المحاورة الثانية والعشرون
٣٠ من أغسطس ١٩٤١م
صباح صائف ذهبي. وقد حدَّدت بموعد سابق مع آل هوايتهد ساعةَ وصولي إليهم بالحادية عشرة والنصف. وقد تم الآن شفاء الأستاذ هوايتهد تمامًا من وطأة التهاب الرئة، وكان بادي الصحة بشكل غير مألوف. وذكرت له ذلك.
فقال: «إن الناس يقولون لي هذا، ولكن آثار المرض ما زالت مُتخلَّفة في جسمي.»
– «لعلك تتعلم من ذلك ألا تُصاب بعد اليوم بالالتهاب الرئوي.»
وأمَّن على هذا المزاح قائلًا: «أجل، لا بد أن يكون لكل أمر درس.»
– «إن نيتشه — الذي اختص بالملاحظات المُنفِّرة — له ملاحظة مُؤدَّاها أن الألم قد يجعل من الرجل إنسانًا أعمق، ولكنه لا يجعل منه إنسانًا أفضل.»
فقال هوايتهد: «إن الهم قد يُكسِب المرء لونًا من ألوان الإشراق؛ لأنه يشحذ المواهب، ليس غير. إنه يجعل جميع انطباعات الإنسان أشد غزارة … وقد كنت أفكر أخيرًا في العادة الشعبية، كيف تتلون بلون الزمان والمكان، ولكنها — في النهاية — تبلغ غايات مُتشابِهة؛ ففي إنجلترا إذا حدث خطأ من الأخطاء — كأن يجد المرء نارًا في حديقة — تراه يكتب إلى مُحامي الأسرة كي يتخذ الإجراء القانوني، فإن حدث هذا في أمريكا اتصل تليفونيًّا بقسم المطافئ؛ وهذا التصرف وذاك كلاهما يُشبِع حاجة من خصائص الشعب؛ هي في إنجلترا حب النظام وتطبيق القانون، أما هنا في أمريكا فإنكم تُحِبون التصرف الحي، الحار، السريع …»
– «والذي يصحبه الضجيج! شهدت ذات يوم في شارع الدولة جهاز المطافئ يتحرك، وهو يتألف من ست قطع؛ فأُخلِيت الطرقات، ولزم شرطي المرور مكانه لا يتحرك من شدة التنبه، ووقفت الجماهير ترقب ما يجري. وكانت سرعة السيارات وأزيزها هائلة — وكل امرئ في غاية السعادة — وأخيرًا تبيَّن أنه لم يكن هناك حريق.»
وواصل هوايتهد حديثه قائلًا: «هذا ما رميت إليه؛ فإن كل وسيلة تُؤدِّي ما يُؤدِّيه غيرها، ويرجع ذلك إلى أن تسعين في المائة من المشقة سيكولوجي؛ فعندما يتأكد المرء أن العملاء المُكلَّفين بالعمل قد شرعوا في اتخاذ الإجراء الضروري إزاء حرائق الحدائق، انصرف إلى عمله رضيَّ النفس.»
قلت: «منذ عام ١٩١٠م — في هذا البلد على الأقل — بات لزامًا علينا أن نعترف بعامل جديد، هو الطبيب النفساني، ولكن ما مدى الجِدة الحقيقية في علم الطبيب النفساني؟»
وقال هوايتهد: «كان لدى الكاثوليكيين بعضه خلال تاريخهم في فكرة الاعتراف. كنت منذ عهد قريب أقرأ — أو قُل أُعيد قراءة — كتاب «لغز الجزويت» من تأليف أ. ج. بويدبارت، وهو ينتقد مذهبهم فيما يُسميه «علمهم النفساني الزائف»، وبحثت عنه في الدليل، ووجدت أنه قام بأعمال يستحق عليها التقدير، ولكنه لا يُقِر لمذهب الجزويت إلا بالفضل القليل. ورأيي أن هذا المذهب لا بد أن ينطوي على فضل أكثر مما نُسِب إليه، وإلا لما ازدهر كما عرفنا.»
