخِّصه؛ قيل إنه في أي اجتماع له صفة بارزة مُعترَف بها في هذه الجهة يرجح أن تجد أكثر الأفراد مَدينين بمكانتهم؛ لا لكونهم خلَّاقين من تلقاء أنفسهم، ولكن كمُديرين لمعاهد ثقافية — في كلية، أو جامعة، أو دار من دور النشر، أو متحف، أو معهد للموسيقى، أو حكومة الولاية، أو مكتبة، أو مستشفى، أو جماعة دينية — وتساءل الحاضرون عما إذا كانت المدنية في أمريكا قد بلغت حدًّا يُمكِّنها من تطبيق القدرة الإدارية والاستفادة منها، ولكنها، لا تزال بعيدة عن أن تكون «قوة ابتكارية» حقيقية، على حد تعبير هوايتهد.
ومن هنا، ولما كان آل البيت موسيقيين، وكان على مائدة الطعام موسيقيون، انتقل الحديث إلى حقيقة فريدة لم يتنبه إليها إلا قليلون، وهي أن كثيرًا، إن لم يكن أكثر المؤلفين الموسيقيين الممتازين في أوروبا، ومنذ حداثة باخ إلى وفاة براهمز، وهي فترة تمتد لمائتَي عام، كانوا رجالًا يعملون في أكثر الأحيان خارج المعاهد، وليس ذلك فحسب، ولكنهم — كذلك — لا يدينون إلا بالقليل للتعليم الرسمي المعهدي، وهذا أدعى للعجب الشديد؛ لأن الموسيقى هي الصورة الفنية الوحيدة التي تفوَّق فيها عالمنا منذ عام ١٧٠٠م على كل فترة أخرى. وماذا كانت النتيجة؟ إن الينبوع — فيما يبدو — قد ينحدر لكي يتدفق خلال الحوض المرمري الذي أُعِد له، وإن ريح الروح الخلَّاقة تهبُّ حيث شاءت.
وهنا أشار أحد الحاضرين إلى أن عام ١٨٥٩م كان قمة القرن التاسع عشر، وبدأ حديث المائدة يتجه نحو تأييد هذا الرأي، وذكر الحاضرون عددًا لا بأس به من جلائل الأعمال؛ أصل الأنواع لداروين، ومقال في الاقتصاد السياسي لكارل ماركس، وقصة المدينتَين لدكنز، وآدم بيد لجورج إليوت، ومحنة رتشارد ففرل لمرديث، وآل فرجينا لشاكري، وأناشيد الملك لتنسن، ورباعيات فتزجرالد، وترستان أوند أسولد لفاجنر.
(ثم كانت فترة توقُّف حتى شرع القرن العشرون يُحاوِل مجاراة هذا النجاح.)
ثم تبع ذلك نقاش حول موضوع يبدو أنه يبهَر أنظار القوم في هذا البلد، وهو تفوُّق الأشخاص غير المُتعلِّمين. وقد لفتت هذه الفكرة نظر بكمان بشدة خلال خبرته أثناء العمل بالأسطول، ولكنه قال إن نُقَط الضعف الثلاث فيهم هي عادةً عدم القدرة على بُعد النظر، واتخاذ طريق مُعيَّن وملازمته عدة سنوات، والميل إلى خلط الأمور العامة بالأمور الشخصية.
فقال هوايتهد: «إن جمهور الناس هو الذي يُحدِّد الاتجاه العام للمجتمع على الأرجح، ولكن عظماء الرجال في المجتمع هم الذين يُكسِبون هذا الاتجاه هدفه الصحيح؛ فإذا استعرنا السفينة للتشبيه، قلت إن الجماهير هي المركب والبحَّارة والنابغة هو القائد. إن عدد المواليد في أي سنة في بلد باتساع الولايات المتحدة لا بد أن يسد الحاجة إلى المواهب الكامنة الضرورية لأي لون من ألوان التقدم الثقافي.»
فسألت مسز بكمان مُتلطِّفة: «هل لا بد من ذلك في كل عام على حِدة؟»
فقال هوايتهد مُبتسِمًا: «أقول خمس سنوات. وذلك يُعزِّز وجهة نظري، ولكن من الواضح أن الظروف قد تحُول دون ازدهار ألوان مُعيَّنة من المواهب مثل موهبة المُؤلِّف الموسيقي في الولايات الغربية خلال القرن الماضي. ومن الواضح أن الفرصة لا تسنح لظهور قائد عسكري أيام السِّلم.»
