المحاورة السابعة والعشرون
٥ من مايو ١٩٤٣م
قضيتُ المساء عند آل هوايتهد مع إدوارد ويكس، وقد دبَّرنا هذا الاجتماعَ منذ شهور، ولكنَّا لم نَستطع أن نتمكَّن منه جميعًا إلا هذا المساء. ومنذ ظهور مؤلفات هوايتهد في مجلة «أطلنطيق الشهرية» منذ عدَّة سنوات، تم بينَهما التعارف، سواءٌ في العهد الذي كان فيه ألري سد جويك رئيسًا للتحرير، أو منذ أُسنِدَت رياسة التحرير إلى مستر ويكس.
بعدما تناولنا العشاء سِرنا في شارع برسكت حتى بلَغْنا فندق أمباسادور في شفَق مساء من الأمسيات اللطيفة النادرة في هذا الربيع الذي حلَّ بنا متأخرًا بعد عناء شديد.
وقد سألني: أعِنْد آل هوايتهد أحدٌ سواهم؟ ولم أكن أعرف، ولكني تعشَّمتُ ألا يكون. وكانا وحدَهما، مما سرَّني وسرَّ زميلي. المصابيح مُضاءة، والمظلات والستائر مُدَلَّاة؛ لكيلا يتسرَّب الضوء من الخارج، وحجرة الجلوس تَزْدان بالأواني والزهريات التي مُلِئت بأزهار الربيع.
وكانت مسز هوايتهد تُعاني من قبل الْتواءً شديدًا في عَقِبها، يكاد يكون كسرًا فيها، ودهشنا عندما وجَدْناها تسير عليه.
قالت: «إنه يؤلمني، ولكن لا مَناص لي من ذلك …»
وكانت مُقدِّمات الحديث حينئذٍ أقصرَ ما يمكن، وكان قد ظهر في عدد مايو لمجلة أطلنطيق مقالٌ رئيسي لرئيس هارفارد كونانت، عنوانه: «مطلوب: ردايكاليون أمريكان»، ويَقترح المقال اختيارًا ثالثًا يقع بين المعسكرَين القديمَين، راديكالية محلية على مبادئ جيفرسون، تُمجِّد أندروجاكسن، أمرسونية في نَزعة أمرسن إلى «العالِم الأمريكي»، شاعرِها والت وتمان، تحترم ماركس وأنجلز ولنين، ولكنها تَبتعد عنهم. وقد نادى المقالُ بالتخطيط للعالَم بعد الحرب، من حيث السياسةُ الخارجية، والمشكلاتُ الداخلية؛ كمِلكية أدوات الإنتاج، أو السيطرة عليها، واللامركزية، ومُهاجمة المجتمع الطبَقي، ومحاولة إعادة تعريف الثقافة في الحدود الديموقراطية والأمريكية.
ووجَّه هوايتهد السؤالَ إلى رئيس تحرير المجلة؛ قال: ما هو ردُّ الفعل عندكم لمقال مستر كونانت؟»
– «لم يَحِن الوقت بعدُ للحُكم.»
– «أعتقد أنكم تتسلَّمون خمسين خطابًا في بريد كل صباح، يأخذ أصحابُها عليه كتابةَ المقال وعليكم نشرُه.»
– «وما رأيك أنت فيه؟»
– «إنَّ رأيه في إعادة توزيع الثروة في كل جيل رأيٌ جريء، ولا أقول: إنه جديد، ولكنه كما قدَّمه ليس عمَليًّا؛ إنك تستطيع ذلك بفرض الضرائب، غير أن معنى ذلك استيلاءُ الحكومة عليها. إن وجود قدر معيَّن من فائض الثروة في أيدي الأفراد المستقبلين يُعين على إجراء جميع صُنوف التجارِب.»
– «وما مصير الأرستقراطية الإنجليزية صاحبة مِلكية الأرض.»
وأجاب هوايتهد في هدوء: «لقد انتهى مصيرهم، وآلوا إلى الدمار. إن الحكومة تستولي على أراضيهم، وتَسمح لهم بالبقاء في البيوت كحُرَّاس عليها، ولكن الأرض قد تحوَّلَت إلى الزراعة، ولم تَعُد الأشجار تُزرَع للزينة، وإنما لمحصولها، وقد قُطِعت الأشجار الكبيرة لأغراض الحرب، وزُرِعت مكانها أشجار الصَّنَوْبر الصغيرة.»