– «أليس هذا مثالًا لأن لكل شيء تقريبًا وجهَين، سواء في ذلك الحقيقة المجردة والنظام المُتبَع؛ فهو من ناحية لا يُحتمَل، ومن ناحية أخرى مُرضٍ مقبول.»
– «اليقين الصارم هو الذي يقضي على الحقيقة. وأرجو أن تُلاحِظ أنني لا أعيب اليقين ولكني أعيب صرامته. حينما يقول الناس عن أمر من الأمور: هذا كل ما هنالك مما يُعرَف أو يُقال عن موضوعٍ ما. وعند ذلك ينتهي البحث، حينما يقول الناس ذلك كان فيه الموت بعينه، وربما لا يصدر الشر عن المُفكِّر نفسه، وإنما يصدر عن استخدام تابعيه لتفكيره؛ فقد أعطانا أرسطو — مثلًا — المنهج العلمي (كما قدَّم كذلك في علم الأخلاق بحوثًا لها قيمتها) ولكنه — أساسًا — كان الرجل الذي ابتكر طرائقنا في البحث العلمي (وفي الملاحظة كذلك)، ولكن فروضه المنطقية، وتعاليمه في التعليل الصحيح — التي ورثتها أوروبا — لا تصلح إلا في حدود إطار المنطق الرمزي، فلما استُخدمت في أوروبا بلَّدت العقول أجيالًا بأسرها من الدارسين في العصور الوسطى. لقد اخترع أرسطو العلم، ولكنه هدم الفلسفة.»
– «هل ترى أن أهم ما يُميِّز ما أضافه أفلاطون إلى طرائق التفكير هو الرغبة المُلِحة في متابعة الجدل إلى حيث يُؤدِّي، كما جاء على لسان سقراط في المحاورات؟ وقد يبدو ذلك غاية في البساطة، ولكن قلَّ من الناس من يفهم كيف يسير وفقًا لمعناه. إن المشكلة الواحدة — مثلًا — في «محاوراته» تُقلَّب على كل وجه، ويُدلي فيها الكثير من الناس كلٌّ برأي.»
فقال هوايتهد: «إن العلماء الألمان الذين درسوا أفلاطون في مُستهَل القرن التاسع عشر ضلوا السبيل في رأيي، والظاهر أنهم كانوا يرون أن عددًا من الجهال قد قدَّموا لنا آراءً لا معنى لها حتى جاء سقراط أخيرًا ووضع الأمور في نصابها. ولست أعتقد أن هذه هي الحقيقة بتاتًا. حينما يشترك في النقاش عدد من المُحترِفين المُختلِفين، كانت خبراتهم متنوعة تنوعًا يُؤدِّي قطعًا إلى إضافات جديدة إلى الفكرة التي يضعونها موضع الجدل، وربما لم يكن أحد منهم صاحب الكلمة النهائية، وربما جانَب بعضهم الصواب، ولكنهم — مجتمعين — يُلقون ضوءًا على الموضوع. وقد لا تقبل آراءهم، ولكنهم يستحقون الدرس. وأعتقد أن في مكتب صحيفتكم الكثير من أمثال هذه المناقشات …»
– «إن اجتماعات المُحرِّرين اليومية ليست إلا كما ذكرت. وقد نما تداوُل الرأي على شكل المحاورات الأفلاطونية بدرجة لم نألفها من قبل، خلال سنوات عديدة وأعتقد أني ربما بهذا بدأت أن أفهم الطريقة الأفلاطونية في الجدل.»
– «بهذه الطريقة يتكشف الموضوع، وتُعطى الآراء المختلفة حقها، كما يشعر المشتركون في الحوار أنهم بذلوا جهدهم في سبيل غاية طيبة، حتى وإن لم يبلغوا نتيجة مُحدَّدة.»
