المحاورة الثانية والثلاثون
١٣ من يناير ١٩٤٤م
ظهر من وقت قريب المجلدُ الأوَّل من سيرة سنتايانا بقلمه تحت عنوان «أشخاص وأماكن»، وقد أثار جدلًا حول موضوع التهكُّم عند آل هوايتهد، حيث كنتُ أقضي المساء.
وذكَّرتُ هوايتهد قائلًا: «إنك عرَّفتَ التهكم من عهد ليس ببعيد، وأَذكر الألفاظ ولكني لستُ على ثقة من أني أفهم ما تعني؛ قلتَ: «إن التهكُّم حالة عقلية مقبضة.»»
قال هوايتهد: «لا أذكر المناسبة التي قلتُ فيها ذلك؛ ولذا فيَجدر بي أن أبدأ من جديد.» وفكر قليلًا، وقد تغَضَّن جبينه، وتشابكَت أصابعه، وأسنَد مرفقَيْه إلى ذراعَيْ مقعدِه، ثم تحدث بعد لحظة قائلًا: «أعتقد أن التهكم يَنم عن الحالة العقلية للشعب أو للعصر الذي فقَد الإيمان؛ إنهم يُخْفون ما فقَدوا، أو يتَفاخرون به عن طريق الضحك! إنك قلَّما تجد التهكم إلا عند المنبوذين على صورة من الصور، وإلى حدٍّ ما.»
– «مثل لتن ستراتشي؟»
قال هوايتهد: «كان اسمه على شفَتي!»
قالت مسز هوايتهد: «كان إنسانًا ممتعًا، ولكنه عانى كثيرًا.»
– «بدنيًّا أو عقليًّا؟»
– «لم يُعانِ كثيرًا من الناحية الجسمانية، وإن كان دائمًا على ضَعف، وكثيرًا ما كان يتألم (وكان ابنًا لأبٍ مُسن)، بل كان عَناؤه أشدَّ من الناحية العقلية؛ كان مظهره الخارجي مثيرًا للضحك، وكان بذلك عليمًا. وتلك الصورة التي رسمَها له أغسطس جون، التي كثيرًا ما يُظَن خطأً أنها رسم كاريكاتوري، ليسَت كذلك، بل إنها — على العكس — صورةٌ صادقة له. وكان صوته مرتفِعًا كالصرير؛ لقد كان يُعاني من شدة الخلاف بينه وبين الآخرين.»
وقال هوايتهد: «إن تَهكُّم ستراتشي هو تهكم تلك المجموعة العالية الثقافة التي نبذَت مسئوليتها عن النظام الاجتماعي، وقد عانت إنجلترا كثيرًا من أمثال هؤلاء بعد الحرب الماضية، وأستطيع — من قبيل التيسير — أن أسميَهم «مجموعة بلومزبري»، وأؤكد لك أن بعضًا منهم كانوا أفرادًا قادِرين …» ثم واصل حديثَه قائلًا: «ولكنا لو حصَرنا حديثنا في المهذَّبين، قلت: إني عرَفت منهم اثنَين معرفة جيدة في شبابهما، وكثيرًا ما أفكر فيهما معًا، مهما كان بينهما من خلاف؛ أمَّا أحدهما فهو لوجان بيرسول سمث، وأمَّا الآخر فهو ستراتشي. وكان كِلاهما من رجال العلم والثقافة، غير أنه كان بينهما هذا الاختلاف الكبير على الأقل كما عرَفتُهما؛ كان بيرسول سمث موهوبًا في إجادة الكتابة، وقد فعل. أمَّا ستراتشي فقد كتَب؛ لأنه اضطُرَّ إلى ذلك اضطرارًا؛ كانت الكتابة في نفسه، وكان لا بد من ظهورها. وبرغم هذا، فمن التناقض العجيب ألا يكون لبيرسول سمث أتباع؛ لأنه كان يَفتقر إلى الابتكار الذي تَلمسه عند غيره. أمَّا ستراتشي الذي كان له أتباع، فقد كان السببَ في ارتكابهم أضرارًا جمة!»
وأضافَت إلى ذلك قولَها: «ثم إن بعضهم كان فاسدًا حقًّا» …
واستطرد هوايتهد قائلًا: «ولقد جاء ستراتشي في نهاية عصر قوي، وأؤكد لك أنه كان قديرًا ذكيًّا، ولكن أولئك الذين حاكَوْه مباشرةً كانوا جماعةً من الكُتَّاب الذين يَنقصهم ذكاؤه كما تَنقصهم مقدرته، وقد ارتكَبوا أضرارًا كثيرةً، كيف تُعرِّف تهكم سنتايانا؟»
وأسرعَت زوجته إلى الإجابة قائلةً: «شائن هدام.» وروَت تَكرار مقابلتها له في حجرات طالب في أكسفورد، كان شديدَ القرابة به، وكان معجبًا بسنتايانا، فكان يدعوه دائمًا لتناول الشاي، «وكان سنتايانا دائمًا يُعامل الشابَّ بتهكم، ولم يكن الشابُّ من أصحاب الفكر العميق، ولكني راقبتُ ما كان يَجري، وحكَمتُ عليه بالسفالة؛ إنه تهكُّمُ رجل فقَد الإيمان، فحاول أن يحطمه في الشباب، وهو عندي عملٌ شيطاني!»
