المحاورة العشرون
١٧ من يونيو ١٩٤١م
كان صباحًا مُشرِقًا في أواخر الربيع، وكانت نوافذ مسكنهما بفندق أمباسادور مُفتَّحة على مَصاريعها، يهبُّ خلالها عطر المروج الخضراء من الحقول الفسيحة وأوراق الشجر، يحمله إلينا نسيم عليل، وكنا نجلس في مكتب هوايتهد، حيث تغمرنا أشعة الشمس في بهجة وسرور، وكأن بيننا اتفاقًا خفيًّا إجماعيًّا على أن نتحاشى موضوع الحرب، وفيما عدا ذلك كان هذا الموضوع يشغلنا أكثر ساعات النهار.
وقال إن أبناء فرانكفورت كانوا عنده في اليوم السابق.
فسألت: «من تظن صاحب فكرة منح الرئيس روزفلت درجة علمية من جامعة أكسفورد؟»
وقال بعد ما فكَّر في الأمر: «أعتقد أنها كانت نتيجة الصلة التي نشأت بين هالفاكس وأبناء فرانكفورت.»
واقترحت مسز هوايتهد عليه «أن يروي له النكتة الشائعة في واشنطن عن هالفاكس.»
قال: «إن هالفاكس رجل تقي، ويقولون إنه يقضي مع ربه ثلاثة أيام كل أسبوع، ولكنه يعود من لدنه بأفكار بعيدة عن الصواب.»
وأدَّى بنا شجون الحديث إلى موضوع الأساس المتين الذي تُبنَى عليه فكرتنا عن المساواة بين الناس. إننا نعرف أن الأحياء لا يتشابهون ولا يتساوون، ومع ذلك فنحن نشتهي فكرة المساواة.
قال: «إنها تقوم على القدرات الكامنة عند البشر التي لا تقف عند حد. إن هذه القدرات لا تظهر عند الكثيرين، أو لا يظهر عندهم إلا بعضها، ولكن هذه القدرات موجودة، وليس باستطاعتنا قط أن نعرف ماهيتها، وإليك مثالًا؛ زوج خادمتنا. إنه من سلالة مرتفعات سكوت، عامل بارع في «الشركة الكهربية العامة»، عنده المهارة التي تتطلب الآلات في رفق شديد، ولما كان كذلك، فقد كان أعلى العمال اليدويين أجرًا في أمريكا، وعلى حين غِرة ظهر اختراع يمكن أن يُؤدِّي نفس العمل، فانحط إلى الحضيض، فقصدنا، وكشفنا أن لديه أيضًا إحساسًا بالجمال يدعو إلى العُجب الشديد.»
وقالت مسز هوايتهد: «لما كنا نُقيم في بيتنا بكانتون كنت أُرسِله إلى المدينة لينتقي لي المفارش والأقمشة، وكان يعمل في حديقة أزهارنا حتى العاشرة مساءً، وكنت لا أستطيع أن أقِفه عن العمل إلا إذا هدَّدته بالفصل، وكان دائمًا يُرتِّب الزهر عندي في أوانيه.»
ثم تناوَل هوايتهد الحديث فقال: «إن هذه الصفات تكمن حتى تُظهِرها الظروف. وأرجو ألا تفهم من ذلك أني لا أقول بأن هناك قدرًا كبيرًا من الغباء، ولكن أصحاب الخيال من الناس إزاء هذه الإمكانيات التي لا حد لها يُؤثِرون أن يتحفظوا في أحكامهم. ولم نعرف بعدُ مدى امتزاج ما عند الإنسان من قدرة بما لديه من عجز.»
– «إني أُعبِّر لنفسي عن ذلك بقولي إن الأشياء التي لا نشترك فيها — بوصفنا بشرًا — لا تُقاس إلى الأشياء التي نشترك فيها.»
قال: «إنك تتحد معي في وجهة النظر.»