– «هل تعتقد أن هذه الطريقة قد وُجِدت في أثينا قبل أفلاطون؟»
– «أُرجِّح ذلك. إن عز أثينا قد سبق أفلاطون بقليل، في عهد كُتاب المأساة الثلاثة العظام، وقد كان أرستوفان واحدًا منهم. وأعتقد أن الثقافة تبلغ غاية ازدهارها قبل أن تبدأ في تحليل نفسها. وقد كان عصر بركليز — كما كان كُتاب المسرحية — تلقائيًّا، لا يشعر بوجوده.»
– «إن الروح التحليلية سرت في يوربديز، وهو آخر الثلاثة، كما تلمس فيه كذلك قدرًا أكبر من طريقة الحوار؛ إذ كان هذا الكاتب المسرحي يُقدِّم هذه الفكرة أو تلك، لا باعتبارها رأيًا نهائيًّا، ولكن لكي تجد طريقها إلى التعبير.»
– «كم من الناس شهد هذه المسرحيات؟»
– «ما يقرب من عشرين ألفًا في أثينا، بالرغم من أن المواطنين كانوا أكثر من ذلك عددًا، وربما بلغوا مائة وخمسين ألفًا. وإني لأتصورهم جالسين من مَطلع الفجر حتى الظلام في يوم من أيام مارس التي تُنسَب إلى ديونيسيا الأعظم يشهدون ثلاث مآسٍ تتبعها مسرحية هزلية، لثلاثة من الشعراء المُتنافِسين، ولا بد أن تكون «أورستيا» لأيسكلس إحدى هذه المآسي الثلاث. أين في عالمنا الحديث المُشاهِدون الذين يستطيعون أن يستسيغوا كل هذا؟»
قال هوايتهد: «لقد كان للطباعة أثر هدَّام؛ فقبل أن تكون الصحيفة للعقل عونًا كان عليه أن يقوم بعمل أشق. وإذا تذكرت أن الأسرى الأثينيين من بعثة سرقسة قد نالوا حريتهم لأنهم استطاعوا أن يتلوا من الذاكرة أناشيد مختارة من يوربديز، عرفت أنه من الجلي أنهم لم يذكروا مقطوعات قصيرة من النص الأصلي.»
– «هل ترى أن منظر أكداس الكتب في المكتبة مما يُثبِّط الهمم؟ وهل لو عرف المرء كل ما في هذه الكتب أصبح أفضل مما كان، أو أسوأ مما كان؟ أو لعلنا نستطيع أن نسأل هذا السؤال: هل يمكن للمبالغة في القراءة أن تُضعِف فعلًا جهاز التفكير عند الإنسان؟»
فقال هوايتهد: «إني أقرأ ببطء شديد، وأجد أنهم يُشيرون إليَّ أحيانًا بالرجل «المُطلِع». والواقع أني لم أقرأ عددًا كبيرًا من الكتب، ولكني أفكر فيما أقرأ، فيثبت في ذهني.»
(وإذا تذكَّرنا حجم مكتبته في بيت كانتون، وفي مسكنه براندور هول، بل وهنا في فندق أمباسادور، حيث تفيض الكتب من حجرة الدرس إلى حجرة الطعام، بل حتى لو حصرنا العدد فيما كان بين أيدينا؛ إذا تذكَّرنا ذلك عرفنا أن ملاحظته عن قلة ما قرأ من كتب ليس إلا أمرًا نسبيًّا.)
– «وما رأيك في هذا الاهتمام الحديث ﺑ «السرعة» في القراءة؟»
– «ليست السرعة ديدني، ثم إني في بعض قراءاتي أُغفِل بعض الصفحات؛ فأمس مساءً — مثلًا — كنت أقرأ هذا الكتاب الذي أراه في حجرك عن الجزويت، ولما وجدت في بدايات الفصول المتتالية أن المؤلف لا يُغيِّر وجه الموضوع الذي أدركت من قبل مغزاه، لم أتردد في الإغفال.»