وأجبتُ بقولي: «كثيرًا ما يُقال عنَّا نحن الأمريكان: إنَّا سُذج، لا يُرجَى لنا صلاح. ولكني بعدما قرأت هذه المجلد من سيرة سنتايانا بقلمه، وأُعجِبتُ بنثره الرائع وبما حوى من ومضات الإلهام، وبعدما ضحكتُ من نقده لنا، بعد هذا وجدتُ نفسي في شك ما إذا كنا جميعًا من الغباء بحيث لا نُدرِك ما يَسخر به غيرنا مِنَّا من وراء حجاب من التهكم!»
وقالت مسز هوايتهد: «إن شعبكم يَستقبل ذلك بروح طيبة، كما يَستقبلون النكتة التي تُقال فيهم. ولكن من الخطأ أن يظن أحد أنكم لا تفهمون ما وراء ذلك؛ منكم روائي معاصر بيننا يَسخر منكم بنفس هذه الطريقة، وأنتم تأخذون سُخريته بنية حسنة، وهو لا يَستغل أحدًا، وسخريته تَصدر عن عدم الإيمان، الذي يَبدأ — كما هي الحال في السخرية دائمًا — من عدم إيمانه بنفسه.»
– «إن ذلك يُنبِّهنا إلى أمر يحير في سنتايانا؛ إنه يكتب عن الكاثوليكية نثرًا غنائيًّا، ولكن هل من الممكن، وهو يُلِم بكل هذه المعارف — أقصد كل شيء من الفنون الشعبية القديمة إلى علم النفس الحديث — أن يَعُدَّ نفسه، برغم هذا، من بين المؤمنين الصادقين!»
وقال هوايتهد: «إن الكاثوليكية تسمح بأن تكتب «فيها» كتابة جميلة؛ إنها قديمة جدًّا، وهي متنوعة تنوعًا ضخمًا، رائعة في مظهرها، لها أوجُهها الشعرية والجمالية، ويمكن أن تكون ممتعة إلى أبعد الحدود. وليس المرءُ بحاجة إلى إيمان شديد لكي يقوم بذلك، بل إني لأقول: إن الكاثوليكي الذي لا يمارس الكاثوليكية مثل سنتايانا — الذي يُعتبَر بوصفه كاتبًا فنانًا كبيرًا — يؤدي أداءً ساحرًا … أمَّا عن فلسفته فإني أعترف بأني أحس إزاءها إحساسًا مختلفًا؛ إن متعة الفلسفة تتوقف على إخلاص الفيلسوف، لقد نظَر إلى العالم بطريقة معينة، ورأى الظواهر المختلفة من وجهة جديدة، إنه مَليء رؤياه، ومشغوفٌ بنقلها إلى غيره، وقيمته عند الآخرين فيما رأى. إن أكثر الفلاسفة يُعْنَون بقوةِ ما يقولون، وكل العظماء منهم يَفعلون ذلك. أمَّا فيما يتعلق بفلسفة سنتايانا، فإني أحس أنه يلعب بالأفكار فحسب؛ كل ما يقول فاتر، مفكَّك، ويكاد لا يُهِمه منه شيء؛ لقد فاتته العظمة، وأعتقد أن السبب يرجع إلى افتقاره إلى الإخلاص.»
وسألت: «وما رأيك في تهكم سقراط؟ هل ينطبق عليه ما عرَّفتَ به التهكم أوَّلًا؟ وما رأيك في التهكم المسرحي لشعراء المأساة الإغريق؟ أقصد الصورة التي تَرتعد لها الفرائص التي رسمَها سوفوكليز لأوديب، وهو يَحكم على نفسه بلسانه في غباء، فيُلقي خُطبًا تَعني عنده شيئًا، وتَعني نقيضَه تمامًا عند المستمِعين الذين يُصيبهم الذهول. أو التهكم التراجيدي الذي يقدمه لنا أيسكلس في أجاممنون؛ مناظر كتلك التي يَمشي فيها الملك داخل قصره فوق ذلك البساط الأرجواني، وهو ما أغرَتْه الملكة بأن يفعله كرمز بأنها سوف تُفلح في قتله. إن المأساة الإغريقية غارقةٌ في أمثال هذا اللون من التهكم.»
وقالت مسز هوايتهد: «ذلك هو التهكُّم الذي يوحي به الموقف.»
ثم أثيرَ هذا الموضوع: هل الأسطورة هي الصورة التي تُعبِّر بها الشعوب البدائية عن آرائها العامة قبل أن تكون لهم لغة من المجردات، مما يؤدي في آخر الأمر إلى الظن بأن الأساطير لم تكن سوى أفكار مجردة. وقد أثَرتُ هذا الموضوع من قبل، بيد أني أثرتُه مرة أخرى ظانًّا أن شيئًا مختلفًا قد يتمخَّض، وقد حدث.
