المحاورة الثالثة والثلاثون
٩ من مايو ١٩٤٤م
من الأمور العجيبة التي يتكرر حدوثها في أوقات الحروب ما وقَع لي في طريقي إلى آل هوايتهد لتناول العَشاء؛ في كل ربيع في الليالي اللطيفة تُرتِّل جوقات هارفارد وراد كليف من عتبات ودنر هول، من مكتبة الجامعة، تلك الأناشيدَ التي تُعرَف عادةً باسم رباعيات سفر، وهذه العتبات المشيَّدة من الحجر المتين تصعد إلى واجهة كلاسيكية قوية الأثر في الناظر إليها، من الطوب الأحمر، واجهة من الأعمدة الأكاديمية من طراز جورج وكورنثيا. والمكان يتسع لبضع مئات من الأشخاص، وتُواجه الأعمدة رِواقًا مشابهًا في كنيسة مموريال، عبر مَرْج وغابة من شجر الدَّرْدار، فيتكوَّن منها صالةٌ للموسيقى بهيجة في الهواء الطلق. وقد بُنِيَت الكنيسة تخليدًا لذِكْرى رجال هارفارد الذين قُتِلوا في الحرب العالمية الأولى.
وكان ستة من الطلاب — ثلاثة منهم في زيِّهم الجامعي — يَدفعون آلة من آلات البيانو فوق حاملٍ ذي عجلات نحو العتبات، وقد أخذ الناس يتجمَّعون لكي يستمعوا من غير شك إلى الموسيقى في الهواء الطلق، ولم يكن الفتيان على علم بالبَرنامج، ولكن في تلك اللحظة وصل الأستاذ والاس وودورث رئيس الجوقة وقال لي: إنهم سيُنشِدون ثلاث فقرات من «نشيد الموتى الألماني» لبراهم، واتفقنا على أنها قطعة فيها سُخرية تاريخية، ويمكن أن تُؤدَّى بإحدى الطرق العديدة للأداء.
وكان المساء من أمسيات شهر مايو ذاتِ اللون الذهبي من أثر أشعَّة الشمس المتخلِّفة خلف الخضرة الجديدة لأشجار الدَّردار المزدهِرة، ووقعَت عيني على شجرة قَرنفُلية اللون مترعرِعة بالقرب من الكنيسة، وكانت طيور الهَزار قد بدأت بالفعل في الغناء.
وكان هوايتهد وزوجته يجلسان في فندق إمباسادور إلى جوار نوافذهما القريبة، التي كانت مُفتَّحة على مَصاريعها؛ فقد حل الربيع فجأة في أربعة أيام دافئة! وتناولنا العشاء إلى جوار نافذةٍ أخرى تفتح ناحية الغرب، وما زالت تَغمرها أشعة الشمس الغاربةُ في لحظاتها الأخيرة، وتناولنا عشاءً فاخرًا، بالرغم من أنه لم يكن على المائدة صنفٌ واحد من المقرَّر بالتموين، اللهم إلا قِطع يسيرة من الزُّبد والسكر. وبينما كنَّا نتناول العشاء، أخذ هوايتهد يتحدث عن أثر تحقيق الثراء المفاجئ على إسبانيا في القرن السادس عشر.
قال: «إن تدفق الذهب من جزر الهند الغربية وأمريكا الجنوبية دمَّر إسبانيا في مدى جيلَين من أجيال العمر تقريبًا؛ فما إن استنفَدوا ما جمَعه الأهالي، حتى انتهى كل شيء. ولم يشهد الشعب الإسباني كثيرًا منه؛ لأن شارل الخامس استخدم الذهب في تمويل حُروبه الأوروبية ومُناوراته السياسية، فلم تنشأ صناعاتٌ جديدة، ومن ثَم فإن السبائك الذهبية المتدفِّقة من العالم الجديد لم تَخلق ثروة دائمة. وكان أكثر الأطعمة والسلك المصنوعة يُستورَد من الخارج، وقد قيل: إن السلع المصدَّرة كانت تنحصر «في الجنود والقسس». غير أن رفاهية الأمة الحقيقيةَ تُستمَد من نشاطها الصناعي «الداخلي». ولا بد — بطبيعة الحال — من توزيع ثمار هذا النشاط توزيعًا عادلًا بقدر المستطاع. أمَّا إذا جاءت الثروة من الخارج دون أي جهد مُعِين من أكثر أفراد الشعب، فإنها تؤدي إلى الدمار! إن الأمة تنتعش وتَعيش بنشاطها الداخلي، إنكم حتى إذا لم تَسترِدوا ديونكم للأمم الأخرى بعد الحرب — ولا أظن أنكم ستستردونها — فسيكون لدَيكم في هذا البلد إعدادُكم الصناعي الضخم، وإنتاجكم الزراعي، وشعبكم بما عنده مِن مهارة فنية، وبهذا تَكفُلون لأنفسكم إبلالكم مما أصابكم بدرجة كافية.»