ثم انتقلنا إلى الحديث في نوع الكتاب الذي يُحتِّم على قارئه أن يقوم ﺑ «عملٍ» ما إن كان يرمي إلى الإفادة مما يقرأ. إن «تأملات» ماركس أوريليس يمكن أن تُقرَأ كلها في بضع ساعات، غير أن نقل ما في هذه التأملات إلى فكر وعمل قد يكون شغل الحياة كلها.
ثم سألت: «هل طرأ لك — بعد الحياة التي عشت والعمل الذي أديت في المجتمعات العملية — أن المرء قد يُبالِغ في تحصيله الدراسي؟»
قال: «إن الجامعات تُشبِه كل أداة ضرورية أخرى، مثلها مثل السلاح، لا بد لنا منها، وإنه لَيتعذر علينا أن نُتابِع ثمرة الحضارة بغيرها، ولكنها — برغم قيمتها القصوى — قد تكون كذلك شديدة الخطر. إن هارفارد لم تحتفظ بمكانتها العالية كقلعة من قلاع الفكر إلا بسبب مدارس الخريجين، حيث تقترن المعرفة بالعمل.»
– «شغلتني أخيرًا فكرةٌ أودُّ أن أعرضها للنقد، وهي أن تأثير الفكر الديني في أمريكا في القرن التاسع عشر كان لا يزال قويًّا. فلما أقبل القرن العشرون، وظهرت العلوم، ثم نشبت الحرب العالمية الأولى، ضعف هذا التأثير، وانتقلت القيادة إلى علماء التربية حوالَي عام ١٩٢٠م. أما الآن فإن دلائل كثيرة تُشير إلى أن القوة الدافعة في المدنية الأمريكية — بعد نحو جيل — قد يتولاها رجال الفن، وأنا أستخدم الكلمة هنا بأوسع معانيها؛ المُبدِعون.»
فقال: «إن تواريخك تُحيِّرني بعض الشيء، ومن رأيي أنه قد مرَّت بكم من قبلُ فترتان سعيدتان من الانتعاش في هذا البلد؛ إحداهما في إنجلترا الجديدة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، حينما نعمتم حقًّا بعصر من أعظم ما مر بالدنيا من عصور، وإن يكن لم يبلغ بعد من الشهرة ما يستحق، والأخرى في أعقاب القرن الثامن عشر، عند تشكيل دستوركم الأمريكي. ولست أعني أن واضعي الدستور كانوا يقومون بعمل مُبتكَر من جميع نواحيه؛ فإن بعض آرائهم قد انقضت عليه من قبل مائة عام — وربما يعود إلى لوك — أو إلى ما قبل ذلك، ولكنها كانت آراءً فريدة؛ لا لأنها فصلت ما يُتبَّع من إجراء، ولكن لأنها وضعت مبادئ عامة تسير عليها دولة ديمقراطية عظمى. ولست أعرف سوى مثالَين اثنين تم فيهما بطريقة واعية عمل بمثل هذه الضخامة؛ هذا أحدهما، أما الآخر فقد تم طبقًا لمبادئ لا تُحقِّق لك، ولا تُحقِّق لي، مُثُلنا في الحرية؛ ولكنه — بالرغم من هذا — أنقذ المدنية، وورَّث الأجيال القادمة رأيًا جديدًا حتى للعصور الوسطى، التي مكَّنت مؤسسات الأديرة من نقل الميراث القديم، وأقصد حينما كان أغسطس قيصر لا يتوجه بالخطاب إلى طبقة النبلاء الصغيرة، أو الرعاع الذين لا يُعتمَد عليهم، وإنما يتوجه به إلى الطبقة الوسطى المتماسكة، أولًا في روما وإيطاليا، ثم في الإمبراطورية بأسرها فيما بعد. إن أحدًا لا يُعجَب بنظام الحكم الإنجليزي من كل قلبه مثل إعجابي، وكذلك لا يستطيع أحد أن يقول على وجه الدقة في أي وقت ظهرت فكرة الملكية المُقيَّدة؛ فإن الفكرة قد نمَت بغير وعي، ولم تكن فكرة من ابتداع شخص بعينه أو زمن بذاته، غير أن نظام أغسطس ودستوركم الفدرالي كانا ثمرة لجهد واعٍ. والنظام الإنجليزي — فوق هذا — يصعب نقله، ولم يستطع أحد أن ينقله بصورة ناجحة إلا الشعوب التي هي من أصل إنجليزي، والتي أنشأت مجتمعات استعمارية، في أماكن مثل أستراليا، وأفريقيا، وأمريكا الشمالية.»
