المحاورة السابعة عشرة
١٥ من ديسمبر ١٩٣٩م
بدأت الحرب العالمية الثانية منذ وقت قصير، وكان هذا أول مساء لي مع آل هوايتهد منذ اشتعال الحرب في سبتمبر، وكان كل امرئ في هذا الوقت لا يزال يمتنع عن مس موضوع الحرب مع غيره إلا بالحذر الشديد؛ لأن الشعور كان مُلتهِبًا، ولم يستطع أحد أن يتنبأ بالمستقبل.
ولم يكن الأمر كذلك هنا على أية حال، فقد لمسنا الموضوع لمسًا مباشرًا.
قال: «إنني على يقين جازم بأن أمريكا يجب أن تبتعد. أنتم بحاجة إلى نحو خمسين عامًا لكي تستقروا وتُقِروا بعض المشكلات المحلية التي يبدو أنكم الآن في طريقكم إلى حلها، فإذا أنتم دخلتم واشتبكتم اشتباكًا شديدًا فربما أدَّى ذلك إلى ضرر دائم لمستقبل العالم، ولو أنَّا فُزنا بمعونتكم — كما حدث في المرة السابقة — فإن التسوية التي نصل إليها بحضوركم قد تفقد التوازن بعد انسحابكم. من الخير لأوروبا أن تُحقِّق اتزانها بنفسها.»
وقالت: «أما إذا انهزمنا، فقد أصبح لزامًا عليكم أن تتدخلوا، وإلا وجدتم النازيين في كندا وفي أمريكا الجنوبية.»
قال: «أشك في أن العالم قد مرت به من قبلُ محنة على نطاق واسع كهذه المحنة.»
– «إنك تدهشني بهذا القول. ألم تكن محنة روما تحت حكم الأباطرة الفاسدين أوسع نطاقًا؟»
– «كانت الآلام وأسباب الجزع في روما محصورة في الطبقات العليا إلى حد كبير، ولا بد أيضًا أن تكون آلام العدد الضخم من الرقيق، الذي كان يقوم عليه هذا المجتمع، شديدة كذلك.»
– «يروي المُؤرِّخ برسكس قصة زيارته لمعسكر الهون التابعين لأتلا، وكيف اخترق أَراضٍ انتحرت فيها عند اقترابهم جماعات بأسرها. فلما بلغ معسكرهم ألفى هؤلاء المُحارِبين أنفسهم مُمتلئين بالحماسة ويُنشِدون الأناشيد التي تتغنى بفضائلهم.» وقد رأيت أن أربط هذه الظاهرة بمقدار انتشار الآلام البشرية، ثم شرد ذهني وذكرت لهم ذلك، وقلت إنه كثيرًا ما حدث لي مثل هذا الشرود في الأيام الأخيرة.
قال: «يسرني أن أسمع منك ذلك؛ لأن ذهني كذلك يشرد، وكنت أعزو ذلك إلى سني.»
– «أعتقد أنه التعب. إن وعينا للحرب ماثل دائمًا في أذهاننا، ونحن مضطرون إلى معاودة التفكير في الأمور العادية بالإشارة إليها، وكثيرًا ما نفعل ذلك على غير وعي منا، ولكن الجهد يُرهِقنا بعد حين وكأن شيئًا في اللاشعور يجذبنا.»
قال: «لقد فقدت القدرة على أداء أي عمل لفترةٍ ما بعد نشوب الحرب؛ فقد كانت دائمًا في خاطري. أما الآن فقد تشبَّعت بها عملياتي الفكرية أخيرًا، وبدأت أعود إلى العمل.»