وعلقتُ على ذلك بقولي: «لقد حلَّت بالإسبان كارثتان أُخرَيان في نفس هذا الوقت تقريبًا؛ في كتاب «التقاليد والتقدُّم» لجلبرت مرت صفحة تَسترعي الانتباه، يقول فيها: إن الاضطهاد قد يكون نجاحًا سياسيًّا كاملًا مهما تَكُن نتائجه البعيدة وَبالًا. ويَضرب لذلك مثلًا معاملةَ البروتستانت واليهود في إسبانيا؛ حيث لم تكن بالتأكيد دماءُ الشهداء بذورَ الكنيسة كما يقولون.»
وقالت مسز هوايتهد: «إن التسامح يَنتهي دائمًا بنتائجَ طيبة جدًّا؛ لقد أدى اليهودُ خِدْماتٍ كثيرةً لإنجلترا، وأعتقد أنهم — كيهود — في طريقهم إلى الزوال! أنتم في حاجة إلى اليهود في بلدكم هذا؛ إنهم يكونون جانبًا من السكان يدعو إلى العجب؛ فهم أدقُّ وأحدُّ ذهنًا مِن سلالتنا الأنجلوأمريكانية. أمَّا مشكلة الزنوج عندكم — من ناحية أخرى — فهي مشكلة حقيقية، وحينما يَرثي الإنجليز لإحضارهم إلى هنا، فإني أسألهم: ومَن الذي بدأ بذلك؟ إن المزارعين مِن أهل الجنوب عندكم وأصحاب السفن من أهل الشمال قد واصَلوا على نطاق أوسعَ ما بدأه الإنجليز، ويجدر بنا أن نذكر أننا ألغَيْناه قانونًا بحلول عام ١٨٣٣م، ولكن رِقَّ السود لم يكن قط في جُزرنا، إنما كان مشكلة في المستعمرات.»
وقال هوايتهد: «كان في إحضارهم من أول الأمر قِصَر نظر شديد؛ إن خيالًا يسيرًا كان من الممكن أن يُحذِّر أي مخلوق من حقيقة ما يحدث، إن الدافع المباشر — دافع الكسب الفردي — أضعفُ أثرًا من أن يَصلح أساسًا لمجتمع مستقر، وكذلك من هذه الناحية؛ الفائدة المباشرة لأيِّ أمة بمفردها. كما أعتقد أننا نُدرك ذلك جميعًا اليوم.»
وسألت مسز هوايتهد: «هل تقابل دكتور بروننج؟»
– «مِن حين إلى حين فقط، ولا تتهيَّأ لنا فرصةٌ كبيرة للحديث الشخصي.»
وأجابت: «كان هنا ذات مرة، وخلَوتُ معه في حديث، ومما قاله: إنه كان من الممكن أن يَنجح رئيسًا على ألمانيا لو أن أمريكا وبريطانيا أيَّدَتاه! وإني لأعجب؛ أيةُ حكومة هذه تلك التي تحتاج إلى تعضيد حُكومتَين أُخريَين؟!»
وقلت: «حدَث ذات مرة في بيت دكتور هانز زنسر، حيث كنَّا خمسة فقط على مائدة الطعام، أن تكلم بروننج في حرية تامة، وربما كان ذلك؛ لأن زنسر كان من سُلالة جرمانية، وما ذكره بالتفصيل عن ازدياد نفوذ هتلر، واستيلائه على الحكم كان أشبهَ بالمسرحية الحزينة. والظاهر أن بروننج كان على علم بما يَجري وما كان يعتزمه هتلر، ومع ذلك فقد كان — فيما يبدو — عاجزًا عن صد التيار.»