وتنهَّدَت مسز هوايتهد قائلةً: «إنجلترا، يا بلادي! يَسرُّني ألا أراها ثانية بعد هذا.»
وواصَل حديثه قائلًا: «أشكُّ إن كُنَّا سنقوم بعد الحرب بتِجارة خارجية واسعة كما كنَّا من قبل. ومعنى ذلك أنه ينبغي لنا مضاعفةُ الجهد في الزراعة.»
ثم تحدَّث مستر ويكس، الذي عاد حديثًا من رحلةٍ عبر القارة، عن التصنيع الشامل للغرب، من تكساس على ساحل المحيط الهادي حتى يوجت ساوند، على حساب الولايات الزراعية الداخلية. وكان الحديث مفصَّلًا والاستماع إليه في شغف؛ لأن الموضوع كان أحدثَ من أن يُوصَف وصفًا شاملًا في صحائفَ مطبوعة. وأدَّى بنا هذا إلى مسائلَ خاصة تتعلق بسَير المجلة، وترجع إلى النقص في تموين الورق، وقد أجاب عن هذا الأمر في إيجاز، وإن يكن بوضوح؛ قال: إن الناشرين الأمريكان قد تَلقَّوُا التحذير من زملائهم الإنجليز بألا يَخلقوا لأنفسهم مُنافسًا قويًّا في الجهاز الحكومي، الذي يَستطيع أن يحصل على ما شاء من موارد الورق، كما أنَّ له السلطة التي يُوجِّه بها المطابع.
وفي أحد الأعوام التي تقع بين سنة ١٩٢٠م و١٩٣٠م والمال لا يَزال وافرًا، قيل لي في مكتبة «الركن القديم»: إنَّ عشرين ألفَ كتاب جديد قد نُشِرت في هذا القُطر وحده. ذكرت ذلك، وحددتُ العام الذي حدَث فيه هذا.
وصحَّحَني ويكس قائلًا: «لقد أخطأتَ في ذلك؛ إن الكتب الجديدة بلغَت نحو تسعة آلاف، أمَّا ما عدا ذلك فكان إعادةَ طبعات.»
«حتى إن كانت تسعة آلاف (وهذا ما قَصدتُ إليه) فإنَّ عددًا كبيرًا منها كان، حتمًا، عديم القيمة.»
وقال هوايتهد وقد الْتفَت وراءه إليَّ: «إنك تُجابه رجلًا نشَر اثنَيْ عشَر كتابًا، ثم تقول: إن الكثير منها ما كان ليستحقَّ الطباعة!»
ثم اتجه الحديثُ نحو البحث فيما إذا كان الرجال مِن ذَوي العقل الممتاز ينجَحون كرجال سياسيِّين.
وقال هوايتهد: «إنهم قلَّما تسنَح لهم الفرصُ للتجربة؛ إن نوع الرجل المطلوب لإدارة الدولة، ونوع الرجل الذي يُديرها في أكثر الأحيان، هو ذلك الرجل الذي يُحِس بقوة ما تكون الحاجة ماسَّة إلى عمله، وربما لا يكون صاحبَ عقل ممتاز.»
«وهل لا نستطيع أن نَذكر لذلك استثناءً؟»
فصاح هوايتهد وويكس في صوت واحد: «دزرائيلي!» وبعد بُرهة من التفكير أضاف ويكس إلى ذلك قولَه: «وتوماس جيفرسون مثال آخر.»
وواصل هوايتهد الحديث قائلًا: «إن الرجال الذين أسَّسوا جمهوريَّتكم كانوا يُدرِكون إدراكًا واضحًا بدرجة غيرِ مألوفة تلك الآراءَ العامة التي أرادوا أن يُطبِّقوها هنا، ثم ترَكوا وضع التفصيلات للمفسِّرين الذين جاءوا أخيرًا، وقد كانت — على وجه الجملة — ناجحةً إلى درجة كبرى، ولستُ أعرف سِوى ثلاث مرات في العالم الغربي وجَّه فيها رجالُ السياسة مصائرَ التاريخ، وهم واعون: أثينا في عهد بركليز، وروما تحت حكم أغسطس، وتأسيس جمهوريتكم الأمريكية.»
