المحاورة التاسعة والعشرون
١٠ من يونيو ١٩٤٣م
حفلٌ آخرُ لتوزيع الدرجات العلمية أثناء الحرب، وقد أُزِيلَت من فِناء الكلية — حيث عبرت — أخشاب السقالات، التي نُقِلَت إلى المكان الذي تُقام فيه الحفلات في الهواء، وتحوَّلَت رقعةُ الحشيش إلى أرض صلبة من أثر السير عليها بالأقدام. وبدَت كمبردج العِلمية — كأية مدينة جامعية أخرى بعد انتهاء موسم الدراسة — وكأنها قد هُجِرت على حين غِرَّة.
وكان مساءً مُكفَهرًّا، يهطل فيه المطر مِدرارًا وتهب فيه الريح عاتية، وكان هوايتهد وزوجُه وحيدَين، وبدَت عليهما الطُّمأنينة أكثرَ مما عَهِدنا فيهما، وفي لمح البصر تجاوَزْنا مقدمات الكلام وضرَبْنا في أعماق الحديث، ودار الجدل حول الفجوة بين لغة الكتابة ولغة الكلام، بين الأدب وحديث الناس.
وقال هوايتهد: «يُستبعَد جدًّا أن يكون شيشرون قد تحدث إلى أصدقائه بلُغة رسائله، فما بالك بلغة خُطبه؟!»
وأضافت إلى ذلك مسز هوايتهد قولها: «إن العبيد من السكان يُعقِّدون الأمر كذلك؛ فمهما تكن لغة الناس حيةً قويةَ التصوير، فإن المتعلِّمين يتجنَّبونها إذا استعملَتْها الطبقة المستذَلة.»
وقلت: «إن الفجوة تَبدو عميقةً في اللغة الإنجليزية بوجه خاص.»
وقال: إنها ليسَت بالعمق الذي تظن؛ فإن طبقات لندن الفقيرةَ — مثلًا — تُقدِّر شكسبير تقديرًا عجيبًا، ولغته لا تُبعِدهم عنهم البتة، وروحهم الفكاهية من روحه تقريبًا؛ فهم يضحكون مما يَضحك منه، وليس في كل هذا ما يَدعو إلى الدهشة؛ فهم كأولئك القوم الذين كُتِبَت لهم المسرحيات أصلًا. وفي شرق لندن مدرسة للتكنولوجيا كنتُ من لجنة الزائرين بها، ورأيتُ فيها الكثير، وذات مساء رأيتُ معلِّمًا يقرأ صفحةً من الأدب في كتاب مقرر مع تلاميذه، وسأل عن معنى كلمة غير مألوفة من القرن السابعَ عشر، وأجابه أحدُ الشبان إجابةً صحيحة. وسُئِل: كيف عرَف؟ فقال: «شهدتُ مسرحية لشكسبير (وذكَرها بالاسم) في مسرح أولدفك مساءَ الخميس الماضي، وقد استُعمِلَت هذه الكلمة فيها بنفس معناها هنا.»
وقالت مسز هوايتهد: «إن روح الفكاهة الإنجليزية كما تُعبِّر عن نفسها في الحديث الشائع تَميل إلى الخشونة، وهي أيضًا تثير الضحك إلى درجة كبيرة، وهي تختلف عن العامية الفرنسية، التي تُخفي وراءها عادةً تلميحًا قذرًا، أمَّا العامية الإنجليزية فعبارةٌ عن خشونة طيِّبة صادقة، تُجابِهُك في صراحة.»
قلت: «لو يُسمَح لي أن أقول كلمةً طيبة في العامية الأمريكية، فهي أنها — فوق كونها جديدةً قوية — تكاد تكون دائمًا عذْبة نقية، روحُها الطبيعية عاليةٌ صافية.»
ووافق على ذلك قائلًا: «هذا حق، وهو مِن فضائل شعبكم.»
«العامية آفة حياتي في التحرير؛ إن وجودي في مكتبِ صحيفة يومية يَجعلني أسمعُها دائمًا، والآراء المعقَّدة تحتاج إلى عَرضها في لغة بسيطة في ظاهرها لجمهور قُرَّاء الصحيفة، مع ضرورة الرجوع إلى اللغة الأدبية عند الحاجة؛ من أجل هذا تبدو العامية كأنها الطريق المختصر، في حين أنها ليست كذلك؛ إنها كالطريق المقفَل، أو الشارع المسدود.»
وعتبَت عليَّ مسز هوايتهد قائلةً: «إن قوة اللغة العامية تُثير في نفسك القلقَ باعتبارك أديبًا.»
«ربما، وإنما يُثير في نفسي القلقَ كذلك أن أرى الصِّيَغ الشرطية والأفعالَ المساعدة تختفي من لغة الحديث الشائعة عندنا.»