وهنا لاحظ هوايتهد «أن بروننج رجل تقي جدًّا، ولكن الرجل قد يكون تقيًّا دون أن يكون طيِّبًا؛ قد يكون صاحبَ ضمير، ولكن هذا الضمير قد يكون سيئًا لعينًا؛ لأن الضمير يَفرض أن حوافزه نافعة من الناحية الاجتماعية.»
وانفضَّ العَشاء، ودخلتُ مع هوايتهد حجرة الجلوس، حيث جلَسنا إلى جوار النافذة المفتوحة في ضوء الشفق الرقيق، حتى انتهت مسز هوايتهد من إزالة آثار الطعام من المائدة. وسألني رأيي في إبعاد الحكومة لسَوَل آفري من مكاتب حراسة منتجومري في شيكاغو.
قلتُ: «أعتقد أن أبلغَ تعليق على ذلك تلك الصورةُ الفوتوغرافية لآفري التي تُصوِّره مطرودًا على يدَيْ جنديَّين صغيرَين يتَنازعانِه فيما بينهما؛ فذلك أسوأ من تصوير الجنديَّين ضاحِكَين؛ لأنهما كانا مُهذَّبَين، وحاولا جهدَهما أن يرفعا رأسيهما. أمَّا من كان ساخطًا على ذلك — في ظني — فهم أصحاب الأعمال الصغيرة وأصحاب الملكيات الصغيرة الذين كانوا يتَشبَّثون بالحياة العزيزة لما يملكون وسط حرب عالمية، يموت فيها الشبان الذين لم يَعيشوا بعد!»
وقال هوايتهد: «أية فكرة تلك التي تفترض أن الناس — وسط أعظم كارثة في تاريخ البشرية — ينبغي ألا يَضطرِبوا في أعمالهم التي ألِفوها وكرَّروها! كم كنت أود أن أكون هناك لكي أركل آفري بقدمي!»
وأبديتُ رأيي قائلًا: «كان ذلك مهرجانًا لمن يكرهون روزفلت.»
وقال هوايتهد: «لو سمعتَهم يتكلمون تصورتَ أن مستر روزفلت تولى الرياسة في عهدٍ من الرفاهية لم يسبق له مثيل!»
قلت: «إنني أصبر على جدَلِهم.»
وقال هوايتهد: «إنه ليس جدلًا؛ إنما هو ثرثرة.»
وقبل أن نستقر في جلسة المساء طُفنا حول حجرة الجلوس قليلًا، مُتفقِّدين ما بها من قطع صغيرة من خشب الماهوجاني الإسباني، الذي لم يَعُد بالإمكان الحصولُ عليه كما ذكرَت مسز هوايتهد.
وقال هوايتهد: «إن المكتب تحفة من التحف، وأحد هذه المقاعد اليعقوبية تقليد سيئ للطِّراز الفكتوري، أمَّا الآخر فيعقوبي صحيح.»
وكان لأحد القطع تاريخٌ عائلي وراثي، يمتد إلى أربعة أجيال؛ فقد انتقل من جدة ثانية في التسعين من عمرها إلى جدةٍ أولى عاشت بدَورها حتى بلغَت التسعين أو أكثر، وقد أخذَت مسز هوايتهد أحدَ مقاعد حجرة الطعام التي كانت تملكها إلى بوسطن لإصلاحه، وسألَت عن قيمته، وسألها المشتري: «كم قطعةً لديك من هذا الطراز؟» فأجابت: «ست قطع»؛ لأن بعضها محفوظ في بيت أبنائها، فقال المشتري: «مائتان وخمسون ريالًا» — «للقطع الست؟» — «بل للقطعة الواحدة.»
واختتمَت حديثها بقولها: «ولذا فقد أمنتُ عليها.»
وخلال حديث دار حول تَحلُّل عالمنا مما كان يَظنه آراء منيعة، لا في الدِّين فحسب، بل حتى في علوم الطبيعة؛ قال هوايتهد: «كنت أقرأ «خطابات» هكسلي، وبخاصة المجلدَ الثانيَ منها، وقد استرعى نظري أنه أحد أولئك الرجال الذين لا يَبلغون الصف الأوَّل؛ فهو قدير جدًّا، ولكنه ليس عظيمًا. أمَّا دارون — من ناحية أخرى — فعظيم حقًّا، ولكنه أغبى عظيم ممن أذكر! لقد أدرك هو وهكسلي مبدأ التطور في الحياة المادية، غير أنه لم يَطرَأ لهما قط أن يَسألا: كيف يمكن أن يُؤدِّي التطورُ في الحياة المادية إلى رجل كنيوتن على سبيل المثال؟!»