قال هوايتهد في وثوق: «إن الأسطورة تأتي قبل ظهور الأفكار العامة. وعند أول ظهورها لا تكون هناك — فيما أعتقد — فكرةُ تشخيص أي تصور مجرد على الإطلاق. بل الأرجح أن واضِعي الأساطير يرَون شخصياتٍ معينةً متصارِعة، يؤدي صراعُها إلى نتائج معينة، أو يرَون قوة ناهضة في العالم المحيط بهم، تُعارضها أو تؤازرها قوةٌ أخرى، ثم يُشخصون هذه العمليات، وفيما بعد تُعيد النظرَ في هذه الأساطير عقولٌ أكثرُ فلسفة، فترى أنها تحتوي على بذور الأفكار المجردة. كما كُنَّا نقول منذ لحظة عن الإغريق حينما كَفوا عن الاعتقاد في أن آلهتهم كائنات فوق البشرية، ولكنهم رأوا فيها بعض أوجه الحق الرمزي.»
قلت: «إن أحد الذين أرَّخوا سيرة شلي، وهو كلتن بروك — فيما أعتقد — قال: إن شبلي أحدُ واضِعي الأساطير القلائل الذين عاشوا في العالم الحديث.»
فقال هوايتهد: «إن شلي شاعر عظيم جدًّا، وكنت أُكثِر من قراءته في وقت من الأوقات حينما كنت أقرأ الشعر، ولكني لا أقرأ الشعر اليوم.»
– «إن ما دفعني إلى إثارة السؤال هو أن أكثر الآداب العظمى وراءها أساطيرُ شعبية، ويبدو أنه ليست عندنا نحن الأمريكان أساطير، على الأقل بهذا المعنى، وهو أن أكثر ماضينا في هذه القارة قد حدَث في ضوء شديد؛ هو ضوء التسجيل التاريخي القوي.»
قال هوايتهد: «أنتم أيها الأمريكان تخلقون اليوم أساطيرَكم.»
وأدى ذلك إلى مناقشة حادة عن بعض أساطيرنا.
وأجابته مسز هوايتهد في خبث: «إن إحدى هذه الأساطير هي الديموقراطية.»
وقال هوايتهد: «إن الآراء السِّياسية التي يقوم عليها مجتمعُكم الأمريكي نوعٌ من الأساطير، ولها تاريخ طويل إذا بدأنا بالعصر الحديث نسبيًّا (أقصد أن نَترك الأصول الإغريقية الرومانية، والهلينية العبرية) قلنا: إنها تنبعث عن لوك في القرن السابع عشر الإنجليزي، ثم تنحدر إلى الفرنسيين العظام في القرن الثامن عشر، ولكنها لم تُطبَّق عمليًّا قط حتى أتَت إلى مؤسِّسي جمهوريتكم. والهدف من هذه الأسطورة السياسية هو تحسين حياة الرجل العادي وتأمينها، بيدَ أن هذه الأسطورة في القرن التاسع عشر في أمريكا تعرَّضَت لانقلاب جدِّي؛ فقد فُسِّر حق الرجل العادي في الحياة الطيبة بحق بِضْعة أفراد استئثنائيين، بنسبة واحد لكل ألف تقريبًا — أو أقل — أقصد بحقهم في استغلال مواردِ قارة جديدة بطريقة يجعلون بها أنفسَهم مُفرِطين في الثراء، وحينما أقول: «استثنائيين» أرجو ألا تَفهم أني أعني أنهم ممتازون، بل لقد يكونون في كل آصرة من أواصر الحياة — ما خلا تكوين الثروة — على درجة من الانحطاط، وكثيرًا ما يكونون كذلك. ولكن بتقدم القرن التاسع عشر في هذه القارة، كان هؤلاء الأفرادُ هم الذين حمَلوا هذه الأسطورة السياسية، وبهم انحطَّت إلى هذه الفكرة الخاطئة المبتذلة؛ وهي أن أي فرد في أمريكا يستطيع أن يصبح ثريًّا إذا أصرَّ على ذلك. وفي هذا القرن الحاضر عليكم أن تُنقِذوا المعانيَ الأصيلة لأسطورتكم السياسية من أولئك الأفراد القلائل الذين يُسيطرون على ثروات ضخمة، والذين أساءوا معنى الأسطورة.»
قلت: «إنك تحيرني بشأن الحكم الذي سيُصدِره المستقبل على العصر الفكتوري.»
قال هوايتهد: «كان جوُّ هذا العصر من الناحية الاجتماعية خانقًا، وقد كان هذا الجو الخانق عَقبة في سبيل جانب كبير من أدب العصر؛ لأن الأدب يخضع إلى حد كبير للصور الاجتماعية التي ينشأ فيها. إن الناس في القرن الثامن عشر — في إنجلترا وفرنسا على الأقل — كانوا أكثرَ حيوية وأشدَّ نفاذًا الناس في القرن التاسع عشر، ولكنا حين نقول بهذا يجب أن نَذكر دائمًا أننا لا نتحدث إلا عن القلة المحظوظة التي تَعلو قمة المجتمع. ولا يتفوق القرن التاسع عشر إلا في اهتمامه بعامة الناس؛ فهذا شيء جديد. وكان هذا الاهتمام في أول أمره يتعثر ولا يستقيم، ولم يمتدَّ إلى الناس جميعًا بأية حال من الأحوال، ولكنه كان صادقًا، وهو يميز القرنَ التاسع عشر عن كل قرن آخر سبقه، وحينما يتلاشى هذا الصراع العالمي الحاضر، فسيكون ذلك هو الجانبَ في عصرنا الحاضر الذي يستحق الإنقاذ، إن أمكن إنقاذه.»