وقالت بغتة: «مِن رأيي أن الفارق بين حديثكم وحديثنا — الأمريكي والإنجليزي — فارقٌ في الأسلوب، وإذا كان لحديثنا أسلوبٌ — حتى في لغة الشعب — فذلك بالرغم مِنَّا، ودون أن ندري. وأعتقد أن التعابيرَ الاصطلاحية وألفاظَ اللغة — في الوقت الحاضر على الأقل — أقلُّ انتشارًا هنا، وكثيرًا ما ألمس فقرًا في الألفاظ حتى عند أصدقائي هنا الذين أُتيحَت لهم فرصة الإلمام بها. وإن كنتُ أسمع في الحديث أسلوبًا، فهو مكتسَب (مهما يكن الاكتساب بطريقة تستحق التقدير) ومعنى ذلك أنه مستمَد من الكتب.»
قلت: «لاحظتُ لما تقولين مثالًا رائعًا في إحدى مُدنِنا الصغيرة بماساشوست. وكان ذلك من فتًى إنجليزي في الرابعةَ عشرة من عمره جيء به ليعيش هنا، ولم يَختلف عن الفتيان الكشافة الأمريكان الذين شاركَهم في اللعب من حيث أبواه، ومن حيث الطبقةُ التي ينتمي إليها، بل ربما تميَّزوا عنه في ذلك. وبالرغم من هذا فإن هذا الفتى — كلما فتَح فاه — أخجلني بحديثه الجميل، بتَعابيره الإنجليزية الطبيعية، وذلك دون وعي منه؛ إنما كان يتحدث بالطريقة الوحيدة التي كان يعرفها.»
وقال هوايتهد: «أنتم أيها الأمريكان لكم ميزة وحيدة كبرى جاءتكم بطريق المصادفة، أقصد الأمريكان المنحدِرين من أصل إنجليزي، إن الأدب الإنجليزي من عهد شارل الثاني حتى نهاية القرن الثامن عشر تأثَّر بالفرنسية إلى درجةٍ أفقدَتْه صفتَه المميزة، وذلك أمرٌ لا يدركه الكثيرون؛ من أجل هذا كان الأدبُ الإنجليزي في هذه الفترة غيرَ شائق؛ فالمسرحية الهزْلية بعد عودة الملَكية — مثلًا — فرنسيةٌ أكثرُ منها إنجليزية.»
«إنها — برغم براعتها — كثيرًا ما تَنتمي إلى عالم غيرِ عالمنا.»
واستطرد قائلًا: إن شعراء القرن الثامن عشر أيضًا متكلِّفون متحذلِقون، ويَنسجون على مِنوال التقليد الفرنسي، أمَّا أنتم في أمريكا فقد نجَوْتم من ذلك؛ ابتعدتم هنا، وأخَذتم في تنمية ما تُريدون التعبير عنه مهما يكن، وبالرغم من أن بعض شخصياتكم الكبيرة — مثل جفرسن وفرانكلن — كانوا في فرنسا إبَّان الفوَران الثوري، الذي انتقَل إلى الفرنسيِّين منكم، ثم انتقل منهم إليكم، حتى افترَض أكثرُ الناس أن تأثيرَ فرنسا في أمريكا كان بالغًا؛ بالرغم من هذا، فإنه كان أقلَّ خطورةً من أثر فرنسا في الفكر الإنجليزي، وقد كان كولردج ووردزورث والشعراء الرومانسيون الإنجليز: بيرون وشلي وكيتس، ردًّا على هذه الحركة. وإذا تكلمنا — من ناحية أخرى — عن استخدامِكم للُّغة نفسِها، بمعزِل عن الأفكار التي تُعبِّرون عنها بها، فإن موقفكم — حقًّا — شديدُ التعقيد بسبب دخول عناصر غير إنجليزية في بلادكم.»
«إن هذا العبء يقَع على كواهل المعلِّمين بالمدارس العامة عندنا، وهنا في بوسطن — على الأقل — تَراهم يُواجِهون الموقف في شجاعة، إننا في حي الصِّحافة نسمع الإيطاليين واليونان واليهود وكلَّ مَن لم نعرف من الأجناس من قبل! من باعة الصحف الصغار يُنادون على صحفهم في لغةٍ بوسطونية صحيحة، إلى غيرهم ممن يُحرِّفون النطق في الألف والراء الأخيرة.»
