المحاورة الثانية
٢٢ من أبريل ١٩٣٤م
انقضى أسبوعان آخران من فصل الربيع، وقد انتشر فوق غابات تلك الأرض الجبلية بساط من أوراق البراعم الخضراء على طول الأميال الأربعة التي تمتد من ماتابان إلى بيت آل هوايتهد، وبلغتُ الدار هذه المرة قبل السابعة بقليل، وطلبت إلى سائق العربة — كالمرة السابقة — أن يعود في الساعة التاسعة وأربعين دقيقة؛ حرصًا على صحة مسز هوايتهد الضعيفة. وهو طلب ألغيته فيما بعد.
وقد جيء بها منذ برهة إلى أريكتها المُمتدة في حجرة الجلوس على مقعد ذي عجلات، وقام بذلك بهمة ونشاط الأستاذ هوايتهد وهو في العقد الثامن من عمره، ثم أخذ يتحرك هنا وهناك بأمرها، يُرتِّب المقاعد والأضواء.
وعتبا عليَّ انصرافي مُبكِّرًا في المرة السالفة.
– «وقال «أولتي»: هل أثقلنا عليه؟ وهل نفدت قدرته على احتمالنا؟»
وقلت له: «ربما كان عليك أن تُحرِّر مقالًا للغد، وإن المرء ليتوقع ذلك حينما يحضر صحفي للعشاء، ولكن جريس دي فريز تقول لي: إنه لا بد لك أن تأوي إلى فراشك مُبكِّرًا.»
– «ولكن جريس دي فريز أخبرتني أنكِ أنتِ التي لا بد أن تأوي إلى فراشك مُبكِّرة، أو ما يُشبِه ذلك. لقد تحاملت على نفسي كثيرًا حينما طلبت إلى سائق العربة أن يعود في الساعة التاسعة وأربعين دقيقة.»
– «إذن لا تفعل ذلك مرة أخرى!»
– «ولكني فعلت ذلك مرة أخرى.»
– «إذن ألغِ هذا الأمر.»
وألغيته بالتليفون.
وعلى شيء من التعجل قالت لي: «إن زوجة الأستاذ مورجان سوف تحضر (أما المسكين فلن يستطيع الحضور، فهو في المستشفى، يُعالَج من السُّل كما تعلم) وستحضر أيضًا مسز نيكولز التي التقيت بها هنا في المرة الماضية (أما الدكتور فقد رحل إلى آن أربر للدراسة) والأستاذ روزنستك هسي، وهو ألماني، ومستر أجاسز وزوجه، وقد كانا هنا أيضًا في المرة الثانية، وزوجه سيدة مُهذَّبة مُحترَمة من إنجلترا الجديدة، وهي نموذج لطرازها من السيدات. أمَّا هو فكما أقول له (في فكاهة بيننا) فيبدو كرجل الشارع الباريسي، وهو بيوريتاني مستقيم من بوسطن، وعضو بطبيعة الحال في هيئة المُلاحِظين بهارفارد، وهو قدير على رد الفكاهة بالفكاهة، بل يردها بأحسن منها، فهو يقول: عندما أكون في باريس يكون ضميري ببوريتانيا، ولكن ذلك لا يصلح في بوسطن؛ ومن ثَم فأنا أتحمل المثالب دائمًا.»
وسرعان ما التأم الجمع، وقُدِّم العشاء لمسز هوايتهد ومسز أجاسز على مائدة صغيرة في حجرة الجلوس، أما بقيتنا فقد توجَّهنا إلى غرفة الطعام.
وقال أحد الضيوف للمُضيف: «عرفت أنك تُشبِه الرئيس روزفلت بأغسطس قيصر، ولكني جمهوري، لا أحتمل هذا الرجل.»
وتلفَّت هوايتهد إلى المُتكلِّم وفي نظرته تردُّد واضح، ثم أجاب بنغمته اللطيفة: «لم يحدث في التاريخ إلا مرتَين — فيما أعلم — جلس فيهما على العرش رجل مُهذَّب.» فقالت مسز نيكولز في لطف؛ لأنها رعيَّة بريطانية: «العرش، يجب أن يُرضي أي جمهوري مُعادٍ.»
وتساءل روزنستك هسي، ولم يغِب عن ذهنه ولهلم من أسرة «هوهنزلرن» الذي يمتُّ إلى إدوارد بصلة قرابة، قال: «ألم يكن الملك إدوارد السابع رجلًا مُهذَّبًا؟» وأجاب الفيلسوف بقوله: «ما أبعد ذلك عن الصواب، وقد نشأ نشأة سيئة، ولم يستطع أن يُجاري قيصرًا.»
قالت مسز أجاسز: «إن أحدًا لا يستطيع أن يُجاري قيصرًا، ثم إنه كان خال قيصر. كانت مسألة عائلية، وكانت علاقة الخال بابن أخته تجعل الأمر مستحيلًا.»
