المحاورة السادسة عشرة
١٨ من يوليو ١٩٣٩م
في الساعة العاشرة من هذا الصباح يعود آل هوايتهد إلى مَسكنهم بفندق أمباسادور في كمبردج، يقضون به ليلة حتى يأتيهم نورث لينقلهم إلى «جزيرة باتلشب» في بحيرة سباجو بالمين.
وقبل الرحيل، أراد هوايتهد — وقد لبس سترته وقبعته — أن يخرج إلى الحقل المُنحدِر فوق النهر ليُلقي نظرة أخرى على المنظر الذي أحبه حبًّا جمًّا، ورافقته أنا وبكمان، وإذ نحن واقفون بالحقل نُسرِّح الطرْف في الطبيعة، ونُرسِله إلى تيار كنكورد الساكن النائم، عاد بالحديث إلى موضوع ما يُحقِّقه الشاعر لنفسه من فائدة.
قال هوايتهد: «فائدته في تدوين فكرته؛ كان عنده موضوع ليس له صيغة، يصوغه في أبيات من الشعر، ثم يصيح فرحًا ويقول: «ها أنا ذا قد وجدتها!»»
– «وهل للثناء قيمة كبرى عند الشاعر؟»
قال: «لا بد لهم منه فيما أعتقد، وإلا فكيف يعرفون أنهم أصحاب نفوذ؟ ومن السخف أن نزعم أن الرجل يُحسِن المحاضرة إذا كان نصف مُستمعيه نيامًا. إن الاستجابة ضرورة لا بد منها.»
– «إنها قد تكون مُخدِّرًا كذلك.»
فاستدرك هوايتهد قائلًا: «إنها ضرورة للفنانين الثانويين، وللمُمثِّلين والمُخرِجين. أما الشاعر فيجد ثناءه في الأداء ذاته، وهو يعرف متى يكون مُجيدًا، ويعرف متى يبلغ حد الإعجاز! حتى في الحديث العادي. ولست أقصد به الآراء التي صُغناها في أذهاننا أولًا صياغة دقيقة، ثم أكسبناها لفظًا، وإنما أقصد الآراء اللاشعورية التي تنبعث تلقائيًّا من اللاشعور في ألفاظ دون إقحام أية عملية من العمليات ذات الأثر التي نعرفها، وذلك أشد ما يدعو إلى الدهشة، ولم يُفسِّره لنا أحد قط، ولا يعرف أحد العلاقة بين هذه التأملات اللاشعورية وترجمتها المُباغِتة إلى كلام.»
ثم اتجه الحديث نحو جيته.
فقال هوايتهد: «طرأ لي أخيرًا أن تفكير جيته خاص جدًّا، وأن العالم يكون أكثر تقدمًا بالعواطف الثانوية السليمة الصحيحة المعقولة التي عبَّر عنها شلر. إن هذه العواطف لا ترتفع قط فوق مستوًى مُعيَّن، ولكنها آمنة مُفيدة.»
وعلَّقت بقولي: «قال لي صديقنا لفنجستون ذات مرة إنه لم يحفل بجيته لأنه «لم يكن رجلًا مُهذَّبًا». وبعد ثلاث سنوات ذكَّرته بقوله هذا، فانفجر ضاحكًا وصاح: «هل قلت ذلك؟ إنني لأعجب ماذا كنت أعني.»
فقال هوايتهد: «كان جيته يُوغِل في العواطف الخيالية بدرجة غير مألوفة، وإني لأشك خاصة إن كان العالم يتقدم بهذه العواطف الخيالية.»
وكانت رحلتنا إلى كمبردج ذات صباح مُشرِق في يوم من أيام الصيف، وتحدَّث هوايتهد وزوجه عن أسفهما لاضطرارهما إلى التخلي عن أمسيات أيام الآحاد التي كانا يُخصِّصانها للطلبة.
وقالت مسز هوايتهد في هذا الصدد: «حينما قدِمنا إلى هارفارد لأول مرة، قال زملاء أولتي في القسم: «لا تُمكِّن الطلبة من التدخل في عملك! إن عشر دقائق أو خمس عشرة تكفي لأي نقاش معهم.»»
وزاد على ذلك هوايتهد وهو يبتسم مُبتهِجًا: «تذكَّري أن أكثرهم كان من الخريجين، مشكلاتهم التي يعرضونها للنقاش نفسية مُعقَّدة.»
– «وكيف كنت تتغلب عليها؟»
فأجابت بقولها: «كان أولتي يرد عليها بصوته العذب، الذي يصدر عنه دائمًا حينما يُصمِّم بصفة خاصة أن يُعالِج الموضوع بطريقته، وكان يقول: «إن عاداتي قد تجمَّدت، وأخشى أن يكون الكِبَر قد بلغ حدًّا لا يُمكِّنني من تغيير أسلوبي، وعليكم أن تصبروا معي».»
– «سمعت عن اجتماعات أمسيات الآحاد عندكم قبل أن أتعرف إليكم بسنوات عدة، وكنت أتوق دائمًا إلى حضورها.»