«إن هذه الحاجة عينها قد دعَت إلى الدراسات في «اللغة الإنجليزية» في كُلِّياتكم، إننا في المدرسة الإعدادية بشربورن في غربيِّ إنجلترا، حيث كنتُ أتلقَّى العلمَ وأنا في الخامسةَ عشرة من عمري، وقد تولى أبي القسيسُ تربيتي حتى هذه السن، إننا هناك لم نَسمع عن شيء من هذا، ولا سمعنا به في كمبردج أيضًا إلى ما بعد ذلك بجيلٍ تقريبًا! كُنَّا نتعلم اليونانية واللاتينيةَ والرياضة، وكان التاريخُ القديم يأتي عرَضًا أثناء دراسة اللاتينية واليونانية، أمَّا التاريخ الإنجليزي فكنا نقرؤه؛ لأنه كان يُشوِّقنا، وقد يَدهشك أن نعرف كيف كُنَّا نناقش الحضارة القديمة في حماسة بالِغة، وكيف كُنَّا نَرى دروس جزر بحر إيجه وما جاورَها من البلدان مُلائِمًا لنا — نحن الفتيان الإنجليز من أبناء الجزر البريطانية — من حيث علاقتُها بالبحار والقاراتِ الكبرى، وكانت «روسيا» في تلك الأيام تُضاهي «فارس» لبلاد «اليونان» كما عرَفناها. وكُنَّا نقرأ الأدب الإنجليزي للمُتعة، وبخاصة ما نظَم الشعراء. وقد «علَّمونا» مسرحيتين لشكسبير — ولست أذكُرهما — ولكني «أستطيع» أن أذكر أني لم أهتمَّ قطُّ بالعودة إلى قراءة هاتَين المسرحيتَين، وإن كنتُ قد قرأتُ مرارًا وتَكرارًا بقية مسرحيات شكسبير بسرورٍ شديد! ومن اللغات الحديثة درَسْنا الألمانية دراسة جدِّية، أمَّا المادَّتان اللَّتان لم تَنالا منَّا اهتمامًا جِديًّا في المدرسة فهُما الفرنسية والطبيعة.» وتوقَّف عن الكلام قليلًا، ثم قال وهو يبتسم ابتسامة خبيثة: «ومن العلوم لم نتعلَّم إلا قليلًا بقدر المستطاع.»
وسألتُه: «ولماذا لم تَدرُسوا الفرنسية دراسةً جِدية؟»
وصاحت مسز هوايتهد قائلةً: «ماذا تقول؟ هل تُريدنا أن نأخذ الرجل الفرنسي الذي يشبه الضِّفدَع مأخذًا جديًّا في تلك الأيام؟! وأذكر أني نشَأتُ في فرنسا ولم أتكلَّم سِوى الفرنسية حتى ذهبت إلى إنجلترا وأنا فتاةٌ في السابعةَ عشرة من عمري. حينئذٍ تكلَّمتُ الإنجليزية، إلا أن أحدًا لم يَستطِع فَهم ما أقول.»
وتطوع مستر هوايتهد بروايةِ شيء من ذكرياته، قال: «لقد قضيتُ المساء الأوَّل الذي أمضَيناه معًا في إطلاعها على بعض الصور؛ لأني لم أستطع فَهم ما كانت تقول.»
قالت: «نعم، بيْدَ أني سرعان ما أدركتُ أني لا أستطيع أن أستمرَّ كما كنت، ومهما يكن ما بذَلتُ من جهد في تعلم الإنجليزية، فقد بذلتُ جهدًا أكبرَ في التخلي عن لهجتي الفرنسية، وقد الْتقى مرةً أحدُ أصدقائنا من كمبردج — وهو رجلٌ ظريف، اسمه تيودور بك، سافر إلى مكان ما بالشرق — الْتقى برجل مِن ترنتي كان يعرفني، وقال: «هل سمعتَ أن هوايتهد قد تزوَّج؟ كلا. من تكون؟ وما شكلُها؟» فقال صديقنا لبك: «لقد أخطأ هوايتهد خطأً جسيمًا؛ إذ اقترَن بما ليس على شاكلته.»»
– «إن ما حيرني فيكما أمدًا طويلًا، قبل أن أعرِفَكما، هو أنه بالرغم من أنكما قد عِشتُما إلى حدٍّ كبير على الصفوة في مجال التبادل العقلي، في كمبردج وفي لندن فيما بعد، إلا أنكما لم تَترفَّعا قط! وبالرغم من أنه لم يطرَأ لي أبدًا في تلك الأيام أني أستطيع أن أحضر الاجتماعَ الذي كُنتما تَعقِدانه مساءَ كل أحد، إلا أنه قد قيل لي: إن كل امرِئٍ هنا يستطيع الحضورَ إن شاء، وإنكما كنتما تَستقبلان الزائرين زُرافات.»
قالت فخورة: «ستين في المساء الواحد! ولكنهم كانوا يَدخلون المطبخ ويعاوِنونني.»
– «عرَفتُ بعض أُسَر الأساتذة الذين جاءوا إلى هذا المكان من الجامعات الأخرى، ممن لقُوا مشقة كُبرى مدة طويلة قبل أن يألَفوا العيش في كمبردج. فلما أتيتُما تحوَّلَت الحال — فيما يبدو — إلى اجتماعٍ حبي.»
قالت: «خبرني. هل بدا علينا في أول الأمر أننا من [الأجانب] إلى درجةٍ قُصوى؟»
– «أجل، في أول الأمر، وأستطيع أن أذكر متى بدأ التحول؛ كان ذلك بين عامَي ٣٤ و٣٥.»
– «وفيم كان الفارق؟»
– «لقد أحببتُكما.»
وقالت: إن في هذا التفسير الكفايةَ.
وسأل هوايتهد: «منذ كم سنةً تعارَفْنا؟»
– «منذ أحدَ عشر عامًا.»
– «إن الصداقة تُبدِّد الزمن! إني أشعر كأنني عرَفتُكِ منذ أربعين عامًا.»
