المحاورة الثامنة عشرة
٢٢ من أبريل ١٩٤٠م
دعاني هوايتهد إلى حفل العشاء الذي يُقيمه بانتظام كل يوم من أيام الإثنين الزملاء الحديثون في إليوت هاوس، وفي طريقنا إلى هناك بسيارة الأجرة من فندق أمباسادور، سألته: هل قرأ ما رواه البحَّار البريطاني عن المُدمِّرة التي غرقت في نارفك؟
فقال: «كلا. إن الأنباء التي ينقضي عليها أسبوع — في مثل هذا الوقت — يتقادم عهدها وكأنها أنباء عن معركة ماراتون.» قال ذلك في رفق، بيدَ أن الملاحظة تُبيِّن عمق إدراكه للمواقف التي تتأثر بالتغيرات التي يُحدِثها الزمن.
ولما بلغنا إليوت هاوس عبَرنا فناءً، ودخلنا من باب جانبي تحت مصباح مستور مُعلَّق بفانوس من الحديد، وكان ليل الربيع لطيفًا، والضباب الخفيف يتساقط، على متن رياح شرقية تهبُّ من البحر، وأشجار الربيع يانعة بزهر ذهبي اللون.
وحذَّرني موريسون بصوت مُنخفِض قائلًا: «لا تُكثِر من شراب الشري قبل العشاء؛ فهو ليس جيدًا. وأكثِر من شراب برجاندي أثناء العشاء؛ فقد اختاره هندرسن وهو خبير بالنبيذ. وتحاشَ ما يُقدَّم إليك من خمر بعد العشاء؛ فهو من تقديم لول، وهو لا يعرف شيئًا عن النبيذ، وهو ليس إلا نوعًا من خمور كاليفورنيا المُعتَّقة، ولكن الزملاء لا بد لهم من احتسائه بأكمله. وهناك رأيان بشأنه؛ أولهما احتساؤه كله، والانتهاء منه، والآخر التأني في تناوُله؛ لأن لول قد يُقدِّم لنا مزيدًا منه.»
والمستر لول أصم تمامًا بالطبع. ولما كان يجد أن الحديث من جانبه أسهل من حديث الناس إليه؛ فإن التحدث معه — إن شاء — كان كلامًا من طرف واحد فقط.
وكان يتحدث في الطريقة التي يُعالِج بها الإنجليز المعارضة السياسية، قال: «إن حدود الحزبية هناك أدق منها هنا، وإذا كنت في الحكومة وجب عليك أن تُصوِّت معها، وقد قال لي المُؤرِّخ لكي: «إنني في حرية تامة من إعطاء صوتي ضد الحكومة التي كنت عضوًا فيها لمدة ثمانية عشر عامًا.» فسألته: وكم مرةً صوَّت ضدها؟ فقال: مرتَين.»
وواصل مستر لول حديثه في موضوع المعارضة السياسية، وقدَّم دليلًا على رأيه في التقرير الخاص بالفظائع الألمانية في بلجيكا الذي قدَّم له لوردبرايس، والذي نشرته الحكومة البريطانية مصادفةً في ١٢ من مايو عام ١٩١٥م، بعد إغراق الباخرة لوزيتانيا بغواصة أمريكية بخمسة أيام، حينما كان الرأي العام في الولايات المتحدة مُلتهِبًا بحرارة شديدة، وقال: إن التقرير مثال للضرر الذي ينجم عن عدم تعيين «محامٍ للشيطان، فأنت لا تُدرِك الحقيقة دون مُساءلة الشهود.» وبذلك اختتم حديثه.
(وتذكَّرت ساكو وفنزتي فقلت: «بل قد لا تُدرِك الحقيقة أحيانًا برغم هذه المساءلة.»)
ثم انتقلت إلى الحديث عن فضل التريُّث قبل إطلاق أسماء اللامعين على الشوارع والمحلات العامة، فقال أحد الشبان: «أليست هناك قاعدة عند الفرنسيين ألا يُطلِقوا اسم شخصٍ ما على أحد الشوارع إلا بعد وفاته بعشر سنوات؟»
فقال مستر لول: «بل إن الكنيسة الكاثوليكية أشد من ذلك أناة؛ فقد ينقضي مائة عام قبل تقديسها.»
ودق الناقوس؛ إشارةً إلى التوجه إلى غرفة الطعام.
والحجرتان مُبطَّنتان بأخشاب البلوط من الأرض إلى السقف، ونوافذهما المُستطيلة تتخللها أعمدة مُربَّعة قصيرة أيونية من جوانبهما، وتكسوهما ستائر ثقيلة يتفق لونها ولون الحجرة، ومداخن المواقد تحوطها كذلك هذه الأعمدة المربعة القصيرة وتعلوها الصور في إطاراتها والنقوش المُزخرَفة، والمائدة البيضاوية الشكل التي أُودِع فوقها شراب الشري هي مائدة طعام الإفطار التي كان يرأسها الأوتوقراط، وعُلِّقت فوق الجدران صور زيتية من نفائس القرن الثامن عشر، وإحداها من رسم جون سنجلتن كوبلي.