– «من الواضح أنك تستعمل لفظة [الفنان] بمعنى خالقي الدول العظمى.» فواصل هوايتهد حديثه قائلًا: «وأنت تستعمل كلمة الخلق بالمعنى الذي أُعطيه لكلمة [الجِدة]. منذ مائة ألف عام — أو ما يقرب من ذلك — فلا يعرف أحد متى كان ذلك. خطا الإنسان خطوة في تطوُّره تمخَّضت عن تقدُّم سريع، تلك هي قدرة الإنسان على الابتداع، قدرته على التجديد، حبه للمعرفة، وميله إلى البحث، وأخشى على الإنسانية من فقدان هذه المقدرة، ومن الأماكن القليلة التي لا تزال فيها هذه المقدرة طليقة هنا في الولايات المتحدة. ولست أقول إنه ليست هناك وسائل تستطيعون أن تُحرِزوا فيها تحسنًا؛ فأنا أعتقد أن هناك مناطق تُحسِنون لو خفضتم نسبة القتل فيها، ولكنا حتى مع اعتبار شيكاغو في أسوأ ظروفها، في العقد الثالث من القرن العشرين، قبل أن تتدخل السلطات عندكم وتُوقِف الحوادث عند حد، ولكنا — مع ذلك — نستطيع أن نقول إن الحياة عامة، حياتك وحياتي، أقلُّ تعرُّضًا للتدخل وأقل تعرضًا للخطر هنا منها في أي مكان آخر فوق الأرض. إن الظروف لا تُلائم تقدُّم المواهب إلا في عصور سعيدة مُعيَّنة، وفي بلاد مُعيَّنة، كبلاد اليونان في القرنَين الخامس والرابع قبل الميلاد، وروما في القرن الأول بعد الميلاد، وحتى حينئذٍ كان مقدار المواهب التي استنبطتها الظروف المُلائمة المُؤقَّتة محدودًا؛ فإن المواهب الكامنة كلها، أو الأفراد الموهوبين جميعًا، لا يجدون التشجيع المطلوب، وحينما تحل هذه الأوقات السعيدة، لا نعرف كيف نُطيل أمدها.»
فعلَّقت بقولي: «إن الدراما لعهد إليزابث لم تدُم طويلًا، وقد بلغ ازدهارها ذروته فيما بين عامَي ١٥٩٠م و١٦١٢م، وما إن هلَّ عام ١٦٢٠م حتى بدأت في الذبول.»
قال: «كانت بذهني هذه الفترة بعينها. إن الفن يزدهر حينما يكون هناك إحساس بالمغامرة، إحساس بأن شيئًا لم يتم عمله فيما سبق، إحساس بالحرية التامة للتجريب. أما حينما يدخل عنصر الحذر، فعندئذٍ يحدث التكرار؛ وفي التكرار، موت الفن. كانت عندكم هنا في أمريكا فترة طيبة حتى حوالَي عام ١٨٦٠م، وبعدئذٍ ساد الاعتقاد بأن الشيء لا يكون حسنًا إلا إن كان مُستورَدًا من أوروبا.»
– «أجل، وإنك لتُحِس أن الرجال من أمثال أمرسن وثورو كانوا يُنحُّونهم عن هذه العقيدة. أما بعد منتصف القرن فقد انتشرت الفكرة كما ينتشر الوباء.»
قال: «إن الحربَين العالميتَين قد حطَّمتا أوروبا وحرَّرتا أمريكا.»