– «هناك روائي إنجليزي تعودتُ أن أقرأَه وأن أعود إلى قراءته، ويَرجع السبب في ذلك إلى أن صفحاته كانت سبيلي الوحيدَ في ذلك الحين للاتصال بالعالم الذي كنتُما تتحرَّكان فيه تحركًا طبيعيًّا، وهو عالم يَفهم فيه الناسُ الآراء ويتناوَلونها في يُسر؛ وذلك هو جورج مرديث.»
قال: «حقًّا، لقد نَعِمنا بمجتمع ترنتي وكنجز، وهما الكُلِّيتان اللَّتان عرَفْنا فيهما الناسَ معرفة طبيعية جدًّا، ولستُ أقصد «بالمجتمع» بطبيعة الحال معنى الترفُّع السخيف، وإنما أقصد الاختلاط بأصحاب العقول المتجانسة، ولكنا لم نتخيَّر في كمبردج هنا أو هناك.» وذكر أسماءَ الكثيرين من زملائه، والتقطَت أذني مِن بينهم اسمَ جَب.
فصِحتُ قائلًا: «جب؟ لقد نشَر كتابًا طالعتُه عن سوفوكليز، وكان جب دائمًا في متناوَلي في نصٍّ إغريقي حينما كنتُ هنا في الكلية، وكثيرًا ما تساءلتُ عن شكله، وهذه هي المرة الأولى التي أتابع فيها أثره.»
«كان زميلًا لطيفًا وله زوجةٌ فاتنة! لم تكن ضليعةً في العلم، ولكنك لا تُريدها أن تكون كذلك! وكان لزوجها مِزاجٌ حاد، كانت تستطيع أن تُخفِّف مسز جب من وطْأتِه بفِتْنتها.»
وصحَّحَته مسز هوايتهد قائلةً: «بل قل: ليدي جب، ولا تَظلم ذِكْراها؛ فقد كانت تُحب هذا اللقَب.»
واستطرَد هوايتهد قائلًا: «إن المكان الذي اصطدمتُ معه فيه كان في انتخابات الزملاء لترنتي، التي كان يحنُّ إليها حنينًا شديدًا. وكلما خرَجْنا من معركة من هذه المعارك الانتخابية كان سر رتشارد خصمًا لأحد زملائه لا يُبادله الكلام، وكنتُ أُضطَرُّ إلى أن أقول لزوجتي: [ادعي — يا عزيزتي — جب وزوجته للعشاء؛ إن سر رتشارد لا يكلمني في الوقت الحاضر]. ومن الأعمال التي أذكرها جيدًا والتي أمتعَتْني كثيرًا ما قام به عندما رَكِب مَتْن النهر على عجَلته.»
وقالت: «كانت ليدي جب شديدةَ العطف عليَّ حينما وصلتُ إلى كمبردج وأنا حديثة عهدٍ بالزواج، وقالت لي: اتخِذي لك ما شئتِ من إخوة، ولكن لا تتَّخذي لك أبناءَ عم، وكانت نصيحةً طيِّبة استجبتُ لها.»
قلت: «بالنسبة إليَّ كطالب كان ناشرُ كتاب سوفوكليز الذي أرجع إليه عملاقًا.»
ووافقَتْني مسز هوايتهد، وقالت جادَّة: «… حتى في مِزاجه الحاد!»
– «وأعطاني كذلك درسًا من دروس «اللغة الإنجليزية» التي كنتما تتحدَّثان عنها منذ لحظة؛ لأني — مثلكما — تعلمتُ عن الإنجليزية من اليونانية.»
وحذرني هوايتهد قائلًا: «لاحِظ أن هذه الدراسات في «الإنجليزية» في الكلمات الأمريكية ضرورية جدًّا. وإن كانت الدراساتُ الكلاسيكية في اليونانية القديمة واللاتينية لا تُدرَّس، فلا بد من دراسة الإنجليزية، على أحسنِ صورة ممكِنة، وكل ما أرجوه ألَّا يجعلوا دراستَها مملَّة؛ إن المعلِّمين — ما لم يَكونوا موهوبين بالطبيعة في مهنتهم — ليسوا خيرَ مَن يُحبب الشباب في الأدب الممتاز.»
وسألَت مسز هوايتهد بَغتة: «هل تَستطيع أن تخبرني لماذا يُفضِّل الرجالُ النساء كثيرًا كمُعلِّمين؟ أقصد على وجه الإجمال؛ حينما تكون المرأة المعِّلمةُ ممتازة (وقد كنت كذلك من ناحية، ولم أكن مِن ناحية أخرى) تَجِدها رائعة، غير أنَّ ذلك استثناء، أمَّا في الرجال فهناك ما يجعل المهنة لهم عملًا طبيعيًّا (إن صحَّ أن نقول ذلك) وهم يُحبون القيام بها.»