– «يقول سكت نيرتج، الذي تناوَل معي طعام الإفطار هذا الصباح (وهو أحد زعماء التحرير الأمريكي) إن المشكلة في عصرنا الحاضر هي كيف يعيش المرء عيشة حسنة في مجتمع مُنحَل. ولست على ثقة مما يقول، وليس من شك في أنَّا نعيش في ضائقة اقتصادية، ولكن أليس من الجائز أن يكون من أثر التكنولوجية العلمية، وما يترتب عليها من عنف واضطراب، إعادة تماسُك المجتمع؟ من الخير لنا ألا نتعجل اليأس، ولست أقصد أنه من المُحتمَل لأي منا أن ييئس، ولكن كل عصر عظيم — أثينا في القرن الخامس، وروما لعهد أغسطس، والنهضة، والإصلاح الديني، والثورة الفرنسية — سبقه أو صاحبه عنف واضطراب؛ الحرب الفارسية في اليونان والحروب الأهلية الرومانية قبل أغسطس، وغير ذلك. ألا ترى معي أن الوقت لم يحِن بعدُ للحكم؟ وهل تُدهَش لما حدث إذا تذكَّرنا الانقلابات الآلية والعقلية التي وقعت منذ بداية هذا القرن؟»
وقال هوايتهد: «لقد عشت ثلاث حيوات مُتميِّزة مدى عمري؛ الأولى من الطفولة إلى الحرب العالمية الأولى، والثانية من عام ١٩١٤م حتى إقامتي في أمريكا في عام ١٩٢٤م، والثالثة هنا منذ عام ١٩٢٤م. ويبدو أن الحياة الأولى أكثرها غرابة. في تلك الأعوام من سنة ١٨٨٠م وما بعدها حتى الحرب الأولى، من ذا الذي كان يحلم أن الآراء والنُّظم — التي كان يظهر عليها الثبات وقتئذٍ — لم تكن دائمة؟»
– «بالرغم من حداثة سني حينما كنت أنت رجلًا كامل النمو، فإن الدنيا في عام ١٨٩٠م وما بعدها تبدو لي كأنها كانت تسبح في ضباب ذهبي من الأناشيد الأسطورية.»
قال: «كانت كذلك منذ سبعة وخمسين عامًا حينما كنت شابًّا في جامعة كمبردج، وقد تعلمت الرياضة والعلوم على رجال أفذاذ، وبرزت فيها. ومنذ بداية هذا القرن قُدِّر لي أن أرى كل فرض أساسي في هذه العلوم والرياضيات، وقد انقلب رأسًا على عقب، ولا أقول إنه قد نُبِذ، ولكنه بات في المحل الثاني بعد ما كان في المكانة الأولى. حدث كل هذا في مدى حياة واحدة، انقلبت أهم الفروض الأساسية في العلوم التي كانت تُنسَب إليها الدقة البالغة، وبرغم هذا نجد أن مُستكشِفي الفروض الجديدة في العلوم يُصرِّحون بقولهم: وأخيرًا بلغنا اليقين. في حين أن بعض الفروض التي شهدنا انقلابها قد ثبتت لأكثر من عشرين قرنًا.»
– «وهل هذا من أسباب الصعوبات التي تُلاقيها في استخدام مصطلحات جديدة لآرائك الخاصة؟»
– «هل لاحظت ذلك؟»
– «لاحظت أني أستطيع أن أفهم الثلث الأول والثلث الأخير من كتابك «مغامرات الأفكار»، ومن مقالك «الذكرى المئوية الثالثة لهارفارد». أما في الثلث الأوسط فأجدني أتعثر. فهل الثلث الأوسط فوق مستوى الرجل العادي الذي يود أن يقرأه ثم يُعيد قراءته؟»
– «كلا، لا أظن ذلك؛ فأنا أكتب للرجل العادي، وفي سبيل ذلك أتحاشى الألفاظ الفنية التي يألفها الفلاسفة.»
فقالت زوجته: «ومن أجل هذا لا يُحِبه الفلاسفة، وإن كانوا في مُنتهى العذوبة في نقدهم.»
وواصل حديثه قائلًا: «ولكني أعتقد أن من واجب الفلاسفة أن يربطوا أفكارهم باحتياجات الحياة العامة، وهناك أمر آخر لا بد لهم منه؛ عندما تُفكِّر في المَشاق التي يُلاقيها رجال العلم لكي يُقيموا نظرياتهم على فروض تتعرض للنقد الدقيق — وكيف يضعون الاختبارات التي يُسيطرون بها على التجارب — عندما تفكر في ذلك اذكر كيف كانت الأفكار الأساسية حتى لأكبر الفلاسفة في الماضي تخضع إلى حد كبير للعلاقات البيئية الوقتية بحكم الضرورة، تلك العلاقات التي كانوا يعيشون فيها. أما العيب فيقع على عاتق المُفكِّرين المُتأخِّرين الذين لم يترددوا في قبول أحكامهم دون التوقف لإعادة البحث فيها في حدود الظروف الاجتماعية المُتغيِّرة.»
