المحاورة الثالثة والعشرون
١٠ من سبتمبر ١٩٤١م
كنتُ قد ذكرت للأستاذ هوايتهد في أوائل الصيف أني دوَّنت محادثاتِه في مذكراتي منذ عام ١٩٣٣م. وكان يعلم أني قد استخدمت أجزاءً منها بين حينٍ وآخرَ، منقولةً بحرفها تقريبًا في افتتاحيات صحيفة جلوب؛ لأني كلما فعلت ذلك أرسلتُ له عددًا من الصحيفة. ويرجع السبب المباشر — في ذِكر ما قلت له — أن نورث ومارجوت وأريك، ابنه، وزوجة ابنه، وحفيده، كانوا في إنجلترا، واثنان منهما — هما نورث ومارجوت — في لندن تحت وابل القنابل. وفوق هذا الهمِّ الشخصي، كان قلقه على إنجلترا، وعلى أوروبا، وعلى مستقبل الحضارة. وقد عانى من الحرب عناءً شديدًا فريدًا؛ لأنه كان يدرك — أكثرَ من غيره — ما يهدد مستقبل البشرية من خطر.
ولم يَدُر بخَلَدي نشرُ هذه الأحاديث. وإنما كنت أرمي إلى أن أقدم له لونًا جديدًا من الترفيه — مهما يكن وجيزًا — من هذا الجهد اليومي، الذي بدأَتْ تظهر آثاره بصورة واضحة، وقد بدأتُ في طبع هذه المحادثات على الآلة الكاتبة في منتصف الصيف، وكنت أرسلها إليه كلما تم طبعها. وسِرتُ على ذلك في الصفحات المائة الأولى تقريبًا، واستنفدتُ الفترة ما بين ١٩٣٣م و١٩٣٧م، وفي نيتي أن أتابعها في الخريف حتى ألاحق بها تاريخ اليوم.
وكان اليوم الأربعاء، العاشر من سبتمبر من عام ١٩٤١م، وتوجهت إلى كمبردج لكي أراه في الأصيل. وقد بدأَت أشجار الدردار في فِناء الكلية تزدهر قبل الأوان المعتاد، وإن يكن اليوم ما يزال صائفًا حارًّا رطبًا.
وكان مسكنه في فندق إمباسادور في الطابق الخامس، فكان باردًا يتخلله الهواء، والستائر الڤينيسية ترد وهج الشمس. وكان اليوم مما يقضيه هوايتهد في الفراش، فاستقبلَني في حجرة النوم، وهي حجرة بهيجة، تُضيئها الشمس، وجدرانها ملوَّنة باللون الأزرق الفاتح. وقد جلس مستنِدًا إلى الوسادات، وإلى جواره مكتبةٌ صغيرة، تبدو رطبة مريحة.
وكان يُطالع ما تم طبعُه من المحاورات، وقد ألفى في مادتها مضمون أقواله فرَضي عنها، ثم سأل: «كيف تستطيع التذكُّر بكل هذه الدقة؟»
فذكرتُ له خبرتي السابقة؛ إذ كنت في شبابي مراسلًا يَكتب بالاختزال، وقضيت ثلاثين عامًا أتدرب على تسجيل أحاديث الآخرين.
وتصفَّحَ المحاوراتِ المطبوعة، وكان يتوقف هنا وهناك.
ثم قال: «إن آمالك في نشر هذه المحاورات لا تُبشِّر بالخير في الوقت الحاضر؛ لقد انحدرتَ من عائلةٍ طويلة العمر. ولما مات جدي في السابعة والثمانين تنهَّد صديقه القديم سر موزيس منتفيور صائحًا: «مسكين هوايتهد؛ فقد اقتُطف في زهرة العمر».»
قلت: «لو استطعتُ أن أستبدل بك كتابًا عنك كانت صفقةً خاسرة.»
– «لقد اقتضَبْتَ ملاحظاتِك الخاصة أكثرَ مما أحب.»
– «إن هدفي من الكتابة هو أن أذكر ملاحظاتِك أنت.»
واقترح عليَّ إذا واصلتُ تسجيل الأحاديث في المستقبل، أن أرويَ ملاحظات المتحدثين الآخَرين بدرجة أكثرَ إسهابًا. وتفاهَمْنا دون أن نُطيل الكلام، وكان ما تفاهَمْنا عليه هو هذا: أن الآراء التي يُقدمها المتكلمون الآخرون ضرورية لتدفق الفكر، حتى إن لم تكن ذاتَ أهمية خاصة في حد ذاتها؛ المحاورات تَبادلٌ في الرأي. ولمستُ أنه لا يحب أن يظهر بمظهر المستغرِق في الحديث الفردي أو المحتكِر للكلام، وهو بَراءٌ من هذا وذاك. ولما كانت محاورات، فهي تسير على المبادئ التي أشار إليها في محاورات أفلاطون، حيث تجد متكلمين متعددين يقدمون آراء مختلفة، دون أن يحاول أحدٌ منهم أن يَكون يقينيًّا حاسمًا.