وقد أثار ذلك البحثَ في هذا الموضوع؛ إلى أيِّ حد يمكن لرجال السياسة الحاكمين أن يَكونوا في الأزمات التاريخية الكبرى مُتنبِّهين إلى ضخامة المصائر التي يتحكَّمون فيها، كان العالم القديم في أشدِّ المخاطر عندما تولى أغسطس حكم روما، ونحن نتساءل: هل كان بإمكانه أن يَتصور على بُعدٍ المخاطرَ التي كان يتعرض لها مستقبلُ أوروبا والغرب؟
قال هوايتهد: «كلا، كان رومانيًّا، فأراد أن يُنقذ الإمبراطورية الرومانية، وترتَّب على ذلك أنْ أصبحَت الإمبراطورية الرومانية عُنقَ الزجاجة التي مرت خلالها ثقافةُ العالم القديم إلى شمال أوروبا وإلى نصف الكرة الأرضية الغربي، والآن بعدَما انقضى خَمسُمائة عام أخذَت مدَنية النهضة الأوروبية تنهار؛ إنك في الحوادث التاريخية العُظمى قلَّما تستطيع أن تُعيِّن سببًا واحدًا؛ إنما تتضافر عدةُ أسباب، لقد سَئِم الروس حكومتَهم القيصرية المريعة المبذِّرة، وكانت ملَكية هابسبرج على أُهْبة السقوط، وكانت فرنسا تتدهور أسرعَ مما قدَّرْنا بكثير، وكان على رأس ألمانيا ذلك الملك المتردِّد ولهلم الثاني، ولعب بسمارك دوره جيدًا، وإنه ليَرْتاع لو رأى الأبعادَ التي بلَغَها الدور الذي قام به. إن انهيار مدَنية النهضة الأوروبية التي دامت خَمسَمائة عام لم يَنجم عن واحد فقط من هذه الأسباب، وكل هذه الأسباب مجتمعة ليست إلا جانبًا فقط من جملة الأسباب، وأضِفْ إليها الثورة الصِّناعية والوسائلَ الفنية العِلمية الجديدة، وباتت المشكلةُ هي هذه: هل تقع هذه الأداةُ بين أيدي قوم أشرار أو قوم من الخيار؟ لقد وقعَت الأداة عند بداية الثورة الصناعية — منذ مائة عام — على وجه الجملة فيما أحسب بين أيدي قوم من خيار الناس نِسبيًّا: لقد استَغلوا الفقراء، ولكنهم — على أقلِّ تقدير — استخدَموا الأداة في الإنتاج. أمَّا في وقتنا هذا فقد وقعَت هذه الوسائل الفنية الجديدة بين أيدي قوم أشرار؛ رجال عصابات مفترسين، وإني لآمُل، بل أعتقد، أن ذلك لن يَدوم طويلًا. كانت كلُّ هذه الأسباب قائمةً مجتمِعة، وكانت الحوادثُ الفردية نتائجَ لها، ولستُ أقول: إن أوروبا قد انتهَت إلى الأبد، بل إنها سوف تستردُّ حيويتها بعد زمنٍ بطبيعة الحال، ولكنها قد انهارت لجيلٍ على الأقل، إن لم يَزِد على ذلك، وأتعشم أن تبقى ثلاثٌ من الدول الحديثة ذات المجتمعات الطيبة، وهي الدنمارك والنرويج والسويد.»
واستطرَد في حديثه عن عنصر المصادَفة في التاريخ؛ كيف أن حملةً بريطانية حربية كانت في طريقها إلى الصين، انحرفَت إلى كلكتا في الوقت الملائِم؛ للمساعدة على إخماد ثورة سيبوي. واختتم حديثه متفكِّهًا بقوله: «الظاهر أن العناية الإلهية في «جانبنا».»
وقال ويكس ضاحكًا: «ولكن العناية الإلهية لا تُحابي.» ثم روى تلك السلسلةَ المتتابعة النادرة من المصادَفات التي وقعَت على نهر هدسن والتي كشفَت عن مؤامرة بندكت آرنولد.
واقتبسَت مسز هوايتهد هذه العبارة من كتاب أرون (أو المدينة المجهولة) لصمويل بتلر: «شاء الحظ أن تكون العناية الإلهية بجانبي.»