قلت: «إن «علوم السياسة» لأرسطو مثال قوي لما تقول. لا شك في أنها كانت تقوم على فرض أساسي، وهو أن المدينة الحكومية هي الشكل السياسي السائد، وذلك أيضًا في عصر بدأ فيه هذا النظام في التخلف عن مسايرة الزمن وأوشك أن يتبدل لتحلَّ محلَّه ملكيات عسكرية على صورة مُستمَدة من فتوح الإسكندر الأكبر، تلميذ أرسطو.»
– «هذا مثال طيب لما قصدت إليه. الفلسفات بحاجة شديدة إلى إعادة التفكير فيها في ضوء ظروف البشرية المُتغيِّرة.»
– «وإلى أي حد يستطيع العقل وحده أن يقوم بذلك؟»
– «أشك في أنَّا نتقدم كثيرًا بالعقل وحده. أشك في أن العقل يستطيع أن يسير بنا شوطًا بعيدًا. لقد تحدَّثت عن البداهة المباشرة، وكلما تقدَّمت بي السن زاد تقديري لعبقرية فذة لا تُبارى تميَّز بها أحد الفلاسفة، وذلك هو أفلاطون (وعندما تفوَّه بكلمة فذة أكَّدها بطريقة نطقها وأغمض جفنَيه قليلًا). قلما تجد بداهة لم تكن لديه أو لم يُقدِّرها، وحتى بعدما تضع في الحسبان التعديل الذي يترتب على الظروف الاجتماعية المُتغيِّرة منذ ما فكَّر وكتب، كما ذكرت منذ برهة، والتغيُّرات التي لا بد من القيام بها بناءً على ذلك، حتى بعد ذلك فإن الجانب الأكبر من فلسفته لا يزال قائمًا. لقد جابَه الواقع، أو تلك الحقائق التي لا يفهمها الرجل العادي فهمًا مباشرًا، وبقدرة عجيبة على الدقة والجدل وضعها في صيغة يمكن للأثيني المُتعلِّم في عهده أن يُدرِكها.»
وبلغت الساعة الآن العاشرة والنصف، وجيء بالشوكولاتة الساخنة، وانتقلنا إلى الحديث في موضوع «النظامية الإنجليزية»، وهل قامت على ضرورات اقتصادية.
فقال هوايتهد: «كلا، لم يحدث ذلك البتة فيما أظن، وإنك لتلمس في جون وزلي ذلك المزيج غير المألوف؛ فقد كان رجلًا يجمع بين البداهة الروحية والقدرة التنظيمية العظمى، كان التنظيم عنده طبيعة كالتنفس، وإني لمَدين لصديقي ألي هالفي بملاحظة من أشد الملاحظات التي سمعت في حياتي نفاذًا عن التاريخ الإنجليزي، وهي أن الأفكار الثورية الفرنسية، وبخاصة مذهب اليعقوبيين، قد حالت دون عبورها القناةَ الإنجليزية فكرةُ اتباع وزلي الدينية، الذين كانوا ينظرون إلى اليعقوبيين كأنهم بغير إله، وقد كان الثائرون — كما تذكر — يؤمنون بالله، أذكر منهم روبسبيير وسنت جست وغيرهما من زمرتهما، ولكن النظامي، كان لا يُقيم لذلك البتة وزنًا، ثم لما تطوَّر العصر الصناعي، حينما بدأت الأسرات الغنية من الطبقة المتوسطة تتزاوج من الأرستقراطية، كان لذلك أثر فريد، وهو أن هذا التزاوج قد أعطى الأرستقراطية — لأول مرة في التاريخ تقريبًا — مسحة دينية لوَّنت الحياة السياسية الإنجليزية بأسرها في القرن التاسع عشر.»