– «دعنا نَحصر ملاحظاتِنا في أشخاص غير موجودين» (ولمحت بنظري المعلم الجالس إلى يميني). «يبدو أن هذا الميل يَتخذ في الرجال صورةَ الرغبة في إذاعة العلم والمعرفة؛ كان هذا الميل عند رتشارد فاجنر، وكان يَعلم أن هذا الميل في نفسه، وقال في خطاب إلى ماتيلد وزندنك: إن هذا الميل قد اتخَذ في نفسه صورةَ الرغبة في إذاعة المعرفة بين الناس، وإن المرء ليَلمس هذا الاتجاهَ عينه لدى أقلِّ الناس شأنًا، ويمكن أن يكون قويَّ الأثر. وهو مُركَّب من محبة صادقة للجنس البشري، ومن الرغبة في تقديم العون له …»
وسألَت مسز هوايتهد: «وهل ذلك بالإضافة إلى متعة التحدُّث إلى الجمهور؟»
«أقترح أن نَحتكم إلى أحد أعضاء هذه المهنة، الموجودِ بيننا الآن. ما رأيك فيهم؟»
قال وقد نظَر إلينا متلطِّفًا بنا: «لولا أني واحدٌ منهم لقلت: إنهم قوم يَدْعون إلى الإعجاب.»
وتشبَّثَت زوجته برأيها وقالت: «إن الرغبة في السيطرة عاملٌ من العوامل في هذا.»
قال: «لا بد من التمييز بين الرغبة في السيطرة وحبِّ العمل المجدي؛ إن الدنيا مليئةٌ دائمًا — وهي الآن أشدُّ امتِلاءً من أيِّ عهد سبق — بالأفراد الذين يُريدون أن يُسيطروا حبًّا في السيطرة فحسب (وهنا هزَّ قبضته القوية في الهواء، وكشَّر عن أسنانه). ولكن رجال الخير، من أمثال الطبَقات المهنية وأصحاب الخيال الخلَّاق، إنما يُريدون النشاط المجدي؛ أنتَ — مثلًا — حينما تُحرِّر مقالاتِك، لا تدفعك رغبةُ السيطرة …»
– «حتى إن دفعَتْني رغبة السيطرة، فإنَّ توهُّم السلطان لا يُمكن الإبقاء عليه.»
وقال هوايتهد: «أعترف أن الخط الفاصل بين الاثنين رقيق جِدًّا، إنما المهم هو الفصل بينهما؛ ففي أحد الجانبين مجرد حب السيطرة، وفي الجانب الآخر متعةُ التأثير بلونٍ من ألوان النشاط النافع … خذ مثلًا أوبرات فاجنر التي تُحبها، لا أظن أنها تُؤذيك بتاتًا؛ إنها بالنسبة إليك عالم من الخيال الشعري، ولكني على يقين من أنها لعددٍ كبير من الألمان في الوقت الحاضر تَعني أنَّنا سلَبْناكم مرة، وسنَسلبكم مرة أخرى!»
وبدا في نظرة هوايتهد وفي نغمته وهو يَذكر هذه العبارةَ الأخيرة أنه يقتبس من أقوال غيره.
وسألتُه: «هل حدث في التاريخ أنْ نبَذ أفرادٌ مسئولون — فرضًا — قواعدَ الأخلاق نبذًا تامًّا، كما يحدث في ألمانيا الحديثة؟»
قال: «لقد كان هناك دائمًا أفراد في جميع الأمم تأجَّجَت في صدورهم إرادةُ السيطرة، دون أن يَحُد منهم وازعٌ مِن ضمير، وقد سادوا فتراتٍ تَطول أحيانًا وتَقصر أحيانًا أخرى، أمَّا ما استجدَّ في هذا الموقف في ألمانيا فهو اتِّساعُ مداه، وطول أمَده؛ فقد دام أطولَ من أي عهد سبق وبعُنف أشد، وكانت له آثارٌ أبعدُ مدًى وأقوى هدمًا.»
وقالت مسز هوايتهد: «لقد ذكَرت مرديت منذ لحظة؛ كيف استطاع أن يضَع طبيعتَين لا تَوافُق البتة بينهما في امرأةٍ واحدة كما وضَع في ديانا؟ إن الطبيعتَين لا يمكن أن يَعيشا معًا في إهابٍ واحد، ولو فعلًا لتَمزَّق منهما الإهاب!»
وأدى بنا هذا إلى الموازنة بين الروائيِّين الإنجليزِ والرُّوس.