– «ليس هذا لب الموضوع، إنما كان من واجب إدوارد أن يُجاري قيصرًا؛ ومن أجل هذا دفعنا له المال، ودفعناه بوفرة وسخاء. كلا، لقد كان سيئ التربية! لما ذهب إلى الهند وهو أمير ويلز ثار في وجه قائد عجوز جاء إلى الاستعراض في زي غير مُلائم، وقال في ثورته: أنتم أيها القدامى تتحللون في عاداتكم هنا. فقال الجندي العجوز وهو يقرع ذراعه الخشبية بيده الأخرى السليمة: بما في ذلك هذه الذراع يا صاحب الجلالة!»
وعلَّقت مسز مورجان بقولها: «وكأن إدوارد هو الرجل الذي يتحدث عن العادات المُنحلة.»
– «أستطيع أن أتسامح معه في هذا؛ فقد كانت أمه على شيء من الصلف، وإنما كان من الواجب عليه أن يرعى قواعد الآداب أمام الجمهور. يُؤسِفني أن أقول إني لم أعبأ به كثيرًا. وقد كانوا يعرفون الآداب الملكية خيرًا من ذلك القرن الثامن عشر؛ كان هناك رجل من الوجهاء الأقوياء يُدعى توم كوك، وكانت له ضياع شاسعة، وكان يمقُت جورج الثالث، وفي حفل عشاء ضخم اقترح أحد الحاضرين أن يشرب المحتفلون نخب الملك، فانفجر توم كوك قائلًا: لن أشرب نخب ظالم مُستبِد! وكان قولًا مُثيرًا، وتطلَّع الحاضرون في شغف إلى ما عساه يحدث، ولكن لما كان العرش في ذلك الحين قد بدأ يترنح قليلًا، فإن كل ما حدث أن وصل إلى توم كوك خطاب من جلالة الملك يُنبِئه بأنه لن يُقدَّم إلى المحاكمة؛ لأن جلالته قد فهم «الروح» التي أُبدِيت بها الملاحظة!»
وانتقل الحديث إلى إخراج جرانفل باركر ﻟ «نساء طروادة» ليوربديز على مسرح هارفارد في عام ١٩١٥م، ثم تجمَّع حديث المائدة في هدوء صامت لحماية الرجل الألماني الموجود من القلق الذي كان يُساوِر كل عقل في ذلك الحين، القلق من أن المسرحية كانت أداءً مُعاصِرًا لرواية «النساء البلجيكيات»؛ ومن أجل هذا مُثِّلت.
وقال قائل: «إن المأساة أشعرت المُشاهِدين بالإثم المُشترَك في جميع الحروب.»
وسأل هوايتهد: «هل شاهدها أحد من الحاضرين؟»
– «نعم، ولقد قال أحد أساتذتي القدامى في قسم اللغة اليونانية، وكان يجلس إلى جواري: هذه هزيمة مطلقة لي، لقد قرأت «نساء طروادة» مرارًا وتكرارًا، وعلَّمتها، ولو سألتني هذا الصباح لقلت لك إنها مليئة بالأخطاء، وإنها ليست في الحق مسرحية غاية في الجودة، ولكن ها هي ذي الآن، جِد رائعة، إنك لا تعرف المسرحية إلا بعد أن تشهد تمثيلها.»
وقال مستر أجاسز من غرفة الجلوس: «ومع ذلك فقد قيل إن قوة الأداء يرجع خمسة وعشرون في المائة منها إلى يوربديز، وخمسة وسبعون في المائة إلى جرانفل باركر.»
وقالت مسز أجاسز: «بل إني لأرى عكس هذه النسبة.»
وقال هوايتهد: «إني أعرف يوربديز، وأرى أن خمسين في المائة من الأداء يرجع إليه.»
وانسحبنا من المائدة إلى غرفة الجلوس لنتناول القهوة، واتجه الحديث إلى كيفية الوصول إلى حكومة جيدة، وقال أحدهم إنه قد وُجِدت دول كثيرة تستند إلى القوة. والواقع أنه لم يُوجَد من الدول غير هذا النوع، على صورة من الصور، ولكن لماذا لم تُوجَد دولة ثقافية، فتستبدل بحكومة المالكين حكومة الخالقين؟
فقال الأستاذ هوايتهد: «هذا حق! ولما كان المالكون يهتمون بالشئون المادية، فإنهم يستطيعون الاستيلاء على الحكومة.»
وسألت: «أليس ذلك هو السبب في أنهم يُديرونها عادة إدارة سيئة، والسبب في وجود طبقات أنانية حاكمة، والسبب في أنهم يقومون بأعمال تهوُّرية، ولا يأبهون بالفن إلا قليلًا، ويتبعون سياسات ضعاف العقول؟ ولكن ذلك لأنهم إنما يُعبِّرون عن غرائز التملُّك. كيف نستطيع أن نجعل الدوافع الخلَّاقة تُدير دفة الحكومة؟»
فقال هوايتهد: «لا بد لذلك أن يكون الحكم شائقًا، ومن رأيي أن سياسة الدولة في الوقت الحاضر ليس فيها من التشويق ما يكفي لاهتمام الشاعر أو الفنان، لا بد أن يكون الحكم شائقًا كالشعر.»