– «إلا إذا انحرفنا من جرَّاء افتقارنا للتجانس العنصري؟»
– «بل إن الأمر على نقيض ذلك؛ فقد كان هذا الافتقار لكم كسبًا، ولست أعرف حالة في التاريخ شبيهة بحالتكم، التي جمعت النفوس الحية المغامرة من مختلف الأجناس في بيئة ملائمة لخلق ثقافة كبرى، اللهم إلا في حوض البحر المتوسط في القرنَين الخامس والرابع قبل الميلاد (وهو ألمع عصوره)، حينما كان الإغريق والفينيقيون والإيطاليون وغيرهم ممن لا أعرف يشقون البحر في الزوارق يخلطون الأجناس ويُؤسِّسون المجتمعات الجديدة، وإن الأمر لَيدعو إلى العجَب إذا لم تُفيدوا من موقفكم هذا.»
– «لا أعتقد أني أُدرِك تمام الإدراك ما تعني من قولك: إن في التكرار موت الفن.»
– «إذن فخُذ فن البناء مثالًا، لقد نشأتُ في بقعة في إنجلترا هبط فيها كل من جاء إلى بلادنا، من قيصر إلى إرساليات التبشير، إلى الدنماركيين، والنورمان، وغيرهم، وكانت كنيسة أبي مثالًا، وكاتدرائية كانتربري مثالًا آخر (وأستطيع أن أتصور الآن المكان الذي قتل فيه توماس أبكت، وسلاح الأمير الأسود في الجناح الجنوبي من المذبح). وقد اطلعت على الموضوع، ولا أُومِن البتة مع ت. س. إليوت برأيه فيما حدث في كاتدرائية كانتربري، وأُؤكِّد لك أني لا أزعم أني أعرف كثيرًا عن الموضوع، ولكني أُحِس أن الأمر لم يكن كما قال إليوت. إن كل العصور التالية راسخة في تلك المباني؛ جدران الكنائس القديمة، ثم الأقواس النورماندية الثقيلة، ثم الأقواس الغوطية الأخف والأشد زخرفة التي انحدرت من العهد الوسيط، وأخيرًا الأقواس الغوطية المبالغة في الزخرفة التي جاءت من العهد الأخير؛ ولكنك لا تجد تكرارًا، ولم يكن هناك سوى اعتماد طفيف جدًّا على ما سبق، وفي كل عمل بداية جديدة.»
قلت: «كنتَ منذ برهة تتحدث عن موت الحقيقة الذي ينشأ حينما يُحاوِل الناس أن يُقنِّنوها في عقيدة ثابتة أو في نظام قائم يأملون أن يحتفظوا به للأجيال القادمة. وحتى أفلاطون، في شيخوخته على الأقل، كان — فيما يبدو — لا يود أن يجد مجتمعه المثالي فرصته (وربما كان ذلك في الواقع لأنه شهد الكارثة في أثينا). ولكن أليست الصعوبة في كل أمثال هذه المحاولات أن تشعُّب الوجود أفسح مجالًا من أي نظام مهما اتسعت رقعته؟»
قال: «إن الرغبة في نموذج من نماذج الوجود ميل طبيعي شائع جدًّا، وهو ميل إلى أن يكون لتجربتنا معنًى، وتطبيق، وأن يكون لها مغزًى. إن فروض العلم لا تتغير، وقد لا يُمثِّل النموذج شيئًا أكثر من فكرتنا عن حياتنا، كما نود أن تكون، وقد لا يُمثِّل شيئًا أكثر مما نفترضه في عملية علمية، ولكنه لا يُثبِّت أقدامنا؛ فإذا تحدَّثنا عن السذاجة، فالعلماء هم السُّذج، فقد رحَّبوا عدة سنوات بفروض تهدم مزاعمهم السابقة، وقد رحَّبوا بها كشرط من شروط التقدم، في حين أن علماء الدين — وأنا أعتبر علوم الدين المسيحي كارثة من أعظم الكوارث التي حلَّت بالبشر — هؤلاء العلماء لو اعترفوا بأن مزاعمهم قد انقلبت، عدُّوا ذلك هزيمة كبرى لهم (في حين أن موقفهم كان يتزعزع ويتبدل دائمًا، حتى إن عقائد اليوم — في بعض المستويات العقلية — لا تكاد تتفق في شيء مع عقائد الشعب نفسه — أو غيره من الشعوب المماثلة — التي سادت منذ سبعين عامًا.) ولكن الأمر كذلك في العلم إلى حد كبير. وقد انقلب «تقدُّم» العلماء، سواء أدرك العلماء ذلك أم لم يُدرِكوه.»