وقلت معتذرًا: «لنعُد إلى الحديث في الهلينية والعبرية، وقد تعتقد أني أكثرتُ من إثارة هذا الموضوع، ولكن عذري — إن صحَّ أن يكون هذا عذرًا — هو أني أنفَقتُ السنواتِ أدرُس العلاقة بين هاتَين القوتَين الأساسيتَين في المدَنية الغربية، وأنت أحد الأشخاص القلائل الذين يمكن أن يَكونوا ذَوي فائدة لي؛ فقد قرأت الكتب وقمتُ بالتفكير، وربما كان لِتَكرار البحث هذه المَيْزة: وهي أن يعود الموضوعُ ناميًا متطوِّرًا، كما يحدث في النغمة المتكرِّرة في القطعة الموسيقية.»
قال: «إن اليهود — كجِنْس — ربما كانوا أقدرَ الأجناس في الوجود. وإذا كان الشخص الموهوبُ ساحرًا، ويستخدم قدرته الخارقة في مصلحة الآخرين، قلنا: إنه نموذج الكمال، وعبده الناس. وعلى نفس القياس، إذا كان هناك الشخص صاحبُ القدرة الخارقة منفِّرًا غير محبوب، فإن قدرته تَزيد من النفور منه ومن كراهيته. ومِن ثَم فإن الأفراد المنفِّرين في هذا الجنس هم الأكثر بروزًا.»
فقالت مسز هوايتهد: «إن نفور الناس منهم لا يَزيد قِيدَ أنملة عن نفورهم من الأنجلوساكسون. وقد نشأتُ في بريتاني، ثم رحلتُ إلى إنجلترا، فكنت حديثةَ التعرُّف بالجنسَين، فأنا إذن على علم.»
قال: «مِن الإنجليز طائفةٌ على يسار، ترتكز على عماد من الملك والأسرة، يمتد تاريخها إلى جيلَين أو ثلاثةٍ مضَت، وهؤلاء ثمرةٌ لخبرة ضيقة، وتعاطُف محدود، عُرِفوا في العالم كله بأنهم قوم يَنفِر منهم الناس.»
قلت: «هذه شخصية يُصورِّها الأدب.»
قالت مسز هوايتهد: «أجل، بل ويصورها أدب بلاده.»
فقال الأستاذ: «وإلى جانب هؤلاء هناك آخَرون على شيء من الضِّيق المالي هم الأبناء الثواني أو الثوالثُ في الأُسَر المتيسِّرة، حُرِموا من الميراث طبقًا للقانون الإنجليزي الذي يُورِّث الابنَ الأكبر وحده. إنهم يَذهبون إلى المستعمَرات، ويُحسنون السلوك، ويَلقَون احترامًا كبيرًا، ويستخدمون مواهبَهم في الإنشاء والتعمير.»
وعدتُ إلى الحديث في أمريكا والفن في القرن الحاليِّ، وهو موضوعٌ لم يتَّجِه وِجهتَه الصحيحةَ في حديثنا السابق.
قال: «إنني لم أقصد أن أُقنِعك بأن الفنان ليس شخصيةً غاية في الأهمية في أمريكا اليوم. الواقع أنكم هنا الآن في موقف يُشبِه في كثير من الوجوه الموقفَ في بلاد البحر المتوسط التي تقع حول بحر إيجه فيما بين عام ١٠٠٠ق.م وعام ١٠٠ بعد الميلاد على وجه التقريب. كان هناك يُسرٌ شديد في النقل المائي، تُسهِّله مجموعة من الجزر ذات موقع مناسب. وقد ساعد ذلك على نقل الأفكار وامتزاج الأجناس الموهوبة. إن الجنس [النقي] يُرجَّح أن يكون غبيًّا — مثل أهل لاسديمون — ولكنك إن مزَجتَ عنصر آتكا مع الغُزاة الدوريِّين أو أهل أبونيا بالآسيويِّين، وصلتَ إلى نتائجَ باهرة. وأعتقد أن المكان الوحيد الذي زُرتُه ووجدته شديدَ الشبه بأثينا القديمة هو جامعة شيكاغو. ومِن ثَم ترى أنني أبحث عما يُضارع عندكم في أمريكا ما كان في البلاد التي تقع حول بحر إيجه، وأعتقد أن ذلك يتحقَّق في الغرب الأوسط.»
قلتُ: «من الناحية الجغرافية قد يكون الغرب الأوسط عندنا كبلاد بحر إيجه. ولكن وسيلة النقل هنا هي السيارة.»