وقال روزنستك هسي: «أعرف قصيدة واحدة تهتم بمثل هذه الموضوعات، وهي لجيته، ولم تُترجَم قط إلى الإنجليزية فيما أعلم، وهو في هذه القصيدة يروي استمتاعه بالعمل الإداري الذي قام به في ويمار، كتعبيد الطرق، والتنظيم الحربي، وأعمال التعدين.»
وسألت: «وما عنوانها؟»
– «إلمناو.»
– «ألم تُكتَب لعيد من أعياد ميلاد الدوق كارل أغسطس؟»
– «بلى. هل قرأتها؟»
– «حدث ذلك منذ عهد قريب، بيدَ أن هناك صعوبة؛ فقد استمتع جيته بالإدارة، وأجادها، ولكنه أجادها أكثر مما ينبغي، وانغمس فيها إلى حد يُعرقِل قرض الشعر؛ ومن أجل هذا فر إلى إيطاليا.»
وقال هوايتهد: «إن ما نريده فيما أحسب رأس للدولة مُطَمئن إلى درجة معتدلة، بشرط ألا يُبالِغ في طمأنينته.»
– «وما رأيك في الأباطرة الأنطونيين؟»
– «كانوا بارعين في الإدارة، وكان نظامًا فريدًا ينتقل من حاكم إلى حاكم بالتعيين وتُؤمِّنه أوليجاركية عسكرية، ومن عجَب أن أكثرهم تقديرًا أقلهم استحقاقًا له؛ أقصد ماركس أوريليوس؛ لأنه شذ عن القاعدة بتعيينه ابنه كومودس، وكان تعيينًا سيئًا، ولولا أن ماركس كتب تلك المذكرات الشائقة، التي برغم ما فيها من متعة وعلم، لا تمتُّ إلى موضوعنا بصلة، لولا ذلك لساءت ذكراه من بعده، لقد كان من واجبه أن يجد خلفًا طيبًا.»
– «وما رأيك في جدارة بركليز؟»
– «إنه يدعو إلى الإعجاب؛ فهو رأس دولة انتُخب في منافسة سياسية حرة، وكان من الممكن زواله بمنافسة سياسية حرة مثلها.»
وعاتبته زوجه بقولها: «عزيزي أولتي، إنك تحمل على ماركس لأنه تطفَّل على أثيرتك الفلسفة التي لا ينتمي إليها.»
– «كلا، إني لا أقول بأنه لا ينتمي إليها، وإني لأُحِب أن أُغامِر بعيدًا عن الفلسفة لو تضاعفت سِنُو حياتي ومكَّنتني من إجراء التجارب.»
– «إلى أين؟ على سبيل المثال.»
– «أُحِب مثلًا أن أكون رئيسًا لمحل تجاري ضخم.»
– «أنت؟ تُدير محل جوردان مارش!»
– «لا أقول في بوسطن، ولكن في لندن.»
– «وتُنافِس محل سلفردج؟»
– «لا يتحتم ذلك، فربما جاملني مستر سلفردج بموته وخلَّف لي محله لإدارته.»
– «لكنه مات فعلًا يا عزيزي، وها أنت ذا لا تُدير محله!»
– «كلا، لا أظنه قد مات، ولأرجع في ذلك إلى الدليل.» وذهب إلى مكتبه ليبحث عنه.
وقالت مسز هوايتهد غاضبة: «إني لأعجب لك! أنت تريد أن تشتغل بالحرير والأطلس، وأحسب أنك لتُحِب ذلك.»
– «أُؤكِّد لكِ يا عزيزتي أن شغفي بالإدارة أكثر من ذلك بعدًا عن الاتصال بشخصي.»
ثم عاد في الحال ومعه الدليل مفتوحًا في الصفحة المطلوبة.
وقرأ بضعة مُقتطَفات قائلًا: «إنه ما يزال حيًّا، وهذا هو اسمه، جوردن سلفردج.»
وقالت مسز هوايتهد: «ولكن هذا ولده. أليس كذلك؟»
– «لا بد أن يكون كذلك يا عزيزتي.»
– «أود أن أعرف يا أستاذ هوايتهد أي أثر في الجمهور يكون لك في محل تجاري؟»
– «الذوق، والتدبير المنزلي، وكيف يستطيع المرء أن يعيش بحاجات أقل وأحسن.»
– «حينئذٍ يلتهمك مُنافِسوك ويبتلعونك.»
– «لا أظن ذلك، فإن مما يُبهِرني في هذا العمل أن أبتعد عن بطونهم.»