فقال سبنسر: «كان جرانت فاشلًا، مُدمِنًا على الشراب، يعيش في كوخ خشبي خارج سنت لويس حتى عام ١٨٥٩م، وهي تلك السنة الحرِجة في القرن التاسع عشر، وبعد أربع سنوات أصبح بطل فكسبرج، وبعد تسع سنوات رئيسًا للولايات المتحدة.»
فقال بكمان مُخاطِبًا هوايتهد: «صادَفه في ذلك الحظ، بل وأكثر من الحظ، وكثيرًا ما حدَّثتنا يا ألفرد عن عنصر الحظ في حياة الناس. كان «لي» يحمل درجات الشرف في وست بوينت، ودرس نفس الكتب المُقرَّرة التي درسها قُواد الشمال، وعرف أي التحركات كان يحتمل أن يقوموا بها، وكان يبزُّهم. أما جرانت فلم يتوقع ظهورَه أحد.»
وانتقلت جلسة مائدة الطعام إلى حجرة الجلوس، وقد أُعِدت لتُؤدِّي ثلاثة أغراض؛ لأنها كذلك حجرة الموسيقى والمكتبة؛ وهي حجرة فسيحة مرتفعة، سقفها من المصيص يستند إلى دعائم مفتوحة، والمفارش في الحجرة قليلة حتى لا تُطفئ روعة الألوان، وبالحجرة بيانو ضخم، ورفوف الكتب مُكتَظة بها، يبلغ عددها نحوًا من أربعة آلاف مجلد، وفي الطرَف الداخلي موقد ضخم، حوله مجموعة من المقاعد كالمعتاد، وعدد من الكراسي، والموائد الصغيرة على الجانبَين المُتقابِلَين من المدفأة، والجدران الشرقية والجنوبية تُطِل على الحقول من نوافذ ضخمة على الطراز الفرنسي.
وانتقل الحديث إلى السبب في أن إنجلترا في القرن التاسع عشر كانت في عهد يُلائم كُتاب الروايات النثرية خاصة، والأثر القوي الذي كان لهؤلاء الكُتاب في نقل القانون العرفي إلى الشعب.
وقال سبنسر: «كانت «مدلمارش» أُولى الروايات التي قرأتها في شبابي، والتي جعلتني أُحِس أنني أُعامَل معاملة الرجل، وأثلجت صدري لأني شعرت أن الحديث يُوجَّه إليَّ دون خداع عاطفي.»
وسألت مسز هوايتهد قائلةً: «أي أجزاء الرواية تعني؟»
– «موضوع لدجيت وفنسي، ذلك الزواج القاتل.»
قالت: «عرفناهما في كمبردج.»
– «كيف لم تعرف ذلك، وقد عرفه كل إنسان». ثم عدَّدت مسز هوايتهد الأسماء.
وأثار سبنسر السؤال عما إذا كانت شهرة جورج مرديث في وقت من الأوقات قد كتب لها الدوام.
فقال هوايتهد: «لا أظن ذلك.»
– «ما الذي سيقضي عليه؟»
– «كان يعيش في وسط أدبي مرتفع، يبتعد عن الحوادث الجارية، ويخلق شخصياته من تأملاته، وحينما يفشل الكاتب المُجيد، فالراجح أن ذلك مَرده إلى زيادة انشغاله بالأفكار الأدبية البارعة، وابتعاده عن الموضوعات الإنسانية العامة الشائعة. خُذ شكسبير مثلًا؛ إنك قلما تجد عنده فكرة — أو موقفًا — من غير المألوف، غير أن اللغة والخيال تجعل هذه الفكرة أو ذلك الموقف شيئًا رائعًا. يجب أن تكون هناك موضوعات عامة إنسانية مما يهتم به كل إنسان، وأن تُعالَج معالجة حية.»
قالت مسز بكمان: «إننا نقرأ جهرًا في أسرتنا، وقد تبيَّن لي أن الشباب عندنا لا يهتمون بمرديث، ولكنهم يهتمون بهنري جيمس. إنهم لا يجدون عباراته الملفوفة عسيرة على أفهامهم، وهم يستطيعون مُتابَعة دخائل فكره. إنه كان ولا شك أشد غوصًا في حدود الرقعة الضيقة التي كان ينبش فيها. إنه يكشف عن مميزات الفرد.»
وسأل سائل: «متى بدأ في التاريخ لأول مرة تقدير الشخص لذاته؟»
قال هوايتهد: «كنت أحسب أن ذلك بدأ بأصدقائنا القدامى؛ الرُّسل، بيدَ أن ذلك لا يشفي؛ فقد كانوا خاضعين للعقائد الدينية.»