وقد تحدَّث خمستنا — الذين كانوا على مسمع من هوايتهد — فيما إذا كان بالإمكان مرة أخرى لذهن واحد أن يُلِم بمجموع المعارف البشرية، على الأقل إلى المدى الذي بلغه أرسطو أو دافنشي أو جيته، كلٌّ في العهد الذي عاش فيه.
فقال هوايتهد إن من رأيه أن مثل هذا الإلمام يتطلب اعتمادًا فوق الطاقة على معرفة الآخرين ويهبط بها إلى مستوًى بسيط: «لقد أخطأ أرسطو حينما سمح للناس أن يظنوا أنهم يعرفون ويُدرِكون كل ما يتعلق بالموضوعات التي كان يُناقِشها، ومن المُؤكَّد أنه لم يُعاوِن أفلاطون.»
وذكرت بهذا الصدد أن جلبرت مري قد قال شيئًا شبيهًا بذلك كل الشبه عن أرسطو، وبخاصة حينما كان أرسطو يتحدث في الدراما، وكان يتكلم عن عنصر «النشوة» في مسرحية «باكي» ليوربديز، وعنصر «الخضوع المُطلَق» في أسطورة دينوبسيس، وقد قال: «أليس المبدأ الذي يقول لا تتوغل، هو مبدأ الأُمِّيين؟»
فقال هوايتهد: «هذا صحيح. إنك لِكي تُوغِل في الموضوع حقًّا بحاجة إلى طاقة أكثر مما يحتويه هذا المبدأ الذي يقول «لا توغل» ولا بد للمرء من أن يُنكِر الكثير لكي يتقدم في موضوعٍ ما.
ويبدو أن عنصر المبالغة ضروري إلى حدٍّ ما في كل ميدان من ميادين العظمة.» وضرب لنا مثالًا لنقيض ذلك ما قيل عن رجلٍ «عرف إحدى وأربعين لغة ولم يكن عنده ما يقوله في لغة من هذه اللغات.»
ثم انهمك مع اثنَين من علماء الطبيعة في جدل حول اليقظة والإلهام الضروريَّين في كل تجربة جيدة، وكيف أنها تقوم على الكفاءة في العمل بالإضافة إلى «المصادفة السعيدة»، بل على إدراك نوع من أنواع الخطأ في النتيجة، فيأتي الاستكشاف من سؤال صاحب التجربة: «وماذا عسى أن يكون هذا الخطأ؟»
وواصل حديثه قائلًا: «لقد كان الهيدروجين الثقيل تحت أعين أشخاص عديدين قبل أن يكتشفه شخص آخر غيرهم. إن الخطأ نفسه قد يكون هو المصادفة السعيدة.»
وقيل إننا هنا في هذه المشكلة؛ كيف نجعل التفكير نشطًا حيًّا، كما جاء في مقاله عن الذكرى المئوية الثالثة لهارفارد بعدد سبتمبر من عام ١٩٣٦م. فقال: «لقد قدَّمت الموضوعات للبسطاء في البداية، وكرَّرتها في النهاية، أما المادة الجدية فقد وضعتها في الوسط. وجاء خير ما فيها مصادفة، وقد رد الناشر إلى المقال قائلًا إنه قصير نوعًا ما بالنسبة للصفحة المُخصَّصة له، وطلب إليَّ أن أُضيف إليه نحوًا من مائة وخمسين كلمة. وبجملة انتقالية وجدت أنني قد أضفت مائة وثمانيًا وستين كلمة؛ أي ما يقرب من طول أنشودة، وكانت خير ما في المقال. فهل تستطيع أن تستخرج هذه العبارة؟»
– «هل تتحداني؟»
وأومأ برأسه وابتسم قائلًا: «نعم.»
– «حتى تتوافر لي فرصة قراءة المقال مرة أخرى، ما رأيك في رد روبرت هتشنز عليه في عدد نوفمبر التالي؟»
– «لقد عاملني هتشنز — وأرجو أن تذكر أني أُجِله — معاملة المحامي برغم هذا؛ إذ فصل بعض ملاحظاتي عن مُلابساتها، ثم أخذ يُهاجِمني. ولما كنت قد اعترفت بأنَّا نُعلِّم غيرنا كثيرًا من الآراء التافهة، فقد أهملت النقد.»