– «وما هي في رأيك مرتبةُ العصر الفكتوري من الناحية الثقافية؟»
– «إنه في مرتبة عصور العالَم القليلة العظيمة، ولكنه أقلها شأنًا.»
– «وهل يمكنك أن تُعطيَني فكرة عن مكانته وقيمته؟»
– «أجل، إنه يشبه إلى حدٍّ ما تلك الفترةَ من الإمبراطورية الرومانية التي جاءت بعد تاستس، حينما كانت الحياة آمنة سليمة إلى حد كبير، ولكنها لم تكن براقة جدًّا، فكان عصرًا فِضيًّا، ولم يكن عصرًا ذهبيًّا.»
وسألت مسز هوايتهد: «ما هي التواريخ التي تُحدد بها العصر الفكتوري؟»
فأجاب: «ربما كان القرن التاسع عشر تعبيرًا أفضل، ويبدأ القرنُ التاسع عشر عندي بعام ١٨٣٠م، وينتهي بطبيعة الحال بعام ١٩١٤م. في عام ١٨٣٠م كان معظم الرجال الذين خلَقوا عظمة هذا القرن لا يزالون في الكليات.»
وسألت مسز هوايتهد بَغتة: «قُل لي أي شاعر أو شعراء من الإنجليز في القرن التاسع عشر لا زلت تقرأ، إن كنت تقرأ البتة شعرًا؟ … هل هو شلي؟»
ولما كان سؤالها موجَّهًا إليَّ، فقد ذكرت قائمة طويلة من الشعراء، ومن بينهم تنسن.
– «أي القصائد تقرأ؟»
– ««الكأس المقدسة» في عيد الميلاد، و«موت آرثر» في عيد رأس السنة، و«للذكرى» في فترات كثيرة.»
قالت: ««للذكرى» ليست قصيدةً ناجحة، وكان لا بد لكي تنجح أن تكون تدفقًا لروح معذَّبة، ولكنها لم تكن كذلك.»
ولما كنتُ أعلم أن زوجها يقدر القصيدة قدرًا أعلى من ذلك بكثير، وقد تحدث عنها باعتبارها واحدة من تلك القصائد الجدية الكبرى في الأدب الإنجليزي؛ فقد نقَلتُ الموضوع إليه.
قال: «كان تنسن شاعرًا عظيمًا يُعالج موضوعاتٍ لا أعُدُّها جليلة؛ كان موضوعه إنجلترا في عهد فكتوريا.»
قالت: «إذا ذكَرْنا الرِّوائيين الإنجليز في القرن التاسع عشر، قلنا: إن بعضهم كان مُجيدًا، وبعضهم أقل إجادة. ولكن ألم يتفوق هذا القرن في العلوم؟ فهناك داروين …»
ولم يُعلق هوايتهد على ذلك، وأحسب أني عرَفتُ السبب في هذا؛ وهو أن القرن التاسع عشر — حتى نهايتِه بالتأكيد — كان ضعيفًا في العلوم إذا قِيس إلى القرن السابع عشر، وهو «قرن العبقرية» كما أطلَق عليه في كتابه «العلم والعالم الحديث». وهنا حاولتُ أن أقحم جيته وبيتهوفن، غير أني ذُكِّرت أن قرننا التاسع عشر قد حُكِم عليه أن يبدأ في عام ١٨٣٠م، في حين أن جيته قد توفى في عام ١٨٣٢م، وبيتهوفن في عام ١٨٢٧م.
واستطرد هوايتهد قائلًا: «ولكن إذا كان هذا الاهتمام بعامة الناس يُميز عصرنا وهو صفة من صفاته التي تدعو إلى الإعجاب، فهناك إلى جانب ذلك هذا السؤال: ألا يُثبِّط انتشارُ الفرص على نطاق واسع من الموهبة والعبقرية، ويهبط بهما إلى مستوياتٍ أقلَّ ارتفاعًا؟ كانت للقرن الثامن عشر وسائلُه التي يتعرَّف بها الموهبة ويتَعهدها، بالرغم من أن هذه الوسائل كثيرًا ما كانت ناقصة؛ فكيف يمكن أن نتعرف إلى القدرات الاستثنائية — ولا أعني المواهب العادية، وإنما أعني القوى الاستثنائية حقًّا — في مجتمع ديمقراطي تمامًا؟»
فقالت مسز هوايتهد جازمة، ومؤكدة رأيها بهزِّها في عنف شديد كُرةَ خيط النسيج التي كانت بيدها: «إنني لا أتفق معك في هذا؛ إن التسوية تُطلِق المواهب التي لم تكن تَنطلِق من قبل و«ترفع» المستويات بنشر الفرص، وإليك مثالًا من تطبيق هذه النظرية: لم يصل إلينا من روايات القرن التاسع عشر إلا أحسَنُها، وقد نُشِرت بين روايات أخرى أكثرَ عددًا وأقلَّ قيمة أو لا قيمة لها البتة، وكلما ظهرَت رواية جديدة في القرن التاسعَ عشر عُدَّ ذلك حدثًا من الأحداث. أمَّا اليوم، فإن عدد الروايات — السيئة والحسنة والعادية — التي تَصدُر قد ازداد بدرجة كبيرة، ومع ذلك فإن نشر الرواية الجيدة لا يُعد حدثًا؛ إذ إن هناك عددًا كبيرًا منها.»