– «جئت من مدينة صغيرة إلى عاصمة كبرى، وبعدما زالت عني الدهشة الأولى لاحظت حقيقتَين رئيسيتَين؛ أولاهما أن المُبرِّزين من الرجال ينبثون في كل طبقات المجتمع، في أسفله ووسطه وأعلاه، وبغض النظر عن التعليم؛ والأخرى أنه لولا ما في قلوبهم من حب للسلام، لما استطاعت الشرطة في الولايات المتحدة مهما قويت شوكتها أن تحول دون أن يُبيد كل منهم الآخر. ألا يدل ذلك على أن أكثر الناس حسنو النية ولا يحتاجون إلا إلى مجموعة من القواعد يسيرون وفقًا لها؟»
قال: «إنه من قبيل التلطف أن تصف الناس بحسن النية؛ فهناك عنصر الشر قائم في نفوس الأفراد والمجتمعات على السواء، ومن العسير أن تُعالِج هذا العنصر عند الأفراد، وأشد منه عسرًا حينما يُصاب المجتمع بأسره بالشر ويضل السبيل. إننا جميعًا نعيش في حماية الشرطة حتى في الدولة المُسالِمة، ونستخدم القوة نقمع بها صانعي الشر، ولكنك تُلاحِظ أننا حينما نريد أن نُعالِج الأمر لا نتجه إلا صوب الحالات الاستثنائية، كالفتاة المسكينة التي يختطفها وغد دنيء ويعتدي عليها. ولكن من ذا يستطيع أن يقول في الحالات التي لا تبلغ حد الشذوذ متى على وجه التحديد نستخدم القوة، وفي أي الحالات على وجه التحديد نستدعي الشرطة، ومتى على وجه التحديد نلجأ إلى القانون؟»
– «لقد رأيت أسرتي — وهي في الطبقة الوسطى — تُخطئ خطأً شنيعًا في هذا.»
– «إننا نجد أفضل الأخلاق، وأحسن المعايير — في مختلف الطبقات في إنجلترا — عند المستويات العليا من العمال، وعند الأفراد الأرستقراط من أصحاب الضمائر والمواهب. أما فيما بين ذلك فإن كثيرين جدًّا من طبقات أصحاب المهن والتجارة قُساة، ظالمون، جشعون، أجلاف، وأحط من هؤلاء خلقًا، بأي معنًى من معاني الخلق الصحيح. وإني لجِد فخور بالطريقة التي تُقابِل بها إنجلترا هذه المحنة، وقد كتب إليَّ نورث أنه عندما ظهرت في لندن لافتات الأنباء مُعلِنة أن خطاب روزفلت الذي ألقاه منذ ثلاثة أسابيع سوف يرفع من الروح المعنوية في بريطانيا، اكتفى المارة في الطرقات بتبادُل النظرات وعبسوا … وذلك كل ما كان لخطاب الرئيس الأمريكي من الأثر. إنهم يخوضون معركة ثرموبيلي أو مارانون، ولا يستطيعون أن يُميِّزوا أهي هذه أم تلك، ولكنهم على أي الحالين لا يُفكِّرون في الاستسلام، وأظن أنك سوف تجد — بعدما تنتهي المعركة — أن أخلاق الطبقة الوسطى ستُخلي السبيل لمزيج من الطرازَين الآخرَين من الأخلاق، وأن النتيجة سوف تعلو علوًّا كبيرًا.»
– «لو سألتني من أين تأتي أخلاقنا الأمريكية، لشق عليَّ الجواب؛ فنحن من أجناس مختلفة وأصحاب ضروب متنوعة من التقاليد.»
قال: «إن الشفقة إحدى صفاتكم هنا. إنكم تفترضون أن يُعامِل الناس جميعًا بعضهم بعضًا في رفق. ولم أزُر قط في حياتي مكانًا رأيت فيه الشفقة بمثل هذا الشمول، ولست أعرف مجتمعًا — قديمًا أو حديثًا — قامت فيه حالة شبيهة بهذه الحال، ولا أتردد في القول بأن الولايات المتحدة أرفع مجتمع — على مستوى عالٍ — شهده العالم في تاريخه.»
– «دعني أرد عليك في هذا؛ لقد ذكر لي مثل هذا القول جلبرت مري على ضفاف تشارلز في خريف عام ١٩٢٦م، كما ذكره لي لفنجستون في نيوهافن في عام ١٩٣٤م، وأجبتهما بقولي: إننا لم نُعانِ بعد ضغط السكان؛ ومن ثَم لم نُعانِ بعد الضغط الاقتصادي الذي تُعانونه في أوروبا. فالشفقة هنا لا تُكلِّفنا مثلما تُكلِّفكم؛ ومن ثَم فهي ليست حسنة من الحسنات التي نتميز بها.»