وفكَّر فيما قلت مُتشكِّكًا فيه، ثم قال: «إن هذا الرأي أقرب إلى الفكرة الأدبية منه إلى القوة التاريخية. إن الإنجيل يتميز بإشاراته إلى الأبدية.» ثم وقف بغتة وتحدَّث في حماسة شديدة قائلًا: «ها نحن أولاء بشخوصنا المحدودة الأجل وحواسنا المادية أمام عالم إمكانياته لا تُحَد، وبالرغم من أنَّا قد لا نفهم هذه الإمكانيات اللانهائية، فإنها وقائع ثابتة.» ولبث واقفًا لحظة مُستغرِقًا في تفكير، ثم عاد إلى جلسته، وواصل حديثه قائلًا: «إن عيب الإنجيل فيمن تصدَّوا لتفسيره، أولئك الذين سخطوا ذلك الإحساس باللانهاية وحوَّلوه إلى آراء نهائية محدودة، وقد كان أول مُفسِّر للعهد الجديد أسوأهم، وهو بولس.»
– «هل قرأت «الكافر بالمسيح» لنيتشه؟»
– «كلا.»
– «إن عنوان الكتاب أعنف من محتواه، وإن كان المحتوى فيه شيء من العنف، ويُدهِشني أن نيتشه كان رفيقًا بيسوع، وهو يقول بأنه لم يُوجَد غير مسيحي واحد، وقد مات مصلوبًا، بيدَ أن القديس بولس قد أدرك ذلك من غير شك.»
قال: «إننا نتكلم عن نهاية المسيحية في حدود ألف عام، بيدَ أن المسيحية اتخذت أشكالًا عدة في تاريخها حتى إني كثيرًا ما أتصور أنها قد اتخذت شكلًا جديدًا — وربما كان نهائيًّا — هنا في أمريكا، بعدما تآلفت مع فكرتكم الديمقراطية عن الحياة. إن الحياة في أمريكا — برغم كل ما فيها من قيود — أفضل وأرق منها في أي مكان آخر على وجه الأرض سمعت عنه خلال العصور التاريخية كلها، غير أن رجال الدين قد فقدوا نفوذهم؛ فإن الرجل إذا اشتدت به الأزمة في أمريكا يتجه الآن إلى الطبيب، ولا يُفكِّر في إخطار قسيسه، اللهم إلا هنا وهناك حيثما يكون القسيس فردًا غير عادي. أما في إنجلترا فإن الرجل الذي يقصده الناس في أزماتهم هو محامي الأسرة، وإنك لَتلمس ذلك في القصص الإنجليزي، فهو فيها شخصية مألوفة. إن المشكلة في الدين هي أن تربط النهائي باللانهائي. ومما له دلالته أن الناس لم يعودوا يعتقدون في السماء.»
– «وماذا أنت واجد في سماء المسيح مما تستطيع أن تُؤدِّيه؟»
– «إني أُوثر أن أذهب إلى حافة جهنم حيث أستطيع أن أُقابِل الفلاسفة اليونان ورجال السياسة من الرومان وأُبادِلهم الرأي.»
فسألت مسز هوايتهد: «وكيف يستطيع الفرد أن يتغلب على الملل المُميت في الجنة؟ على الأقل كما يُصوِّرونها عادةً؛ نغمًا رتيبًا.»
قال: «لا بد من إيجاد ما يحل محلها.»
– «ربما كان المطلوب صورة من صورة القدرة على الإبداع.»
وناقشنا هذا الرأي فقال: «كتب إليَّ سر رتشارد لفنجستون يقول إن أقوى العبارات دلالة عنده في كتابي «أهداف التربية» هي تلك العبارات التي تقول إن الرجل العادي بحاجة إلى الاقتناع بأهمية العمل الذي يُؤدِّيه.»
فقالت مسز هوايتهد: «أهمية وظيفته، لا أهمية شخصه.»
وواصل حديثه قائلًا: «وكذلك المشكلة الأساسية في الفلسفة الحديثة هي كيف نربط الواحد بالمُتعدِّد. وقد تحدَّث في ذلك أفلاطون، وأصاب في الكثير من المواضع، ولكنه كذلك أخطأ خطأً فاحشًا في مواضع كثيرة أخرى. والاتجاه الحديث هو أن تقول: أنا سعيد «الآن»، والمستقبل لا يهمني، ولكن «الآن» لا معنى لها بغير دلالة المستقبل. والمطلوب هو أن نربط كل «الآونات» بالمستقبل.»