ثم عُدنا إلى التساؤل عمَّا هي «المصادفة»؛ إنها تبدو أحيانًا من عوامل الخير، كما تبدو أحيانًا أخرى من عوامل الشر، كما حدث للأثينيِّين قبل صرقسه، وإنها لتَجيء في تتابُع يوحي قطعًا بالترتيب السابق؛ ماذا تقول؟ هل تقع الأسبابُ في أغوارٍ أعمقَ من مجرد المصادفات الهمجية؟
قال هوايتهد: «إنني أميلُ إلى الاعتقاد بأن الأسباب قائمةٌ في كل ظرف، وليست الحوادثُ التي نُشاهدها، والتي تبدو كأنها من فَلتات المصادفة، إلا الخطواتِ النهائيةَ في خطوط طويلة من المسبِّبات.»
وجيءَ بصينية عليها سلة فِضية بها فطائرُ صغيرة، والسلة — كما تدلُّ الكلمات المنقوشة عليها — كانت مُهْداةً لوالد هوايتهد، القسيس، في عام ١٨٥٨م.
ولما كنا قد سمَحنا للمحادثة أن تقف لبضع دقائق؛ فقد توافر الوقتُ للاستمتاع بمشاهدة الحاضرين، وقد جلس ثلاثتُهم في ضوء المصباح المظلل، وبدا ويكس كعادته نحيلًا، أنيقًا قويًّا، وإن يكن على درجة من التنبُّه أكثرَ مما عَهِدنا فيه، أمَّا مسز هوايتهد فقد تمدَّدَت على راحتها، وأشعة المصباح تَسقط مباشرةً على وجهها الذي أكسبَتْه الشيخوخة قوةً في التعبير، وقد ألقت على ركبتيها شالًا مطرَّزًا، وإلى جانبها آنية من أزهار الحديقة، وكانت هي أو ويكس يُدخِّنان سيجارة بين الحين والحين، كما احتفظَت عينا هوايتهد ببريقهما الأزرق دون أن يَنطفئ، وما زالت بشَرتُه متورِّدة، وصوته واضحًا قويًّا رنانًا وهو يتلفَّت أثناء حديثه من واحد إلى آخرَ مِنَّا، وحديثه رزين، صحيح النطق، يَزِن كلَّ أمر من الأمور، والعبارات التوضيحية تُذكَر في وقتها الملائم، لغته محددة، وتكاد تبلغ حدَّ الدقة الرياضية، أمَّا الشباب البادي على وجهه فيَدعو إلى العجب، وكثيرًا ما كان موضعَ ملاحظة الآخرين؛ إنه ضوء الفكر الذي يُكسِبه هذا البريقَ والإشعاع، وهو إشعاعٌ ينتقل منه إلى غيره، فيَقْوى تفكير المستمِعين إليه.
واستُؤنِف الجدل حينما قال هوايتهد: «إن الأمريكان يَهتمُّون بالمساواة أكثرَ مما يهتمون بالحرية؛ إنكم تَفهمونها بمعنًى غير الذي نَفهمها به، ولكنكم أشدُّ قسوة منا بكثير على مَن لا يَرْقون، إنكم تفترضون هنا أن الرجل إذا لم يَرْق فلا بد أن يكون ذلك راجعًا إليه! إن شعور الزمالة بين الطبقات العُليا والطبقات العاملة أقوى في إنجلترا منه هنا؛ إن الطبقات عندنا أشدُّ جمودًا، ولكنك إن كنت تجد فوارقَ الطبقات عندنا تَسير في خطوط أفقية، إلا أن أواصر الصداقة لدينا تمتدُّ في خطوط رأسية.»
وأدى بنا ذلك إلى القول بأنه من الملاحَظ أن الناس هنا يُحاولون أن يتَعاونوا فيما بينهم، وخاصة منذ أن أعادت الحرب الحاليَّةُ توزيعَ السكان.
فقال هوايتهد في نغماته الهادئة: «إن شفقة الأمريكان — على قدرِ عِلمي بهم — شيء فريد في تاريخ العالم، وهي التي تُسوِّغ وجودكم. إن المهاجرين إلى بلادكم، قبل عام ١٨٨٠م وما بعده، حينما صارت الهجرة إليكم تجارةً تقوم بها شركاتُ البواخر، جاءوا إلى هنا أساسًا لأنهم أحبُّوا الفكرة الأمريكية، والواقع أنه ربما كان مِن أسباب انهيار أوروبا أن كثيرًا من القادرين فيها هجَروها وجاءوا إلى هنا، والألمان الذين رحَلوا إليكم في عام ١٨٤٨م من خير العناصر بين سُكان بلادكم.»