قال: «إن الحوادث الكبرى، وهي النقاط التي يَنتقل منها تاريخُ البشر انتقالًا جديدًا، هذه الحوادث، قلَّما تكون — بل هي لا تكون قطُّ — ثمرةً لسبب واحد، إنما هي تنشأ حينما يجتمع سبَبان أو ثلاثة. وأضف إلى سيارتكم انهيار أوروبا. (ولم يعُد من الضروري لعلمائكم أن يذهبوا إلى برلين أو لندن لكي يتعرَّفوا ما يجري. بل إن ذلك في الواقع أمر مستحيل). ولهذَين السببَين: انهيار أوروبا والسيارة، أضف عاملًا ثالثًا، وهو امتزاج عناصرَ من أجناس عديدة ممتازة هنا، وقد بدأ الأفراد الموهوبون — نتيجةً لهذا الامتزاج — في الظهور. وينبغي ألا ننسى وسائلَ الاتصال والنقل السريع؛ الطائرةَ واللاسلكي، التي وحَّدَت الحياة في هذا الكوكب. ووضعَت أمريكا في قمة المدَنية الحديثة.»
وعاد إلى الحديث في مكانة الفنان في تطوُّرنا القومي، فقال: «وفي الفنون أيضًا، تَنتقِلون انتقالًا عظيمًا حينما يُعالِج البسطاء عندكم — لأنهم شَديدو الاهتمام بمهامِّ الأمور — موضوعًا قديمًا من زاوية جديدة. لقد كان أهلُ البحر المتوسط يمتازون بالبساطة، أمَّا في نيويورك — مثلًا — فإن طراز الرجل الأمريكي يَميل إلى التعقيد؛ إذ إنهم قد سمعوا بكل شيء، ويرَون أن الموضوعاتِ الساذَجةَ قد باتت مطروقة. هذا هو حالهم، ولكن الفن العظيم هو معالجة الموضوعات البسيطة معالجةً جديدة. أي شيء كَثر تَرداده من قَبل كموضوعات مسرحيات شكسبير؟ حقًّا لقد كان يضع حوادثه هنا أو هناك في الزمان والمكان. ولكن شخصياته كلها إنجليزية من عهد إليزابث ينظرون إلى هذه المشكلات القديمة والبسيطة في ضوء الحياة المعاصرة. إن موضوع [هاملت] قصةٌ قديمة، انقضى عليها ثلاثةُ آلاف عام قبل أن يتناولَها شكسبير، ولكن القوم البسطاء يَنظرون إلى كل موضوع نظرةً جديدة؛ ولذا فهم يتناولون الموضوعات القديمة ويَخلقون منها شيئًا جديدًا.»
– «هل تذكر جيته، في أواخر القرن الثامنَ عشر؟ حينما بدأ الناس يُهرَعون إلى أمريكا؛ إذ جعَل أحدُهم يعود من أمريكا إلى أوروبا ويقول: «هنا — وليس في أي مكان آخر — تكون أمريكا».»
فقال هوايتهد: «لقد انقلب الوضع؛ انهارت أوروبا، والمدَنية بين أيديكم، والآن هنا — وليس في أي مكان آخر — تكون أمريكا.»
وتحدث عن الدور الذي قد يَلعبه الكاثوليك في مستقبلنا.
قال: «تكاد الولايات المتحدة أن تكون الميدان الوحيدَ الذي يبشر بالخير ولم يَطرُقوه؛ إنجلترا في القرن السابع عشر، وفرنسا في الثامن عشر، أمَّا ألمانيا وإيطاليا فهما في أيدي الفاشيِّين، وإسبانيا في ثورة، والميكسيك شيوعية، وأمريكا الجنوبية لا تُجْدي كثيرًا. وإني لأَعْجب لنفوذ الأساقفة الأمريكان في روما! إن الماركسية تعتبر اليوم عدوَّهم الأوَّل؛ أقصد قوةَ الدافع الاقتصادي. إنهم لم يتخلَّوْا عن مكانتهم خلال القرون إلا بالتدريج البطيء. كان البابا من عام ١٠٠٠ بعد الميلاد إلى عام ١٥٠٠م — فيما أحسب — أقوى شخصيةٍ في أوروبا، ثم تحداه ملوك التيودور في إنجلترا، ومنذ ذلك الحين فقدَت البابويةُ تأييد البوربون وهوهنزلرن وهابسبرج. وأخذَت الكنيسة المحل الثانيَ بعد الدولة الوطنية. ولكن رجال الدين الكاثوليك يُكيِّفون أنفسهم للظروف الخارجية المتغيِّرة.»
وقبل أن أغادره كُنَّا نتناقش في طرق الإنشاء، وهل ستُسيء الآلة الكاتبة إساءة دائمة إلى كتابة النثر الإنجليزي.
قال: «إن الناس يُنشئون بإحدى طريقتين، وقد لاحظتُ ذلك أوَّلًا حينما كنت أضع كتابًا بالاشتراك مع برتراندرسل؛ كان يحب الكلمات، وكانت الكلماتُ في الواقع تَسُد حاجته الشديدة إلى التعبير، وقد اعترف بذلك. ولكن الناس يُنشِئون إمَّا بالكلمات مباشرة، والكلماتُ تُعبِّر عن أفكارهم عن الأشياء، أو يُنشِئون بالصور العقلية، ثم يحاولون أن يَجدوا الكلمات التي يمكن أن تُترجَم إليها هذه الصور. وأستطيع أن أُضيف إلى ذلك أن طريقتي الخاصة هي الثانية.»