قلت: «باعتباري رجلًا لا يقرأ من الروايات المعاصرة ما يَكفي لأن يكون لي حقُّ إبداء الرأي؛ أقول: إنه مما يَسترعي انتباهي أن تولستوي ودوستوفسكي، وترجنيف، وتشيكوف، وجوركي، الذين كتَبوا الرواياتِ في ظل الأوتقراطية القيصرية، هؤلاء على الأقل لم يتفوَّق عليهم كاتبٌ ممن عرَفنا منذ ثورة سنة ١٩١٧م.»
وسألَت مسز هوايتهد: «ولكن هل تُسمِّي روسيا السوفيتية ديمقراطية؟»
وأجاب هوايتهد قائلًا: «نحن الإنجليز والأمريكان ضُعفاءُ التصور بدرجة فريدة في تفسيرنا لمعنى «الديمقراطية»، ويبدو أننا لا نستطيع أن نُدخِل تحت تعريفنا أيةَ صورة من صور المجتمَع لا تتفق تمامَ الاتفاق وصورةَ المجتمع عندنا! انظر إلى الطريقة التي تُقاتل بها جيوشهم في هذه الحرب؛ إن الشعب الروسي كلَّه متحِد بالتأكيد في تصميمه على تحرير أرضه من الألمان، ولا جدال في أنهم سيفعلون ذلك. إن اتحادهم في الدفاع كامل؛ لأنهم يُدافعون عن نظام اجتماعي يُحِسون أنه نظامهم، وأعتقد أن القوتَين العَظيمتَين اللَّتَين ستتَمخَّض عنهما هذه الحربُ هما روسيا وأمريكا؛ على تناقُض في المبادئ التي تَدفع كلًّا منهما؛ المبادئ الروسية ستَدور حول التماسك، والمبادئ الأمريكية حول الفردية.
– «هل تَرى في أية ناحية من نواحي الفكر السياسي المعاصر أيةَ فكرة جديدة فيها قوة المستكشفات العلمية، وما يترتب عليها من مخترَعات في الخمسين سنةً الماضية؟»
– «هناك ماركس بالطبع، وإن كنتُ لا أستطيع التحدث عنه في وثوق.»
– «لقد وضَعه لنين موضع التطبيق.»
«نعم، ومن الحقائق الفذة أن نبيَّ الثورة العالمية قد وجَد أول تطبيق عمَلي لآرائه في مجتمع تسوده الزراعة.»
وقد تطوعَت لتصويبه مسز هوايتهد بقولها: «ذلك لأنه بلَغ غاية الفساد، وأوشك على الانهيار.»
وقال هوايتهد: «ألم يَمُت لنين في الوقت الملائم؟ ألم يَنتهِ من مهمته، وأصبح المطلوب رجلًا ذا موهبة أقلَّ قدرة على النظر، وأكثرَ قدرة على العمل؟»
– «ألا ترى أن تروتسكي يفي بالمطلوب؟»
وقال هوايتهد: إنه يشك في أن يكون تروتسكي ذا فائدة كبرى كرئيس لوطن اشتراكي — أو بصراحة أوفى — لروسيا السوفيتية. وعلقتُ بقولي: «حينما طرَد ستالين تروتسكي من روسيا، قال تروتسكي، فيما أذكر: إن ستالين تدهورٌ شنيع بعد لنين، وسيَحكم روسيا لا كمُفكر عظيم، ولكن كرجل بالعقلية السياسية لرئيس من رؤساء السجون.»
وقال هوايتهد وهو يبتسم متلطفًا: «يبدو أن قدراته الخاصة تجد في الوقت الحاضر مجالًا نافعًا.»
– «إنك تُذكِّرني — وأنا أذكِّرك — بما قلتَ لكنستابل في «نادي السبت» حينما كنَّا نبحث فيما إذا كان إيدن يستطيع — عند الضرورة — أن يَحلَّ محل تشرشل، بعدما أصيب تشرشل بالالتهاب الرئوي، وقال كنستابل الذي كان على معرفة بإيدن: «إنه ليس رجلًا لامعًا، ولكنه شخص مهذب.» ثم قلت أنت …»
وقالت مسز هوايتهد وفي نفسها شر: «ماذا قال؟!»
– «قال: «إن تشرشل وهو مُلقًى على سريره يُعاني الالتهابَ الرِّئوي أفضلُ كرئيس للوزراء من أي رجل آخر في إنجلترا ممن يَدنون منه؛ قد يكون إيدن شخصًا مهذَّبًا، ولكن هذا الوقت ليس بوقت التهذيب!»
(وأثار ذلك في الجالسين إلى المائدة عاصفةً من الضحك.)
ثم جيء بالشكولاته فوق الطاولة، وقد بلغَت الآن نحو العاشرة، وكانت الشوكلاتة أفضلَ من أي وقت سبق، أو ربما كنَّا جميعًا أشدَّ جوعًا مما اعتدنا. ثم انتقل الحديثُ في الوقت نفسه إلى النظام المدرسي.