وقال هوايتهد: «الظاهر أن الروس قد تميَّزوا إلى أقصى حدٍّ في الرواية على نطاقٍ واسع؛ فهناك تولستوي ودستوفسكي وترجنيف. إن الرواية تهتم إلى حدٍّ كبير بالعادات الاجتماعية السائدة في وقت معين ومكان معين، إلا إن تناولَتْها أمثال هذه الأيدي التي تتعرض لجميع آفاق المجتمع؛ الأسرة، والنظم السياسية والعسكرية والاقتصادية، والصراع بين الشخصيات والآراء، واهتمام الرواية بزمان معين ومكان معين يضعها في المحل الثاني كصورةٍ من صور الفن، فلا ترتفع إلى مستوى تلك الموضوعات العالمية العظيمة التي تعرَّضَت لها المآسي الإغريقية الكبرى. ولكن، ألم تُلاحظ أنَّ هناك عددًا كبيرًا من الأعمال الفنية الثانوية تعيش وتُكتَب لها حياةٌ طويلة — قد لا تَستحقها كما تستحقها الأعمالُ التي تَفضُلها — وذلك لأنها تشتمل على موضوعٍ من الموضوعات التي تَشيع بين الناس في كل حين؟ وفي الحق إن الموضوع الواسعَ الانتشار يُرجَّح أن يكون موضوعًا جيدًا. غير أن العمَل الفني — لكي يَعيش — لا بد أن يكون مُستساغًا عند عدد كبير من الناس.»
قلت: «كم يَودُّ عالَمنا أن يعلم إذا كانت المآسي اليونانيةُ الثلاثُ والثلاثون التي بين أيدينا هي خيرَ المآسي التي بلَغ عددها ثلاثمائة وتسعَ عشْرة، والتي عُرِف عن شعراء المأساة الثلاثة الكبار أنهم كتَبوها. إنَّ جلبرت مري يَزعم أن المآسيَ التي عاشت ربما كانت أفضلَها جميعًا، أمَّا إذا تحدثنا عن الرواية كدراسة اجتماعية، فإن الكتاب الخياليَّ الذي أُحِب أن أقرأه إن أردتُ صورة عن الطبقة الوسطى في إنجلترا في منتصف القرن التاسع عشر، هذا الكتاب من وضعِ امرأة، وعنوانه «مدلمارش».»
قال: «سأحدثك عن روائي آخر، يقترب مثلها — إن لم يكن أكثرَ منها — من الحقيقة، وذلك هو أنتوني ترولوب.»
وقالت زوجته وقد أشارت إليه بحركةٍ في وجهها تدعو إلى الضحك، وفي أحلى أنغام صوتها: «لستُ أُنكر أن الصورة لا تُمثل غيرك يا عزيزي، وغير أسرتك الكهنوتية.» وقد أضافت هذه العبارة الأخيرة في خبث شديد.
وسألت: «وما رأيكم في الحوار؟ كم منه مطبوعًا أو مُلقًى على المسرح مما يُمثَّل تمثيلًا صادقًا الطريقةَ التي يتحدث الناسُ بها فعلًا؟»
وصاحت مسز هوايتهد قائلةً: «ها نحن أولاء قد عُدنا إلى موضوع الفَجوة بين لغة الكتابة ولغة الكلام.»
– «الأمر شبيهٌ بالموسيقى التي يتكرَّر فيها النغم … إن الحوار كما يَجري على ألْسِنة الناس فعلًا قلَّما يُكتَب ويكون له أثر إلا إذا تناولَتْه يدُ الكاتب بالتحرير ولو قليلًا. لا بد أن يكون جرسه بالطريقة التي يتحدَّث بها الناس، ولكنك إن حاولتَ أن تُدوِّن حديثَ الناس حرفيًّا فإنك قد تجد أنه لا يَنم عن الحياة كما ينبغي.»
وتدخل هوايتهد لينقذنا: «الفنُّ هو صياغةُ خبرة من الخبرات في قالَبٍ معين، واستمتاعنا الجمالي حين نتعرَّف إلى هذا القالب، ومن الخطأ أن نظن أنَّ للكلمات كِيانًا ذاتيًّا؛ إنها تَعتمد في قوَّتها — كما تعتمد في معناها — على مُلابَساتها العاطفية، وعلى نغمها حين النطقِ بها. وهي تَستمِد كثيرًا من تأثيرها من أثر المقال كلِّه الذي وردت فيه، إنك إذا استخرجتَ الكلماتِ من محيطها أصبحَت زائفة، وكم عانيتُ من الكُتَّاب الذين اقتبَسوا مني عبارةً من العبارات؛ إمَّا بعيدًا عن محيطها أو إلى جوار مادة غير ملائمة، مما حرَّف معناي كل التحريف، أو هدَمه هدمًا شاملًا.»
– «وهل هذا أمر يحتمل أن يقع فيه أساتذةُ الفلسفة؟»
قال: «إني لا أقدر الفلاسفة — كطبَقة — قدرًا كبيرًا؛ إن العقول الفلسفية الممتازة القليلة بحاجة إلى أن تُفهَم من حيث علاقتُها بالعصور التي عاشت وفكَّرت فيها، وهذا بعينه هو ما لا يَحدث إطلاقًا، إن الفيلسوف صاحبَ الباع الطويل لا يُفكِّر في فراغ مطلق، وحتى أشد أفكاره تجريدًا يتكيَّف إلى حدٍّ ما بما هو معروف أو غير معروف في الوقت الذي يَعيش فيه؛ ما هي العادات الاجتماعية المحيطة به؟ وما هي الاستجابات العاطفية؟ وماذا يَعُده الناس هامًّا؟ وما هي الآراء الأساسية في الدين والسياسة؟ إنَّ ديكارت — مثلًا — كان رجلًا بسيطًا نسبيًّا، وأعتقد أنه نَسي القرن السابع عشر.»