فسألت مسز هوايتهد: «وما الفارق بين الذكاء والمقدرة؟ أعتقد أننا جميعًا نبتهج حينما نلمس الذكاء في الطفل أو المراهق. أما إذا كنا لا نزال نعجب به عند الراشد فنحن من الخاطئين.»
– «أليس هناك شخص في إحدى روايات دكنز يُقال عنه — حتى أواخر أيامه — إن شابَ يُرجى منه؟ أعتقد أن الذكاء هو سرعة الفهم، وهو يتميز عن المقدرة، وهي القدرة على التصرف بحكمة في الأمر المفهوم، ولكني أتوق إلى السؤال مما نعني حينما نقول عن شخص ما إن عنده عمقًا؟ إننا نعرف ما نعني، ولكنا لا نستطيع أن نصوغه في ألفاظ.»
فقال هوايتهد: «إننا لا نستطيع ذلك على وجه دقيق؛ لأن العمق هو القدرة على أن يأخذ المرء في اعتباره في موقف من المواقف كل تلك العوامل التي لا يمكن أن تُصاغ في اللفظ صياغة شافية.»
فقالت: «إن هذه العوامل تفتُر حينما تُصاغ في اللفظ. العمق عندي هو القدرة على أن يرى المرء ما يُحيط بالأمور، وأن يرى هذه الأمور في كل علاقاتها.»
– «وهل هي موروثة أو مُكتَسبة؟»
قالت: «ليست مكتسبة، إنما هي موروثة، ولكنها تتطور بعد ذلك.»
فقال هوايتهد: «إننا نحصل من الأطفال على أقصى قدراتهم إذا نشئوا في ظروف اقتصادية بعيدة عن الترف، ظروف تُقحِمهم في سن باكرة في زمرة أولئك الذين يتحملون التبعات في المجتمع، وقد يكون هذا المجتمع كبيرًا، ولكنه لا يتحتم أن يكون كذلك، ويكفي أن يكونوا أشخاصًا مسئولين يُؤدُّون عملًا عامًّا. هذه فئة. أمَّا الفئة الأخرى فلا يلزم حتى أن تكون في حالة اقتصادية مُريحة، ولكن الطفل ينبغي أن يُولَد — أو ينشأ — وسط أفكار خلقية جدًّا أو دينية.»
– «إن ما نفعك يا أولتي هو إحساسك الخلقي والديني، ولقد أخذت هذا الإحساس عن أبيك القسيس.»
قال: «لقد أسَّس أمريكا أناس من هاتَين الفئتَين؛ من أصحاب المسئولية الاجتماعية وأصحاب الحس الخلقي. وكثيرًا ما بدا لي أن ذلك هو الذي جعل القرن الثامن عشر في إنجلترا فاترًا؛ لأن الناس الذين توافرت فيهم الحيوية قد أتوا إلى هنا في القرن السابع عشر، وكانت فرنسا أفضل من إنجلترا في القرن الثامن عشر، وأهم نتائج الثورة الفرنسية هي الثورة الأمريكية، وقد أخفقت الثورة في فرنسا، ولكنها نجحت في أمريكا.»
وأدَّى بنا ذلك إلى ملاحظة انعدام الحماسة في هارفارد، على نقيض ما يُشاهَد في الغرب الأوسط، وبخاصة بين طلاب الجامعة في هارفارد حيث كانت الحماسة تُعَد أمرًا غير مُستحَب من الناحية الاجتماعية. وقال إن الحماسة تنعدم عند أبناء الأُسَر الغنية في بوسطن ونيويورك، وهم ثلث الطلاب، أما الثلث الأوسط فهو مُحايِد كالعادة، ولكن الثلث الأخير يتصف بها، وهم فتية أكثرهم من المدن الصغرى ومن المناطق النائية. أما هيئة التدريس فقد أقر بأن ميل الكثيرين منهم يتأثر بأبناء الطبقة العليا، وفي اعتقاده أن صوتهم غير مسموع في إدارة الجامعات الأمريكية، ولم يكن لهم من قبلُ هذا الصوت، على نقيض الحال في إنجلترا، حيث تكون الإدارة في أيديهم، هنا يختص كل أستاذ بقسم. أما في ترنتي فهناك هذا الاتجاه أيضًا، ولكنك لو تعمَّقت ألفيتهم جميعًا على رأي واحد؛ إذ يريدون أن تكون ترنتي مكانًا له قيمة تربوية حية. لما تألَّفت جامعة لندن من مدارس مُتباعِدة أشد التباعد، اشترط أن يكون لهيئة التدريس صوت في إدارة المؤسسة الجديدة.