وقال هوايتهد: «كنتُ رئيسًا للطلاب في شربورن، وقد اضطُرِرت ذات مرة أن أضرب أحد الطلاب علقة، وكان ذنبُه سرقةَ بعض النقود. وقال ناظر المدرسة: «إمَّا أن تَضربه على مشهد من المدرسة أو أطرُدَه!» ولم يَعُد بعدئذٍ مجال للاختيار، وكان لا بد لي من التنفيذ، ولم يكن الأساتذةُ بالطبع حاضِرين، وتم الضرب بحضور الطلاب فقط.»
– «وماذا كان إحساسك به؟»
– «لم أُحِب أن أفعل ذلك، وإنما أُرغِمتُ عليه إرغامًا، وكان الضرب في تلك الأيام — في السنوات المتأخرة ما بين عام ١٨٧٠م و١٨٨٠م — ضرورةً من ضرورات النظام معترَفًا بها، وكان ناظر المدرسة — وهو رجل طيبُ القلب بدرجة غير عادية — يُضطَر بين الحين والحين إلى أن يقوم بالضرب بنفسه. وكلما ضرَب طالبًا رأيناه يُخفي رأسه بين ذراعيه ويبكي. وكنتَ تستطيع أن تسمع وقع الديوس!»
– «ألم يضربك أبواك قط في طفولتك؟»
– «كلا. إذا احتاج الأمر إلى ضربي، كانا يُقدِّمان إليَّ جرعة من دواء، ويقولان لي: إنه يؤسفهما اعتلالُ صحتي!»
وقالت مسز هوايتهد ثائرة: «لقد ضربَني أبواي، ولم يؤدِّ ذلك قطُّ إلى نتيجة حسنة؛ إنما كانت التربية في بريتون حازمة، ونشَأنا في طفولتنا على قصص العصور الوسطى الشعبية التي كانت ما تزال تُروى في الريف، وأذكر مرة أن قيل لي وقد أخطأتُ — كما قيل للفارس الجريح الذي قال في حلبة اللعب: [إنني أحس بالعطش] — قيل لي ما قاله له الملك: «اشرب دماءك يا بوما نوار، ولن تعطش بعد ذلك.»»
وكُنَّا نتصفَّح ألبومًا من الصور الفوتوغرافية القديمة، ونبحث عن فريقَين من فِرَق الكركت في شربورن عندما كان هوايتهد شابًّا لم يَبلغ العشرين من عمره، وقد أُخِذت الصور أمام ما يشبه أن يكون بوابة غوطية قديمة، وقلت: إنها تبدو قديمة جدًّا.
وقال هوايتهد: «لقد احتفلَت المدرسة بعيدها المائتين بعد الألف في عام ١٩٤١م، والمعتقَد أن تاريخها يرجع إلى عهد الملك ألفرد، وكان أحد مبانيها ديرًا، والمظنون أن الحجرة الصغيرة التي شغلَتها في سنتي الأخيرة كانت حجرةَ الراهب.»
وسألت مسز هوايتهد: «هل تستطيع أن تتبيَّنه من بين هذه الجماعة من الشباب؟»
وكانت هناك مجموعتان من الصور الفوتوغرافية في نفس المكان من عامَين متتاليَين، وكان التعرف إليه في المجموعة الثانية وهو أكبر، أيسرَ منه في المجموعة الأولى وهو أصغر.
وقال هوايتهد: «من الأمور التي تَسترعي الانتباهَ في تربيتنا بهذه المدرسة — ولم يكن ذلك خاصًّا بشربورن وحدها بأية حال من الأحوال، وإنما كان من مميزات كل تربية مدرسية إنجليزية في ذلك الوقت: أننا درَسنا أدب اليونان وتاريخَهم، ولكنا أخَذْنا منهما تلك الأوجه التي كانت تشبه — فيما يبدو — حياتنا وشئوننا الإنجليزية، واكتفينا بذلك. فأثينا مثلًا كانت قوةً بحرية، وكان لإنجلترا أسطول بحري، ولما كانت الآفاقُ الواسعة للقوة البحرية الحديثة لم تُعرَف بعد؛ فقد ظننَّا أنها تَنطبق أساسًا على سواحل أوروبا، كما كانت القوة البحرية الأثينية تمارس نفوذها على السواحل والجزر في شرق البحر المتوسط، مع ملاحظة أن أحدًا لم يُدرِك أن ذلك كان يَحدث بالفعل، إنما كنَّا نأخذ من العالم القديم ما كان يُمكن تطبيقُها علينا، وكذلك — فيما يتعلق بروما — قرأنا كبار المؤلفين في العصر الجمهوري المتأخر وفي عهد أغسطس، ولكن الجانب من التاريخ الروماني الذي بدا مُشابِهًا لتاريخنا هو تلك القرون المتأخرة بعدما فقَد الأدبُ أعظمَ أسمائه — وكان تاستس آخِرَهم في رأيي — وهي القرون الثلاثة التي تلت عام ٧٠ بعد الميلاد، حينما كان المهمُّ هو احتفاظَ روما بمستواها المرتفع عن طريق السياسة الحكيمة والإدارة المدنية … وإذا وازنَّا بين المؤلِّفين الإغريق والرومان كلٌّ في عصره الزاهر، أي: في القرن الخامس في اليونان وفي عصر أغسطس بالنسبة لروما، وجَدْنا أن الإغريق يتفوَّقون على الرومان بدرجة لا يمكن قياسها؛ فالآراء عندهم أشدُّ ابتكارًا وأقوى حيويةً بدرجة كبيرة. والواقع أن المؤلف الروماني الوحيد الذي أرى أنه يمكن أن يُقاس إلى اليونان في صفات الحيوية والابتكار هو رجل قد يدهشك؛ هو لوكريشس.»