«وكذلك نَسيه أولئك الذين حاضَروا عن ديكارت هنا حينما كنتُ طالبًا، وهكذا كانت حالهم حينما بلَغوا سبينوزا وليبنتز.»
وقال هوايتهد: «إن أرسطو يوضح ما أرمي إليه توضيحًا حسنًا؛ لقد أسس العلم الحديث، وتقسيمه للظواهر الملاحَظة، الذي حسبه حقائقَ كاملة، تبين أنه لا يَزيد عن أنصافِ حقائق، بل أقل من ذلك! إن أقسام أرسطو — الأنواع والأجناس — صادقةٌ بمعنى أننا نعرف أن الكلب يختلف عن القرد الأفريقي، وأن كِلَيهما يختلف عن الإنسان، ولكنك أنت وأنا والكلب والقرد كلنا نَنحدِر من جُزَيئات دقيقة من المادة الحية التي نشأَت في مكان ما، عند حافة البحر والأرض منذ ملايين وبلايين السنين، ومع ذلك فإن أرَدْنا علمًا، فإنَّ ما فعَل أرسطو كان عينَ الصواب؛ لا بد لك في العلم من النظام، ومن أجل هذا لا بد من عزلِ أنواع معيَّنة من هذا النظام وإخضاعها للملاحظة. غير أن الموضوع في العلم — كما هو في الفلسفة — لا يمكن فَهمُه دون دراسته من حيث علاقتُه بالحياة المحيطة به، وكان من الممكن أن يأتيَ العصر الصناعي في عهد أرشميدس؛ فإن كلَّ ما هو ضروري كان معروفًا، ولم ينقص العهدَ سوى الشاي والقهوة! وقد أثَّرت هذه الحقيقةُ في عادات الناس، حتى إن العصر الصناعي كان لا بد أن يتَخلَّف قرونًا حتى يلاحظ الناس في أسكتلندا غلَّاياتهم والماء يغلي فيها، وهكذا اخترَعوا الآلة البخارية.»
واستطرَد قائلًا: «هناك فيلسوف واحد يُمِدنا بتفسيره الخاصِّ لمحيطه الاجتماعي، وهو صاحب أعظم عقل أنتجَه إنسانُ الغرب، وذلك هو أفلاطون؛ إنه يكتب في صيغة الحوار، حيث يتناول الحديثَ أشخاصٌ كثيرون، فترى وِجهات نظرهم المختلفةَ، وتتكون لديك فكرة عن أي أنواع الأشخاص هم، وبأيِّ العادات الاجتماعية المحيطة والنُّظم السياسية تأثر تفكيرهم؛ المدينة الحكومية وصناعاتها، ونظامها الاقتصادي، وحياتها العائلية، وعاداتها التقليدية. وقد قُلت منذ لحظة: لا يمكن أن نعامل الألفاظ — ونحن مطمئنُّون — كأنها معانٍ مستقلَّةٌ بذاتها، أو أفكار منتزَعة من محيطها؛ إنها تَكتسب معناها الحقيقيَّ من قوة المقال الذي وردَت فيه، كما أن جمال النجم لا ينحصر في لونه وبريقه فحَسبُ، ولكنه يكتسب كذلك من جلال الكون المحيط.»
وكان ذلك يحتاج إلى بعض الوقت للإغراق فيه، وحيث إنَّا كنا مشترِكين في حديث، ولم نَكُن نقرأ كتابًا نستطيع أن نَلقيَه جانبًا، أو أن نُعيدَ قراءته؛ لكي نَحصر الفكر في إحدى فقراته؛ فقد قلتُ لكي أتيح لنفسي راحةً عشرين دقيقة: «لقد قضيتُ اللياليَ في العام الماضي في الرباعيات الأخيرة لبيتهوفن ومعزوفاته على البيانو، وهي من أشد القطع الموسيقية إبهامًا، ولستُ أزعم أني أفهَمها إلا من بعضِ نواحيها، ولكنها أيضًا كجمال النجم، تُكتسَب من جلال الكون الفكري المحيط؛ إنها تُغرِق المرء ساعاتٍ متصلةً في عالم من القيم المجردة؛ كالرياضيات العليا، وإني أعتقد فعلًا أنها زادت من قدرتي على فَهم بعض الرياضيات العليا للفكر المجرَّد الذي أستمع إليه منك. إن الموسيقى بطبيعة الحال مُمعِنة في رياضيَّاتها، وهي كذلك مجردة. ومن خصائصها العجيبة أيضًا أنَّ لها في الوقت عينِه محتوًى عاطفيًّا وعقليًّا. ولستُ أدَّعي أني أعرف الموسيقى، ولكني أعتقد أن الموسيقى هي رياضة الجمال.»