فأجاب هوايتهد بقوله: «ليست بنا حاجة إلى الخوض في هذا الموضوع، وهو: هل كان المسيح شخصية تاريخية مُؤكَّدة من جميع الوجوه، أم هل كان من أولئك الأشخاص الذين تتعلق بهم حاجات عصر من العصور وأقواله وآماله؟ ويحسن — فيما أظن — أن نبدأ بطبقة وسطى زراعية في فلسطين، سليمة جدًّا، على درجة عالية من الثقافة بالنسبة لزمانهم ومكانهم (كما نقرأ في الكتب المقدسة في الكنائس القديمة، كإنجيل الملك جيمز في الكنائس)، ونبدأ كذلك بمستوًى عالٍ جدًّا من الأخلاق، ثم إلى جانب هؤلاء كانت الزمرة الأخرى في بيت المقدس، التي أستطيع أن أُسمِّيها «زمرة الأساتذة». وقد ظهر في نفس الوقت تقريبًا خطيبان دينيان قويان شعبيان، وهما يوحنا المعمدان ويسوع، وكان كلاهما مكروهًا من الأساتذة في بيت المقدس؛ لأن تعاليمهما انتشرت، وأشاعت قواعد خلقية جديدة أشد نقاءً؛ ولذا فقد أُعدِم أحدهما على يد هيرود، وهو حاكم وطني، كما أُعدِم الآخر على يد حاكم روماني. وفي الحق أنه لم يفعل ذلك بنفسه، ولكنه سمح لغيره أن يفعله. إن تعاليمهما التي ذاعت لم يكن فيها شيء جديد حقًّا؛ فقد عبَّر عن أكثر أفكارهما من قبل الأنبياء القدامى، الذين جرى في عروقهم الدم النبيل — أشعيا وعاموس وأرميا — ولكنهما عبَّرا عنها تعبيرًا مباشرًا قويًّا غير معهود.»
– «وقد قلت من قبل — وربما كان الحديث مُوجَّهًا إليك — إن الاضطراب يبدأ بمُفسِّري المسيحية؛ كان الحواريون قومًا ثابتين إلى درجة تدعو إلى الإعجاب، وكان هناك في مبدأ الأمر أمل بأن تمتزج خصائص الأقطار الإغريقية القوية التي كانت تنتشر في العالم في ذلك الوقت — آراؤهم في الحرية، والديمقراطية، واستنكار الوحشية، وما إلى ذلك — كان هناك أمل في أن تمتزج هذه الخصائص بخير ما في الفكر اليهودي، الذي لم يكن كل ما فيه بطبيعة الحال بهذا السمو، ولكنه لا يخلو من ومضات الفطرة السليمة التي تنطوي على الخير والرحمة، ثم تبدأ الكارثة بعد ذلك، وتجدها عند كل من تلا من مُفسِّري المسيحية من أغسطين، وحتى عند فرانسس الأسيسي؛ الرقة والرأفة في جانب من جوانب المسيحية، ولكنها تقوم منطقيًّا على مجموعة من الآراء المُفزِعة؛ فقد عاد الإله الجبار القديم، والحاكم الشرقي المُستبِد، وفرعون، وهتلر، وكل ما في العقيدة عندهم يُرغِم المرء على الطاعة من آلام الطفولة إلى عذاب الجحيم. وإنك لتجد عند أغسطين آراءً تدعو إلى الإعجاب، فهو يُشِع الضوء إشعاعًا. ثم إذا أنت بحثت في الأسس العميقة لمبادئه ألفيت هذه الهوة المُفزِعة. كانت قلوبهم على صواب ورءوسهم على خطأ، ولم تنبعث من رءوسهم دعوة طيبة. وتكاد لا تُصدِّق أن العالَمَين — عند سنت فرانسس مثلًا — عالم الخير والرحمة، وعالم الجحيم الأبدي، أمكن أن يستقرا في صدر واحد. هذه الكارثة الدينية هي ما أعني عندما أتحدث عن الشر الذي يترتب على اختفاء روح التجديد، وعلى محاولة وضع الحقيقة في صيغ جامدة، وعلى التصدي للقول بأن «ذلك هو كل ما هنالك مما يمكن معرفته في الموضوع، وبه ينتهي الجدل.»»