– «لقد طوَّرت إنجلترا نظامها الجامعي، وكثيرًا ما أتساءل عن المدة التي نستغرقها لكي نُطوِّر هنا نظامًا يُلائم احتياجاتنا الخاصة بنا.»
قال: «لقد تغيَّر النظام الجامعي في إنجلترا كثيرًا منذ عام ١٩٠٠م؛ كانت هناك قبل ذلك أكسفورد وكمبردج وأدنبره وجلاسجو وسنت أندروز. ومنذ ذلك الحين نشأت كل الجامعات الجديدة.» وعدَّد ستًّا منها.
وخلال المناقشة عرضنا لموضوع الطريقة التي نحمي بها الفكر من التجمد في أفكار ثابتة، وكيف أنه من السهل أن تنكمش الدراسة الدقيقة إلى علم لا حياة فيه. وقال إنه عندما كان الزملاء القدامى ينتخبون زملاء لهم جددًا من بين المُرشَّحين للزمالة، قرأ على اللجنة عالم أثري شابٌّ بحثًا علميًّا عن عمود أثري معين تعرَّض فيه لتأريخه، وهل أخطأ الباحثون في تحديده لمدة ثلاثة أعوام بالنقص أو بالزيادة!
– «(وجلس فرجيوسن — وخده على يسراه — يستمع إليه راغمًا،
وجلس تشيس — وخده على يمناه — يستمع إليه راغمًا،
وجلس لوب — وخده على راحتَيه — يستمع إليه راغمًا،
– «وكم كان يبلغ من العمر؟»
– «زهاء اثنَين وعشرين عامًا فيما أعتقد.»
– «إنه أصغر من أن يعلم الكثير عن سوفوكليز.»
– «ربما كان ذلك صحيحًا، ولكن اثنَين منا أصرَّا على قبوله حتى لو كان ذلك على جثث الأعضاء.»
وهنا نقل هوايتهد الموضوع إلى الحديث عن صحف بوسطن.
قال: «إن صحيفة هيرالد — لو اتقدت شرارتها قليلًا — تُعبِّر عن رأي أصحاب الأعمال الناجحين تعبيرًا يدعو إلى الإعجاب، بل وإلى أكثر من الإعجاب، بيدَ أنك لو أردت أن تعرف ما تفكر فيه إنجلترا الجديدة بجميع طبقاتها — وأنا شخصيًّا أريد أن أعرف — فلا مناص لك من أن تقرأ صحيفة جلوب، ونحن نُخاطِر بالظن أن كثيرًا من المقالات الرئيسية في العلاقات الخارجية — وبخاصة ما كان منها مُتعلِّقًا بالسياسة البريطانية الخارجية — من تحرير كاتب أيرلندي غاضب.»
– «هي كذلك.»
– «إنه يُمارِس حقوقه، غير أنه يُضفي على نفوذ المحافظين — الذي لا يُرضيه — أهمية لا يستحقها.»
– «إن الجنود البريطانيين هزموا جده وقضوا عليه في أيرلندا، وكانت ذكرى الحادث حية في ذهن جدته حينما روته له. إنه رجل فذ في مقدرته، له مبادئ سامية يُراعيها في عمله اليومي.»
ثم تحدَّثوا عن المقال الرئيسي عن الموسيقى الذي نُشِر في ٢٤ من نوفمبر دون أن يسأل أحد منهم عن كاتبه. وفي هذا المقال قلت إن الموسيقى العظيمة يُدرِكها الأطفال — حتى أكثر من إدراكهم للأدب العظيم — لأنها تُخاطِب العواطف والخيال والبداهة مخاطبة مباشرة، وهي قدرات كثيرًا ما تكون عند الأطفال أحدَّ منها عندهم بعدما يكبرون، ومن الخطأ الفاحش الذي يدل على الغباء أن نزعم أن الأطفال لا يستشعرون عظمة الفنون.