وأجبتُ بقولي: «إن لوكريشس لديه ما يقوله لشعوب عصرنا، وذلك لا يدهشني؛ لأني أذكر كيف أن أرنولد توينبي قد وجد عند لوكريشس في إحدى مقالاته تلك الأسطرَ التي تجادل في أن الموت يُحطم الشخصية، وطرأَت هذه الأسطر على ذهنه خلال ربيع عام ١٩١٨م. وقد كُتِبت بعد مائة وخمسين عامًا تقريبًا، بعدما جلا هانبال عن إيطاليا، غير أن قرع ذلك الغزو كان لا يزال حيًّا في أذهان الناس، إلى حد أن لوكريشس ظن أن مجرد ذِكراه جعَل النسيان يبدو أفضلَ من الخلود الشخصي … ويؤدي بي هذا إلى موضوع أردتُ أن أفاتحك فيه، وهو ليس موضوعًا سارًّا، وسأجد مشقة في صياغته بدقة؛ لأنه لا يَصدر عن دليل واحد، وإنما يَصدر عن آلاف الانطباعات المتناثرة، عما أقرأ وعما أشاهد، وما أسمع وما أمارس، وما يُترَك لي استنتاجه. ثم تتجمَّع آثار ذلك كلِّه، والطريقة الوحيدة التي أعرف كيف أعبر بها عنه، في آخر الأمر قد تبدو تافهة، بالرغم من فداحته. والموضوع هو هذا: إننا نعيش وسط انحلال مستمر لِما اعتاد الناس أن يسموه «الحياة المتمدنة».»
فقال: «لا أعُد ذلك موضوعًا تافهًا، بل إني أراه صادقًا، وأعتقد أن صديقنا العزيز آدم سمث كان له به شأن كبير؛ لا بمعنى أن كلمات فرد واحد قد يكون لها كلُّ هذه النتائج البعيدة، ولكن بمعنى أنه عبَّر عن نصف الحقيقة التي كانت من قبلُ كامنةً في عقول الناس، وهي الحقيقة التي تَكمُن في الواقع هناك دائمًا، ثم أخذها الناس كحقيقة كاملة، وشرَعوا يعملون طبقًا لها. وأقصد بها فكرةَ سيادة الدافع الاقتصادي عند الإنسان؛ إنني لا أنكر أن الدافع الاقتصادي موجود، إلا أن ما يُسيء إلى أمور الناس هو أن يأخذوا أنصاف الحقائق على أنها حقائقُ كاملة، وقد اكتسب ذلك الدافعُ المادي أهميةً قُصوى، وحفَّز الناس إلى العمل بمقتضاه بما حسبوه ضميرًا حيًّا، إلا أنه لم يكن هناك فيما مضى عصر عظيم، ولا يمكن أن يُوجَد مثل هذا العصر العظيم، ما لم يَعمل وَفقًا لدوافعَ رفيعة مثالية، وقد نُبِذَت المثالية في عصرنا جانبًا، وها نحن ندفع الثمن.»
قلت: «إن كلمة «المثالية» نفسَها كانت محل السخرية منذ الحرب العالمية الأولى. ولما كنت أكتب لقُرَّاء الصحافة اليومية، فقد أصبحتُ شديد الحساسية لأي نوع من الأفكار يقبله الناس وأي نوع لا يَقبلونه، كما أُحس بالطريقة التي لا بد منها لإعادة صياغة الآراء غير المقبولة؛ حتى تستطيع أن تشق طريقها. وفي نفس الوقت تقريبًا بدَأنا نُلاحظ أن هناك تدهورًا ظاهرًا في تأثير الديانة المسيحية.»
قال هوايتهد: «لقد اتجهَت الديانة المسيحية وِجهةً خاطئةً جدًّا.»
وعلَّقتُ على ذلك بقولي: «إن الديانة البوذية، وإن كانت شديدةَ التعقيد — أشد تعقيدًا في الواقع من أن أستطيع إدراكها — إلا أنني أتخيل، برغم ذلك، أنها تدعو إلى الاحترام من الناحية العقلية.»