وعلَّق على ذلك ويكس، وقد نهَض ليُشعل سيجارة مسز هوايتهد، قال: «إننا لم نُسئْ معاملة أولئك الذين وفَدوا بعد العِقد التاسع من القرن التاسع عشر، بالرغم من أن بعض من أتى بهم إلى هنا لم يتوقَّعوا لهم خيرًا، ومن المحتمل أن يكون عمَلُهم الرخيص قد أثَّر على مستوى معيشة عُمالنا مدى جيلٍ بأسره، بَيْد أن أطفالهم الْتحَقوا بمدارسنا العامة، وتعلَّموا الإحساس الحيَّ بحقوقهم المدنية.»
وقالت مسز هوايتهد: «إن إنجلترا كذلك قد وفَد إليها بعضُ ألمان عام ١٨٤٨م، وإنك لتَجِدهم بين أصحاب المصانع الأثرياء في أماكنَ مثل برمنجهام، ولهم هذه الخاصية، إن من بينهم وحدهم — على حدِّ علمي — تجد في إنجلترا أعداءَ السامية.»
ووافقَها على رأيها مستر هوايتهد، وقال: «كانت عداوةُ السامية نادرة جدًّا، وفي قريتي بكنت كان صديقُ والدي العزيز سرموزس منتيفيور يهوديًّا، ولم يهتمَّ بذلك أحدٌ ما.»
وقالت مسز هوايتهد: «لقد أحببت هذا المكان حينما قدمتُ للعيش هنا، وأنا لا أنقد ما أحب، غير أني ألاحظ قسوةً في المعاملة من الزبائن للعامِلين في المحلات التجارية، وإنه لمن اليسير أن يكون المرءُ شفيقًا كذلك حينما لا يجد لدَيهم ما يَحتاج إليه، إن الشُّبان والشيوخ يُعامَلون مُعاملة ملَكية في عرَباتكم العامة، ولن يُضطَرَّ الشيخ قطُّ إلى الوقوف، ولكن فيما بين هؤلاء رأيت نساءً واقفاتٍ كان ينبغي أن يَجلسن، وبدَت إحداهن كأنها على وشك أن تضَع في ذلك اليوم عينِه … ومن ناحيةٍ أخرى هذا ما يُمكن أن يقع؛ حدَث ذات صيف في قرية بفرمنت أنِ انهارَت سِباكة أحد الأكواخ، وقيل لي: إن السبَّاك رجل غريب الأطوار، مستقلٌّ لا يَعتمد على أحد، وربما أصلَح السباكة وربما لم يُصلِحها! وأرسَلْنا في طلبه على أية حال، ولكنه لم يحضر، وفي الأصيل عندما كان ألفرد نورث في الخارج في مكان ما، وكنتُ أجلس عند عتبة الباب، دخل عليَّ رجل، يلبس قميصًا من الطِّراز الشائع هناك، فقلت له: إن زوجي سوف يعود بعد قليل، ورجَوته أن يصعد وينتظر، وتبادَلْنا الحديث، فوجدتُه مُطَّلعًا وشائقًا في حديثه. وبعد قليل سألتُه: أهو يرغب في تناول الشاي؟ فقال: إنه يرغب. فأتيت به، وتناولنا الشاي، واشتد شغَفي بما كان يقول، حتى قال أخيرًا: «يَجدُر بي أن أفحَص سِباكتَكم.»
«ألم تَشعُري قطُّ مَن يكون؟»
«ربما أمكَن ذلك، ولكن الواقع أني لم أشعر.»
فقال ويكس: «ينقصنا — مع ذلك — شيء واحد، وذلك هو ماضٍ مشهود محسوس؛ إننا نحاول أن نكشفه، ونستخرجه من الكتب، ولكن ذلك يُكلِّفنا جهدًا، وانعدام الماضي هذا تُعزِّزه سهولة انتقالنا، إننا لا نموت قط في البيت الذي نُولَد فيه، وليت الأمرَ يقف عند هذا الحد، بل إنَّا لنَهجُره ونحن ما نزال في سنِّ الصبا، وعندما يعود أحدنا إلى زيارة محلِّ ميلاده يجد أن البيت قد أُزيلَ وأُقيمَت مكانَه محطةٌ من محطات البنزين، ليس في مدينة نيوجرسي حيث نشَأت، وحيث امتدَّت إليها ضواحي نيويورك فبلَغت الريف، ليس هناك سوى «بيتٍ واحد كبير»، ونحن أطفالَ المدينة لم نُدعَ إليه قط لتناول الشاي، وإن كان يُسمَح لنا بزيارة حدائقه، ولكنه كان يمثِّل شيئًا في حياتنا الخيالية.»