وقد وافق هوايتهد على ما جاء بالمقال جملة، غير أنه قال: «لا يستجيب للموسيقى جميع الأطفال. إنما يستجيب لها خمسون في المائة منهم فيما أعتقد، وكان الأجدر بك أن تُحوِّر هذا الرأي شيئًا ما، وأرجو أن تعتقد أني أُوافِقك على رأيك إجمالًا، وأرى أن لجميع الأطفال الحق في أن يتعرفوا هذه الخبرات العظمى في الأدب، والفنون، والطبيعة، ويستطيعون بعدئذٍ أن ينتقوا منها ما ينفعهم. وقد أعجبني بصفة خاصة رأيك في أن سحر الموسيقى الجيدة يرجع إلى أنها تُفاجئ الأذن بمقاطعها التي لا تتوقعها، وإلى أن عنصر المفاجأة دائم مهما أصبحت الموسيقى شائعة، وهذا مبدأ يسري أيضًا في شئون الحياة الأخرى؛ فإن ما نتلهف عليه هو عنصر الجِدة، وبعض التجارب الحية ينطوي على عنصر الجِدة الذي لا ينقطع، وهو يسري أيضًا على العلاقة بين مجالات الخبرة المتنوعة، فإذا تجددت خبرتنا في مجالٍ ما، امتد التجديد إلى خبراتنا في غيره من المجالات.»
قلت: «إن بيئة موطني — وهي مدينة صغيرة — كانت قاحلة من الناحية الجمالية، حتى لقد اضطررنا إلى الانكباب على الكتب والموسيقى (بالإضافة إلى الأصدقاء، وما قد يكون في الطبيعة من جمال) لكي نحتفظ بحياة أرواحنا.»
وقالت مسز هوايتهد: «وبيئته كذلك — وهي أبرشية ريفية — كانت وسطًا لا ينعدم فيه الجمال فحسب، بل يُنظَر إليه بعين الازدراء.»
قال: «ولكن ذلك هو بعينه ما تفعله الموسيقى. إنها تُجدِّد الحياة في الطبيعة كلها.»
– «كيف يمكن لأي إنسان أن يكون هو بعينه بعد معرفة وثيقة برباعيات بيتهوفن الأخيرة كما كان من قبلها؟»
وأدَّى ذلك بهوايتهد إلى الحديث عن الفارق العظيم بين شعراء القرن السابع عشر في إنجلترا وشعراء القرن الثامن عشر: «إنك لن تجد قط عند رجال القرن الثامن عشر شيئًا في شعرهم لا تتصور أنه كان بوسعك أن تكتب مثله، ولكن سحر الشعر الإنجليزي في القرن السابع عشر هو أنك تُقابِل شيئًا لم تتوقعه كليةً ثم تقول: «عجبًا! إنني لا أتخيل أنه كان بوسعي أن أفكر مثل هذا التفكير.»»
وتقدم المساء، ومرت فترة أجمعت فيها ضمائرنا على نقل الحديث إلى موضوع آخر.
وقد نفدت في أمريكا طبعة كتابه «أهداف التربية»، وقلت له: «إن الناس الذين أعرفهم لا يفتئون يشكون لي من أنهم لا يستطيعون الحصول على هذا الكتاب.» قال: إن الكتاب لم تنفد طبعته في إنجلترا، «ولكن مكملان أحرق ما عنده من نسخ لم يتم بيعها دون أن يُهيئ لي فرصة لتسلُّمها، وهو عمل أساء إليَّ كثيرًا.»
– «إن شركة مكملان لها طابعها الخاص، وهي تقوم من غير شك بأعمال عجيبة، من ذلك تجليدهم كتاب «التاريخ القديم من إخراج كمبردج»، في حين أن طبعته الإنجليزية مجلدة تجليدًا يليق بالكتاب، وإني آسف أشد الأسف لأني لم أشترِ نسختي في الطبعة الإنجليزية.»
– «إنني أفكر في إعادة نشر كتاب «أهداف التربية»، فما رأيك في حذف الفصلَين الأخيرَين؟»
– «إذا عرفت أنني لم أستطع فهمهما، أدركت أنني لست الرجل الذي يُوجَّه إليه هذا السؤال.»