قال: «إني أقبل هذا التعريف؛ لأني أعتقد أنَّا نستوعب عن طريق حاسة السمع عندنا بمقدار ما نَستوعب عن طريق حاسَّة النظر، وربما أكثر، وأرجو ألا تظنَّ أنني أقصد أن أُوازن بين اعتمادِنا على الحاستين؛ لأنَّا أكثرُ اعتمادًا على النظر ما دامت لدينا القدرةُ على الانتقال، غير أني أعتقد أننا أشدُّ استجابة للصوت الرَّزين؛ للموسيقى، أو لجَرس عظيم؛ إنه يُنبِّه العاطفة في اللحظة عينِها التي يَطرُق فيها السمع، ولا نُفكِّر فيه إلا فيما بعد، إن موسيقى الأرغن تُوجِّهنا توجيهًا دينيًّا أيسرَ مما تفعل الأشياء المرئية بدرجة كبرى. إن سلامكم الوطنيَّ الذي كثيرًا ما أستمع إليه مُذاعًا بالراديو، لا يوحي — لِحُسن الحظ — بأن تُردِّده الجماهيرُ جماعة، ولكنه يؤدِّي الغرضَ منه بدرجة تدعو إلى الإعجاب، وإني حينما أُصغي إليه أكون أشدَّ تأثرًا مني وأنا أشهد العَلَم، ولا أقول شيئًا (وابتسَم وهو يقول هذا) عن المزايا النِّسبية لعلَمِكم الوطني كعلَم؛ إنما الرأي الذي أرمي إليه هو أن الفكرة — بحاسة النظر — تَبعث العاطفة، في حين أن العاطفةَ — بالصوت — تَبعث الفكرة، وهو اتِّجاه أكثرُ مباشرة، ومن ثَم أشدُّ قوة.»
فعلقتُ بقولي: «حضرتُ مع مستر جَدْ، مدير أركسترا بوسطن السمفوني، تمثيلَ مسرحية أبسن «جون جبرائيل بوركمان»، وفي الفصل الثاني يَعزف أحدهم «دانسي ما كابر» لسنت سائين خلف المناظر، إن المسرحية قوية، ولكن حينما سكتَت الموسيقى تبادَلْنا النظر وابتسَمنا! إن الموسيقى — وإن تكن قد خفَتَت حتى لا تَطمس الحوار — قد طغَت على المنظر. لقد فعلَت ما قلتَ تمامًا، تحدثَت إلى العواطف مباشرة.»
وأجاب بقوله: «إن تسعين في المائة من حياتنا تُسيِّرها العاطفة؛ إن أذهاننا تُسجِّل فقط، وتُنفِّذ ما ترسله إليها خبراتُنا البدنية، إن العقل بالنسبة للعاطفة كالملابس بالنسبة لأجسادنا. وما كنَّا لنستطيع أن نُمدِّن الحياة جيدًا بغير ملبَس، أما لو كانت لدينا ملابسُ بغير أجساد فنحن إذن بغير قيمة.»
ودقَّت ساعة مموريال هول التاسعة، وجاءت مسز هوايتهد بمائدة الشوكولاتة الساخنة. وفيما تبقَّى لدينا من وقت تحدَّثنا عن فترة من فترات التاريخ كانت — فيما يبدو — سعيدةَ الحظ. وهي فترة عاشَت فيها ثلاثتُنا مُددًا متفاوتة.
قال: «إن من أسعد الأوقات — التي عرَفتُ في تاريخ الإنسان — فترةَ الأعوام الثلاثين التي تقع على وجه التقريب بين عام ١٨٨٠م وعام ١٩١٠م، ولستُ أقصد إلى القول: إنه لم تكن هناك أشياءُ عديدة كانت بحاجة إلى التغيير، ولكنا نوَيْنا أن نُغيرها وشرَعنا في ذلك، كانت الظروف مثالية لأمثالنا، الذين نستمتع بقدر معقول من الراحة، لم يكن لدَينا مال كثير، وأمامنا عمل ضخم لا بد من أدائه، وإحساس بالهدف والتقدم في العالم.»
وقالت مسز هوايتهد: «وكُنَّا نعمل أيضًا لأغراض كثيرة ما كانت تتعارض وصالح الطبقة التي ننتمي إليها.»
قال: «كانت زوجتي، فيما بين سنِّ العشرينَ والخامسةِ والعشرين، تُعاني وقتًا عصيبًا؛ كان عليها أن تَكسب قوت يومها في لندن.»
– «كنتُ شابة، لا يَحميني أحد، وعليَّ أن أتوجَّه إلى عمَلي وأعودَ منه وحدي، وقد عرَّضَتني ملابسي للمضايقة؛ لأنها لم تكن مما يلائم فتاةً عاملة، ولكن كان لا بد لي من ارتِدائها؛ لأنها كانت كلَّ ما أملك.»
وعاد إلى الكلام فقال: «أمَّا عن نفسي، فإني أستطيع أن أقول: إن ظروفي كانت على خيرِ ما يُرام طوال حياتي، وفي تلك السنوات التي تقع بين عام ١٨٨٠م و١٩١٠م كثيرًا ما كنَّا نتحدث عن ذلك العالم العجيب، الذي لا بد أن يَعيش فيه أبناؤنا.