وقال هوايتهد: «إن إحساسنا بالماضي في إنجلترا شامل من جميع النواحي، حتى بات لاشعوريًّا عندنا. حيثما اتجَهْنا كان الماضي أمامنا؛ في المباني، والآثار، والتاريخ، والأساطير … وقد يمتدُّ إلى خَمسِمائة عام، أو إلى ألف عام، وهو يدخل بطبيعة الحال في كل ما نفكر فيه، وفي كل ما نعمل.»
ووجَّه إليَّ ويكس هذا السؤال: «كيف كان انعدامُ الماضي هذا في المدينة التي نشأتَ فيها؟»
– «إن ماضيَنا أقلُّ من ماضيكم، وفي [خزان أوهايو الغربي] بناء أُقيمَ منذ خمسةٍ وسبعين عامًا، نَعُده قديمًا، غير أن ما فقَدْناه في الماضي عوَّضناه في المساواة.»
وسأل الأستاذ هوايتهد: «وهل معنى ذلك أن كل مَن جمَع ثروة ترك المدينة؟»
– «لم يترك المدينةَ رجلٌ غني؛ إذ إنه يتحتَّم على المرء أن يَترك المدينة لكي يُصبح غنيًّا.»
وكانت بين الباقين فوارقُ طبقية قليلة غيرُ واضحة، وكلٌّ منهم في أعماقه يُحِس أنه لا يقل شأنًا عن سواه، ما دام يُسدِّد ما عليه من دَين.»
وقال ويكس: «لقد نسيتَ فارقًا طبقيًّا في المدينة الأمريكية الصغيرة، كان قائمًا منذ جيل.»
– «وما ذاك؟»
– «لم يكن إدمانُ الشراب مما يَدعو إلى الاحترام.»
– «هذا حق؛ إن الاستهتار الذي ساد فيما بين عام ١٩٢٠م و١٩٣٠م قد أنساني ذلك.»
ووجَّهَت مسز هوايتهد السؤالَ إلى مستر ويكس، قائلةً: «هل تظن أن هناك احتمالًا لإعادة تحريم الخمر؟»
– «إن أمواج حركة التحريم تكاد تغرق مكتب مجلة الأطلنطيق، وهي تشتد شهرًا بعد شهر. وآمُل ألا يكون هناك خطرٌ من تَكرار الحملة، ولكن الجدل أعمى وأصمُّ بالنسبة إلى أيِّ درس من دروس التجارِب.» ثم سأل هوايتهد عن «تهريب الخمور في إنجلترا، حينما كنتَ تسكن على ساحل كَنْت. هل كان هناك حافزٌ للتهريب، أم هل كان كل ما يُهرَّب يمكن الحصول عليه بنفس السهولة في داخل البلاد؟»
وقال هوايتهد: «كانت تقوم وسط المستنقَعات القريبة من النهر كنيسةٌ قديمة، وكل ما أعرفه عنه هو أنه منذ مائةٍ وخمسين عامًا — أي في عهد نابليون تقريبًا — كانت تأتي عبر هذه المستنقعات كمياتٌ كبيرة من الكونياك والنَّبيذ الممتاز، الذي يُخزَّن في سراديب تلك الكنيسة بموافقة القسيس، وفي أكثرَ مِن مرة، حينما كان يصل النبأ أثناء الصلاة بأن الضُّباط قادمون في الطريق، كان المصلُّون جميعًا يؤجِّلون الصلاة؛ لكي يحصلوا على الشراب قبل أن يَصِل. وكان يُعاوِنهم على ذلك القسيس!» واختتم حديثَه متجهًا إلينا قائلًا: «ويدل ذلك على أن الكنيسة الرسمية كانت تُشارك الناس حياتَهم في إخلاصٍ شديد.»