وأضاف هوايتهد إلى ذلك قوله: «إن الهنود أدرَكوا — مِن بين ما أدركوه — أوجُهَ الشبه بيننا وبين الحيوانات، وضمَّنوا ذلك تفكيرهم الديني، ولكنك لا تستطيع أن تُسمِّيَها فكرة تدعو إلى المساواة؛ لأنهم كانوا يرَون أن مِن واجبنا جميعًا على السواء أن نتخلص من شخصياتنا اللعينة» (قال ذلك وهو يبتسم، ولكنه سرعان ما عاد إليه جِدُّه)، «أمَّا عن الديانة المسيحية، فهل تستطيع أن تتصور شيئًا أشدَّ بلاهةً من الفكرة المسيحية عن السماء؟ أي رب ذلك الذي يريد أن يَخلق الملائكةَ والناس ليتغنَّوْا بحمده ليلًا ونهارًا وإلى الأبد؟ لا شك أن تلك هي صورة الحاكم الشرقي المستبد، بغُروره الوحشي الفارغ! إن مثل هذه الصورةَ إساءة إلى الله … ولكني أقول لك برغم هذا: إن المسيحية — من ناحيتها العاطفية والجمالية — تلعب دورًا هامًّا في حياة الناس الذين لا يرقَون إلى مستوًى عقلي رفيع، في حياة النساء خاصة، وهي تشد أزرهم بدرجة تمس مشاعرهم مسًّا شديدًا. إن مِن أسوأ ما صادف الأوروبيِّين من حظ، هو أنه لما حل موعدُ إصلاح الكنيسة، وضع مارتن لوثر الصور الجديدة، التي نبذ فيها الجانب الجمالي والعاطفي، ولم يبقَ إلا على العظام الجافة لعلوم الدين مجردةً من اللحم.»
وقد أدى الحديثُ عن الديانة الجرمانية إلى الحديث في الدراسة الجرمانية، وصفاتها التي تتميز بها إذا نظرنا إليها بجوار الدراسة في فرنسا وإنجلترا. وسرعان ما عمم هوايتهد الحكم في أنواع الدراسة الثلاثة بغير تحيز، فقال: «إن البحث العلمي في ألمانيا يشترك في عيب أراه شائعًا في أكثر البحوث؛ فالباحثون يُصِرون على استعمال كلمات كأن معانيَها قائمة في فراغ؛ إنهم يقولون: «هذا الرجل قال «ذلك» في «هذا».» كأن الكلمات نفسَها هي كل ما في الأمر، وهم يتجاهلون كل التجاهل ما تنطوي عليه هذه الكلمات من الناحية العاطفية في البيئة التاريخية التي نُطِق بها فيها أوَّلًا. ماذا كان مجموع الدلالات العاطفية لتلك الألفاظ حينما نشأَت في أول الأمر، وكيف غيرت من فَهمِنا لها التطورات التاريخية التي طرأَت عليها من ذلك الحين؟»
– «حكم شاب ألماني بعد استماعه إلى محاضرة ألقاها أحدُ العلماء البارزين في برلين، ومعه بلس بري حينما كان طالبًا في شبابه هناك، حكَم عليه بقوله: إن اطلاعه أوسعُ مما ينبغي، وقد استمَع بلس إلى مُمْسَنْ، الذي أُعجِب به، وإلى فون تريتسكي، الذي يُقِر بأنه لم يستطع في حينه أن يَسبُر كلَّ غَورِه، وكذلك إلى كثير من عظماء الرجال في ذلك العهد، وقد انتهى رأيه إلى أن كثيرين منهم كانوا كذلك (أوسعَ اطلاعًا مما ينبغي). والأرجح لمن يكون اطِّلاعه أوسعَ مما ينبغي أن يَقنَع بأنصاف الحقائق.»
قال هوايتهد: «إن أكثر الفروض أنصافُ حقائق، والفرض من ناحية قد يكون خاطئًا، ومن ناحية أخرى قد يكون صوابًا، وهو — سواءٌ أكان خطأً أم صوابًا — يَعتمد على مطابقته؛ فعندما يكون مطابقًا نسميه صدقًا، وحينما لا يكون مطابقًا نسميه كاذبًا. والواقع أنه لا هذا ولا ذاك، وهو هذا وذاك، فهو يَعتمد على الملابسة التي نراه خلالها، إنه نصف حقيقة، وينشأ الضرر من اعتبار أنصاف الحقائق هذه حقائقَ كاملة.»
– «وهل نعتقد أن الاقتصاديِّين كانوا بأنصاف الحقائق أشدَّ ضررًا من المؤرخين؟»
فأجاب: «كلما ازددتُ اطلاعًا في التاريخ قلَّ تقديري للمؤرخين! أعتقد أنهم رجال يدَّعون أنهم يكتبون مُتثبِّتين عن حوادثَ ليسوا أهلًا لإدراكها، وإن لم يكونوا كذلك فهم يَقبلون الوثائق الرسمية لعصرٍ من العصور على أن لها قيمةً كاملة، ناسين أن أهمية العصر الحقيقيةَ هي في الجو العاطفي الذي يدفع الناسَ الذين يعيشون فيه، والآراءَ العامة التي يتأثَّرون بسلطانها. واستثنى من الحكم اثنَين: أحدهما جِبُنْ والآخر ثيوسيديد؛ فقد كانت لجبن خبرة عملية حينما رأَس كتيبته تلك التي كانت تُعرَف باسم «متطوعي هامبشير». وكانت له خبرة كذلك بشئون السياسة، كما عرَف مجموعة من الأدباء الممتِعين في لندن، ثم إنه في اللحظة الملائمة تمامًا هاجر إلى جنيف حيث احتكَّ بآراء أبناء القارة الأوروبية المثقفين المتنقِّلين، وهذه الخبرات بالإضافة إلى المؤهلات الأخرى أعَدَّته لكتابة التاريخ، وميَّزَته بين المؤرخين المحْدَثين. أمَّا عن المؤرخ القديم ثيوسيديد؛ فقد كان قائدًا، يُعَد جزءًا من الحياة ومن العصور التي يُصوِّرها.»