– «وربما تحدَّثت إليك من قبل عن المدنية الجامدة في الصين؛ فقد أتى وقت كفَّت فيه الأمور عن التغيُّر، وإن أردت أن تعرف السبب فاقرأ كنفيوشس، وإن أردت أن تفهم كنفيوشس فاقرأ جون ديوي، وإن أردت أن تفهم جيون ديوي فاقرأ كنفيوشس. أراد كنفيوشس أن يتخلص من الآراء السخيفة. إن الحقائق البسيطة ينبغي أن تكفيك، ولا تُضيِّع الوقت في السؤال عن الغايات النهائية من وراء هذه الحقائق (واعلم أني أعجب أشد العجَب بما جعله جون ديوي ممكنًا في تطوُّر جامعاتكم الغربية، وإنما أتحدث هنا عن نتائج مبادئ البراجماتية، أو المذهب العملي.) وهكذا عرف الصينيون الإبرة المغناطيسية. إن الحديد إذا وُضِع في أوضاع مُعيَّنة يجعل المُشير يتجه نحو الشمال. ويقول كنفيوشس: «وينبغي لك أن تكتفي بهذا.» ولكن حينما دخلت البوصلة المغناطيسية غربيَّ أوروبا، ماذا حدث؟ شرع الناس في الحال يُوجِّهون الأسئلة السخيفة: لماذا؟ ما الذي يجعل الإبرة تتجه نحو الشمال؟ ثم تبعت ذلك في الحال نتائج مُثمِرة من كل الأنواع؛ فعلوم الرياضيات التي كادت تكون عديمة الفائدة لمدة ألفَي عام تحوَّلت إلى أداء الخدمات … وما إلى ذلك. وهذه هي الأسئلة «الزائدة بعينها التي تتجاهلها البراجماتية».» ثم ابتسم وقال: «إنك بالطبع إذا ذكرت كتابةً أن الفرد ينبغي أن يُصغى إليه، وأن هذه الأسئلة السخيفة ينبغي أن تُسأل، تنبَّه في الحال ثلاثة آلاف معتوه وضايقوك بخطابات تحوي أسئلة سخيفة فعلًا!»
قلت: «هذا حق؛ لأني ذكرت ذلك كتابةً وضايقني ثلاثة آلاف معتوه بخطاباتهم.»
وواصل حديثه قائلًا: «ولكن المهم هو أن [السؤال السخيف] هو أول إشارة إلى تطوُّر جديد كل الجِدة. هب أننا أخذنا بهذا المبدأ في مجال الأخلاق. وما هي الأخلاق في أي وقت معين أو مكان معين؟ إنها ما تميل إليه الأغلبية في ذلك الوقت وذلك المكان، وسوء الأخلاق هو ما يمقتونه. بيدَ أن [السؤال السخيف] إذا طُبِّق على الأخلاق يفتح الطريق إلى استكشاف غايات قليلة تكمن وراء كل المذاهب الخلقية، وهو مجال لم يتم فيه حتى الآن إلا القليل.»