قالت: «ولماذا لم تفعل؟ لقد قيل لنا إن أحدًا لن يرغب في الحضور. ولم يحضر أحد بالفعل في أول أمسية، إذا استثنينا رجلًا صينيًّا بقي معنا إلى ما بعد منتصف الليل، وكِدنا نفشل فشلًا تامًّا! ثم بدءوا يفِدون علينا ستةً ستة؛ كي يحتمي كل منهم بالآخر فيما أظن. وأخيرًا ذات مساء استمعوا إليَّ وأنا أُجادِل الحكيم، في نقطة كنت أعرف أن أولتي قد أخطأ فيها، وتبادَلنا أطراف الجدل وأخيرًا أقر أولتي بخطئه، ولسبب لا ندريه انتشر نبأ هذا الجدل؛ فبدأ الضيوف يتوافدون، ولم يزِد عدد الزائرين في أية ليلة عن بضعة وتسعين، ثم نمى الخبر إلى اليهود فجاءوا أسرابًا، وتباعَد من عَداهم، واستمرت الحال على ذلك عامَين، نقضي مع اليهود وقتًا طيبًا دون من هم على غير دينهم، ثم عاد هؤلاء إلى زيارتنا وعادت الأمور كما كانت، وكان فلكس عونًا كبيرًا في هذه المجتمعات؛ إنه لم يتكلم، ولكنه حث الآخرين جميعًا على الكلام. ولم يستطع أصدقاؤنا أن يُصدِّقوا أنني لا أرضى بإلغاء أمسيات الأحد هذه في سبيل حفلات العشاء التي كانوا يُقيمونها للمشهورين من الأجانب، بيدَ أنَّا لم نتخلَّ مرة واحدة عن طلابنا.»
وبلَغْنا فندق أمباسادور.
فقالا: «ألا ترغبون في الدخول معنا؟»
وكانت أرجاء المسكن مُغطَّاة بالورق لحلول فصل الصيف. وقد حدث ذلك فعلًا؛ لأن جون وماري اللذَين عاشراهما — ماري لمدة تسعة عشر عامًا، وهو لما يقرب من عشر سنوات — قد قاما، أثناء غيابهما، بتنظيف جميع الكتب وإعادتها إلى رفوفها مُغطَّاة بأوراق الصحف، وكل شيء بالمسكن كان يفوح بالجِدة والنظافة، وطافا بأرجاء المكان يستنشقان جوه ويُعبِّران عن ابتهاجهما.
ثم قالت لي: «البثْ معنا لتتناول عشاءً من اللحم.»
وكانت عودتنا من الريف إلى مسكن في عمارة في يوم من أيام يوليو الذي اشتد قيظه مناسبة للاحتفال، وبينما كانت ماري تُعِد عشاء اللحم الموعود، جلسنا في مكتب هوايتهد، يهبُّ علينا نسيم عليل.
وكانت حُمَّى السياسة في أوروبا تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، وشرعنا نُقارِن بين مسلك الدكتاتوريين الفاشيين والحكام المُستبِدين المجانين في المأساة الإغريقية.
قلت: «إن هتلر لم يسمع قط بآلهة المَثوبة والعقاب في العقائد الإغريقية، ولو قد عرف شيئًا من هذا لما كان له لديه معنًى. أما الرجل الآخر فقد قرأ في هذا الباب.»
فقال هوايتهد: «لقد قرأ مكيافلي، وقد كتب مكيافلي قواعده لبلوغ نجاح قصير الأجل، يمتد من خمسة أعوام إلى خمسة عشر.»
وأدَّى بنا ذلك إلى نقاش حول طول حياة النُّظُم فقال: «إن الجامعات في أوج مجدها الآن، بيدَ أن الجامعات قد تُصبِح سببًا من أسباب القلاقل، كما كانت الأديرة، ولنفس الأسباب.»
وقالت زوجته: «لقد بلغت الآن بالفعل مُفترَق الطُّرق.»
وتحدَّثنا عن إساءة استعمال «البحث»، وذكرت خطاب جون برنت في ١٢ مارس عام ١٩٠٤م بسنت أندروز، وقلنا إن الناس الذين يُكثِرون من الحديث في «البحث» ليسوا أولئك الذين قاموا به. لقد ابتُذِلت الكلمة وأصبحت مما يُسيء إلى كثير من الناس.
وإنا لَنسمع عن «بيئة البحث» وعن «المِنح التي تُقدَّم للبحوث» وما إلى ذلك، كأن الأمر كله يتعلق بالمال ولكن صاحب الخطاب لم يفترض أن أي كشف من الكشوف العظيمة قد استعان بالمال، ومن المُؤكَّد أن جميع الكشوف قد قام بها رجال لم يفكروا بتاتًا في المعونة المالية.