– «هل نُجيب عن هذا السؤال، إذا قلنا إن تقدير الفرد قد بدأ بالإغريق، كما يدل على ذلك قول بركليز في رثائه: «إننا لا نقسو باللفظ ولا نحقد بالنظر على أولئك الذين يستمتعون بحياتهم على طريقتهم الخاصة.» متى بدأ ظهور فكرة الحرية؟»
وكان ذلك مَبعثًا لنقاش عام، ولكن دون أن نُجمِع على رأي، وربما كان ذلك راجعًا إلى كثرة المشتركين في الجدل. وكان مما قاله هوايتهد إن من بين مُفكِّري القرن الثامن عشر من تنبَّأ في جلاء بأن ظلم الأغلبية قد يكون أشد عسفًا من ظلم الحاكم المُستبِد.
وواصل حديثه قائلًا: «إن المُؤرِّخين لم يقدروا قط الرجل الذي يتفادى الكارثة حق قدره، ويحضرني الآن في ذهني أغسطس قيصر. إن عجبي لم ينقطع من أن روما قد استطاعت أن تُخرِج رجلَين عبقريَّين كيوليس وأغسطس، والبلاد في أشد الحاجة إليهما. لا بد أن الشعب كان يريد النظام والمدنية من صميم قلبه؛ لأن كتائب الجيش كان أكثرها على الحدود، ولم تكن الثورات داخل البلاد في حاجة إلى جند كثير لقمعها.»
قلت: «لقد عانى الرومان من أمثال هذه الثورات خلال الحرب الأهلية التي دامت مائة عام بأكثر مما فيه الكفاية، وكان الناس في حالة من حالات اليأس، فقد كابَدوا من تلك المُنازَعات الثنائية المُريعة، بين ماريوس وسلا في أول الأمر، ثم بين قيصر وبمبي، وأخيرًا بين أنطوني وأغسطس، ولم يكن البتة من المُؤكَّد أن هذه المنازعات ستنتهي في يوم من الأيام.»
ووجَّه بكمان الحديث إلى هوايتهد قائلًا: «إنهم كانوا أكْفاءً لهذا الجهد، وانتهت المنازعات في آخر الأمر، وسمعتك تقول إن ذلك يرجع إلى أن الرومان لم يسأموا بعدُ من حضارتهم.»
وأجاب هوايتهد بقوله: «وما زلت عند رأيي. إن جلوسنا هنا، في الأزياء التي نرتديها، وبوحنا ببعض أفكارنا، يرجع إلى حدٍّ ما — فيما أظن — إلى أغسطس. لقد وجد السبيل إلى الاحتفاظ بكيان الإمبراطورية باتباع نظام الإمارات، كان يكلُ إلى الرجال من جميع الأحزاب أعمالًا ذات تبعات، وكانوا يحملون هذه التبعات، وكانت بلاد الغال هادئة. أما ألمانيا (وهنا ارتسمت على شفته ابتسامة) فكانت بالأمس — كما هي اليوم — مشكلة المشكلات.»
قلت: «إنهم لم يعرفوا السلام قط. ولا عجب في ذلك؛ فإن الغابة الألمانية كانت تستغرق مَسير تسعة أيام من أحد طرفَيها إلى الطرَف الآخر، في ظلام، ورطوبة، حيث لا تُوجَد طرق أو مدن، ورجال القبائل دائمًا على أهبة للهجوم. وكانت بلاد الغال تسبق التيونون ثقافيًّا بعدة قرون.»
وسأل هوايتهد: «وهل كان للغال أدب في ذلك الحين؟»
– «لست أذكر لهم أدبًا قط، اللهم إلا إذا نسبت إلى الغال الفضل في «مذكرات» قيصر. والفارق هو أن قيصر كان يجد في الغال طرقًا يقطعها مُسافرًا، ومحصولات يعيش عليها، ومدائن وممتلكات يُرغِم السكان على الاحتفاظ بها والدفاع من أجلها. أما في ألمانيا فقد كان على كتائب الجيش أن تشق طرقاتها، وتحمل معها مئونتها.»
فقال هوايتهد: «ثم حلَّت كذلك تلك الكارثة المُروِّعة بألمانيا؛ فقد هلك فاروس، وهلكت معه ثلاث كتائب هي خير ما في الجيش الروماني.»
وردَّد بكمان تلك الصيحة اليائسة التي صرخ بها أغسطس، وهي: «رُد إليَّ كتائبي يا تونتيليوس فاروس.» ثم أضاف إلى ذلك وهو يبتسم قوله: «إننا ما زِلنا نُعاني من فقدان تلك الكتائب الرومانية في ألمانيا على أيدي فاروس.»
وأجابه هوايتهد حادًّا بقوله: «يُحتمَل كثيرًا أن يكون الأمر كذلك.»