ثم ثارت مناقشة حية من مدى ما يستطيع المرء أن يحتمل بثبات من ضروب الجهد العقلي المختلفة، وجاء البرهان حينما تعرَّضنا للعمل الأصيل والعمل الذي يعتمد على النقل، ودلَّت القصص الطويلة التي رُوِيت عن العلماء الدارسين الذين يعملون كل ساعات النهار على أن علمهم ليس إلا مجرد تحصيل، في حين أن أكثر الفنانين المُبتكِرين يجدون أنفسهم مُرغَمين قطعًا على الاكتفاء بعمل مُتواصِل في ثلاث ساعات أو أربع.
ووجَّه أحد الزملاء الجدد (وأظنه جورج هومانز) الموضوع إلى كتابة التاريخ، فقال هوايتهد: «لقد نال «جُبن» أحسن تربية تلقَّاها أي مُؤرِّخ آخر إذا استثنينا ثيوسيديد؛ فقد كان ينتمي إلى كتيبة حربية، وكان قائدًا الحرس هامبشير، ومارَس ما يكتنف هذا العمل من مشاعر، وتعرَّف إلى الأوساط الأدبية في لندن، فعرف جونسن وزمرته، وتنقَّل في القارة الأوروبية وعرفها، وكان في البرلمان واستمع إلى أحاديث الحكام.»
قال هومانز: «ولكنهم لم يُحسِنوا الحكم؛ فقد كان رئيس الحكومة هو لورد نورث الذي ضيَّع المُستعمَرات الأمريكية.»
وابتسم هوايتهد وقال: «إنني أعترف بأن الرجل الذي انهزم في الحرب كان أعز صديق للرجل الذي اعتزم أن يكتب «انهيار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها».»
وأُثيرَ نقاش حول الفارق بين التفكير الفعال والتفكير الجامد.
فقال هوايتهد: «التفكير الجامد هو أن تعرف على وجه الدقة من أين استقى شكسبير موضوعات مسرحياته، وأن ترد كل مقتبساته إلى مصادرها من فلاطارخس إلى هولنشد.»
واتجهت الأنظار القلقة صوب الأستاذ لفنجستون لويس، حيث شاء هوايتهد لها — في دعابة — أن تتجه، وكان لويس قد انسحب، ثم عقب على ذلك هومانز في كياسة قائلًا: «لقد خرج كِترَدج.» وضحك الجميع.
وكتردج هو — بطبيعة الحال — صاحب الكلمة الطولى على مائدة الإفطار التي تُذكِّر بعهد شكسبير.
ومن موضوعات الأفكار الجامدة انتقل الحوار إلى تلك المشكلة العويصة، وهي: هل العالم الحديث تحت رحمة مخترعاته التكنولوجية الجديدة كلية؟
فقال هوايتهد: «أعتقد أن أوروبا كان يمكن أن تتقدم بممراتها المائية الداخلية وقنواتها كما تقدَّمت بسككها الحديدية، ولكن السكة الحديدية في أمريكا جاءت في اللحظة الملائمة بالضبط لتُمكِّنكم من إخضاع القارة.»
قال هومانز: «إننا لم نتقدم كثيرًا من قبل.»
– «كانت السكة الحديدية هي العامل الحاسم عندكم.»
– «وما رأيك في الطائرة؟»
واختتم هوايتهد قائلًا: «إن الأمر لا يعدو أن يكون تشبيهًا، وإذا نظم المرء قصيدة في الاقتصاد، كما فعل ليوكريتس في «دي ريرم ناتورا» كان التشبيه رائعًا. أما في المعمعان الاقتصادي، فإن كل ما تعني حينما تُشير إلى أن المستقبل يدفع ثمن الحروب الراهنة هو أنك تُورِث الأجيال القادمة صورة مُتغيِّرة من المجتمع.»
وتلكأت الجماعة إلى ما يقرب من الحادية عشرة، ثم نقلني مع هوايتهد إلى فندق أمباسادور أحد الزملاء الجُدد، الذي يقوم بمرافقة مستر لول إلى بيته ببوسطن حيث عاد إلى منزله بالمدينة بشارع مارلبرو، ونزل لول من العربة وعاوَن هوايتهد على النزول في شيء من التكلُّف كما بدا لي، وكما بدا لغيري كذلك جليًّا؛ إذ إننا حينما عُدنا إلى الطابق العلوي واستقر كل منا في مقعده، وشرَعنا نحتسي أقداح الشوكولاتة الساخنة.
قال هوايتهد لزوجته، وعلى شفته ابتسامة رقيقة، وفي صوت هادئ رصين: «لقد عاوَنني لول على النزول من العربة.»
– «حقًّا؟»
– «هل تظنين أنه كان يحسب أني بحاجة إلى ذلك؟»
قالت في حِدتها المألوفة: «كلا. إنما كان يُحاوِل أن يُبرهِن على أنه إنسان أفضل منك، ولكن هيهات له!»