– «بل على العكس من ذلك، أنت الرجل بعينه الذي يُسأل.»
– «إن الفصول الثمانية الأولى تهز القارئ بتيار كهربي. وكم من صديق ذكر لي هذا، ومنهم لفنجستون. فلماذا لا تحذف الفصلَين الأخيرَين وتُحِل محلهما مقالك عن الذكرى المئوية الثالثة لهارفارد؟»
– «لقد فكرت في ذلك أيضًا، ولكن هل يكون طول الكتاب بذلك مناسبًا؟»
– «أليس لديك شيء آخر يتفق ومادة الكتاب؟»
– «عندي قدر كبير من المؤلفات التي لم تُنشَر.»
واقترحت مسز هوايتهد مباحث مختلفة يصلح ضمها إلى الكتاب.
قال: «أفكر أيضًا في إخراج كتاب عن ذكرياتي.»
وتباحَثنا في حجم الكتاب، وإنه من الحكمة أن نُراقِب الناشرين فيما يختارون من رسوم للغلاف، بالنظر إلى ما مر بنا من تجارب أليمة.
وقالت مسز هوايتهد: «لشدَّ ما كان ذهولي حينما وقعت عيني على الغلاف الذي اختاره مكملان لكتابه «مغامرات الأفكار».»
– «كيف كان شكله؟»
– «رسم للقمر والنجوم وأشعة ضوئية.»
– «وماذا كانت الفكرة من وراء ذلك؟»
– «مغامرات، فيما أعتقد، وفضاء كوني.»
قلت: «إنهم بذلك يهبطون بهوايتهد إلى مستوى موسيقى الجاز! هل تظنين أن مُصمِّم الغلاف قد قرأ الكتاب؟»
قالت: «ربما لم يزِد على سماعه بالعنوان.»
ولما أشرف المساء على نهايته عاد إلى أثر الإنجيل، وإلى مُفسِّريه فقال: «يسري في التفكير العبري تياران فيما يبدو؛ أما أولهما فرفيق رقيق، جليل، عطوف، كله إلهام؛ أشعياء، وعاموس، ويسوع. وأما الآخر فعنيف مُنتقِم، مُخادِع، تنعدم فيه روح الفكاهة. وهي صفات الحاكم الشرقي المُستبِد بعينها. والتياران عند بولس، ولكن التيار الثاني أغلب. إن الساميين أجلاف، وكثيرًا ما شككت في تسرُّب الدم الهليني في الجليليين مما يُفسِّر ما اتصف به يسوع والفلاحون من رأفة؛ لأنك لو تابعت تفسير الأناجيل في قرونها الأربعة أو الخمسة الأولى، وجدت أن المفكرين المسيحيين على الشواطئ الأفريقية للبحر المتوسط وفي إسبانيا — الذين كانوا تحت التأثير السامي إلى حد كبير — كانوا غلاظًا أجلافًا، في حين أن المُفسِّرين الإيطاليين والغاليين — من أمثال جريجوري الأعظم ومارتن التوري — كانوا مُتسامِحين إلى درجة كبرى. ولما أُثيرَ موضوع اضطهاد أتباع مذاهبهم لأول مرة، رأى هؤلاء الناس — وعبَّروا عن رأيهم — أن الاضطهاد أشد ضررًا من الزندقة. إن هذَين التيارَين في العبرية يتمثلان في الجشع في الكسب المادي، وفي رقة الروح. وإنك لَتلمس أحيانًا عند عظماء اليهود هذَين التيارَين في طبيعة واحدة. إن مُفسِّري المسيحية هم سبب نكبتها.»
قال كرستوف (وهو ألماني): «إنك في هذه الحالة تخشاني كما تخشاهم؛ لأن الإنجيل يُسكِرني، إنه قوام شعب من الأسود، والقلوب الجريئة هي التي تتغذى بلبانه. إن العهد الجديد — بغير ترياق العهد القديم — غذاء غير صحي ولا طعم له. الإنجيل هو عظام الأمم التي تريد أن تعيش وهو عصبها.» من جين كرستوف في «البيت» لرومان رولان، ص٣٧٦ من طبعة إخوان هنري هولت سنة ١٩١١م.