وأجاب هوايتهد باسمًا: «لقد ذكرت ذلك كحقيقة من الحقائق فحسب.»
وواصل حديثه قائلًا: «أعتقد أن طوائفكم البروتستانتية قد وقعت في هذا الخطأ، وهو أنهم حرصوا أشد الحرص على ألا يُعلَّم الناس شيئًا يُخالِف هذه الطوائف. إنك في بضعة وثلاثين مذهبًا تحدَّرت إلينا في شكل أديان من أصول يونانية سامية، تجد عناصر مشتركة فيها جميعًا إذا استثنيت بعضًا منها مما يُخالِف مخالفة صارخة. إنها جميعًا — مهما يكن من أمر — ترتكز على قواعد ثابتة، أو هي — إن شئت — تصبُّ في تيارات مشتركة، وتمتزج في قانون خلقي عام، فتُصبِح ذات قيمة لا تُقدَّر في تربية النشء. وأعتقد أن الوحدة الخلقية في إنجلترا اليوم تستند إلى عقائد بسيطة قليلة، يقبلها كل فرد. إن المدرسة تُحسِن صنعًا إذا هي بثَّت في نفوس النشء مبادئ خلقية تسود البيت كذلك ويتعلمها فيه، ولا يلزم أن تكون هذه المبادئ كثيرة أو شديدة التعقيد، إنها لا تعدو أن تكون المبادئ العملية في الحياة؛ ومن ثَم يكون أساس صحتها، وذلك — فيما أظن — ما تفتقرون إليه هنا في الوقت الحاضر.»
قلت: «ما في ذلك شك. وإن المرء ليرى ذلك من ناحيتَين؛ فهناك الجيل الصاعد الذي لا يعرف الاقتباس من الإنجيل أو الإشارة إليه، كما أن التقاليد القديمة كذلك آخذة في الزوال.»
وقالت مسز هوايتهد: «إن هؤلاء المساكين لا يعرفون إلا قليلًا عما حدث في العالم من قبلهم، وعما احتمل الناس وكابدوا وتغلَّبوا عليه، وقهروه، حتى إنه إذا ما اختل وجه من أوجه حياتهم الخاصة الصغيرة، ظنوا أن الدنيا قد تحطَّمت، وألا سبيل إلى العلاج سوى الانتحار، مهما أدَّى ذلك إلى البؤس والشقاء في كل ما يُحيط بهم … إنكما حينما كنتما منذ لحظة تبحثان في أساس اشتهائنا للمساواة الإنسانية، أردت أن أصيح: غفر الله لكما، فأنتما آثمان مسكينان، ارتكب كلٌّ منكما ذلك الإثم الذي يرتكبه الرجال عادةً في حق الروح القدس، إثم محاولة الهبوط باللامحدود إلى قانون محدود يقبله العقل. ما أشدَّ عجَبي منكما! هلا عرفتما أن شدة رغبتنا في المساواة تنشأ من حنان الطبيعة البشرية، من غرابتهما، مما فيها من فكاهة، ومأساة، من عجزنا عن تفسيرها؟ إنها لا يمكن أن تُصاغ في قانون، هي كذلك كما خُلِقت، لا نستطيع أن نفعل بها شيئًا. نحن خياليون، ونحن عاطفيون، ونحن في حال تدعو إلى السخرية، وإلى الأسى، نحن إنسانيون، وكل ما نستطيع عمله — إن كانت لدينا ذرة من العقل — أن نُدرِك الحقيقة وهي أن ليست المساواة إلا شعورًا وعاطفة.»
– «ذلك بالضبط ما كنت أقول يا أفلن.»
– «نعم في منطقك الدقيق، في حين أنه أبعد ما يكون عن المنطق.» ثم هزت رأسها نحوَنا بشدة وقالت: «تلك هي المساواة التي بيننا جميعًا في أعماق نفوسنا!»