فقال هوايتهد: «لقد سمعتموني أنقد جبن العلماء، وأعتقد أن ما لنقد المتون من قيمة قد انتهى، ذلك العمل الضخم الذي استمر منذ النهضة لتنقية الأصول الكلاسيكية، ذلك عمل قد تم وانتهى، ونحن اليوم نعلم عما كان يتحدث المؤلف، ولكن العلماء ما زالوا يُعيدون ثم يُعيدون هذه التنقية، بعد أن لم تعد لها قيمة.»
– «لماذا يستطيع العلم أن يقفز كل هذه القفزات التي وثبها في القرن الماضي، بل في الأربعين سنة الماضية، في حين أن الدراسات الإنسانية تتقدم تقدُّمًا وئيدًا؟ هل نحن حقًّا قد سبقنا أفلاطون وأرسطو في هذا المضمار بخطوات شاسعة؟»
فأجابني بقوله: «في القرن الثامن عشر (وأنا أتحدث عن إنجلترا حيث أعرف ما أتحدث عنه) كان بالإمكان مُسايَرة روما واليونان في أزهى عصورهما؛ فإن البناء الاجتماعي كان شبيهًا بهما إلى حدٍّ يجعل السوابق التاريخية ذات قيمة عملية، ولو إلى حدٍّ ما، فما زال هناك الجماهير والأرستقراط، ولو كان الأمر مما يتعلق بحكم مُستعمَرة إمبراطورية — كالهند مثلًا — استطعت أن تحذو حذو الرومان، ولو أن حاكمًا استعماريًّا قُدِّم إلى المحاكمة لسوء إدارته — مثل وارن هيستنجز — كانت أمامك خُطَب شيشرون ضد فريز الذي اتُّهم بحكمه الجشع في صقلية. وحتى في القرن التاسع عشر كان بالإمكان احتذاء المثال الإغريقي الروماني إلى حد كبير. أما الآن، في القرن العشرين، فإن التكنولوجية الحديثة قد عدَّلت من القِيم الخلقية، أو من العلاقات الاجتماعية، حتى بات الأمر يتطلب مزيدًا من البحث ومن الدقة في تطبيق النُّظم التقليدية الكلاسيكية على احتياجات العصر الحديث.»
– «وماذا يُحتمَل أن يكون أثر هؤلاء الرجال الذين تعلموا تعليمًا علميًّا على حكم الإمبراطورية البريطانية؟»
– «إنا نبعث إلى الخارج إداريين استعماريين من الرجال الذين لم يُشرَبوا بروح التقاليد الإنسانية القديمة، وإنما من خريجي المدارس العلمية. إنهم لا يقلُّون عن نظرائهم ذكاءً، ولكن هل نالوا ما لقيه هؤلاء من تدريب مُلائم؟ إني أشك في أنهم يُدرِكون بمثل دقتهم التكوين العاطفي للشعوب التي لا بد لهم أن يحكموها.»
قلت: «إن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية مثال لنظام له خبرة واسعة في الحكم، أفاد من علم العالم القديم.»
– «إنه نظام قد تعلَّم كيف يُدير الأمور إدارة ناجحة في مجتمع ملكي تحكمه الأرستقراطية، وعندما يفكر أحد أن في تعديل هذا المجتمع، أو في تحريره بتحويله إلى النظام الجمهوري أو الديمقراطي، تقف الكنيسة عادةً موقف المعارضة لهذا التعديل. والآن، في الوقت الذي قد جُن فيه جنون بعض الحكومات الأوروبية، ترى الكنيسة — أو هي تظن أنها ترى — ميزة في جانب الدكتاتوريات الفاشستية التي تُعارِض نوع الدكتاتورية التي يُمثِّلها ستالين. وأعتقد أنهم مُخطئون.»
– «قال لي عالم اجتماعي ممن أعرف (وهو يميل إلى جانب الاشتراكية بصورة واضحة) إنه يعتقد أن الكاثوليكية ستتغلب على الشيوعية، إما بمسايرتها أو بالقضاء عليها، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن الماركسيين يغضُّون الطرف في عناد عن الاحتياجات العاطفية لمتوسط الناس، في حين أن الكنيسة تُشبِع هذه الحاجات.»
قال هوايتهد: «لقد نجحت الكاثوليكية في إخراج نوع مُهذَّب نوعًا من النساء، ولكنها لم تبلغ مثل هذا النجاح مع الرجال. بالرجال حاجة إلى أن ينفضوا عن كواهلهم عبثًا تُلقيه عليهم الكنيسة، وما لم يفعلوا ذلك، لن يكونوا مُفكِّرين لهم أثر. إنهم إذا لزموا حدود العقائد الكنسية الجامدة ظلوا دائمًا على خشية من أن يفكروا في رأي يتعارض معها. وأعتقد أن الكنيسة كان باستطاعتها أن تكون أشد جرأة مما هي عليه — وهي مطمئنة — في قائمة الكتب التي تُصرِّح بقراءتها. إن أمرسن لا يُصيب شعب الكنيسة في الحقيقة بأي لون من ألوان الأذى.»