– «هناك رجل واحد أدرك هذا النقصَ من زمن مبكر جدًّا، وذكر ذلك، وهو صمويل بتلر.»
وقال هوايتهد: «إنهما لم يَميلا إليه.»
– «تقول: يميلان إليه! لقد حاولا أن يتَجاهلاه، ولكنه كان أقوى من أن يتجاهله أحد.»
– «إن نُكران دارون لانتقال الصفات المكتسَبة غلطة أخرى؛ مَن ذا الذي يعرف أين تَبدأ أجسادنا وأين تنتهي، أو كيف تنتقل الصفات بطريقة غير الوراثة؟ قد يكون لدى الطفل ألفُ مَيل فطري مرَدُّها إلى حِرَف أسلافه المباشرين، وقد يَسري في الأسرة لونٌ معين من ألوان النشاط لعدة أجيال، فيَميل إليها الطفل بفطرته؛ هل هذه بيئة، أم هل هي وراثة؟»
وعلقتُ على ذلك بقولي: «لقد انحدَر هارفي كشنج من أربعة أجيال من الأطباء، في هذه الولاية أوَّلًا، ثم في أوهايو. ولا يستطيع كليفلاندرز أن يتذكر وقتًا لم يكن فيه طبيبٌ باسم دكتور كشنج، كما أنه لا يستطيع أن يتذكر وقتًا لم يكن فيه أحدٌ من أسرة كشنج يعالج إنسانًا ما؛ فلا بد أن يكون ذلك قد ضاعف مِن قوة الدفعة الأولى عنده كثيرًا.»
وقال هوايتهد: «كان أبي، وكان جدي، وأعمامي، جميعًا مُشتغِلين بالتربية أو الإدارة المحلية، أو كلتيهما. وكذلك كنت.»
وقالت مسز هوايتهد تعليقًا على ذلك: «ولكنك تُغايِرهم بالرغم من ذلك، وتختلف عنهم اختلافًا لا يكاد المرء يتصوَّره، وقد كنتُ دائمًا أعزو الحرارة الكلتية فيك إلى جَدتك تلك الويلزية؛ ماري وليامز.»
وواصل هوايتهد حديثه قائلًا: «إن هذا الركون إلى الوراثة له أثر سيئ؛ فلقد اطمأنَّ الناس إلى إهمال البيئة؛ لأن «الوراثة ستتولَّى أمرَ كلِّ ذلك» كما يقولون. لكنك إن أردتَ لمدَنيةٍ أن تتقدم فعليك بأداء أمرَين أو ثلاثة؛ إن القوى التي تؤثر في عقولنا وأجسامنا على الدوام لا يَحصرها العَد إلى درجةٍ لا تُصدَّق؛ كالأشعة المنبعِثة — مثلًا — من نَجم يبعد عنَّا ملايينَ من السنوات الضوئية، وهي قُوًى خيالية كهذه … كما أن صور الحياة التي يمكن للمخلوقات أن تَحياها فوق الكواكب الأخرى التي تبعد عنَّا ملايين من السنوات الضوئية كما تبعد ملايين السنين من وقتنا الحاضر! هذه الصور لا نهاية لها، وهي تَسمح بكل إمكان يمكن للخيال أن يتصوره. إن آلاف الأفكار تمر بعقل الإنسان يومًا بعد يوم، ويجب عليه أن يرحب بها ويديرها في ذهنه ويتدبرها في كل وجه من وجوهها، ويعطيها حقَّها من الاعتبار. إننا بحاجة إلى أن نرحب بكل وجهٍ من أوجه الجِدَّة، وبكل فرصة يمكن أن تَنتهي بتشكيلات جديدة، ولكنَّا في الوقتِ عينه بحاجة إلى أن نرحب بها بعين الفاحص المتشكِّك، وأن نُخضِعها إلى البحث الدقيق المحايِد؛ لأن الأرجح أن تسعمائة وتسعًا وتسعين منها سيتمخَّض عن لا شيء؛ إمَّا لأنها عديمة القيمة في حد ذاتها، أو لأنَّا لن نَعرف كيف نَستخرج قيمتها! غير أنه من الخير لنا أن نرحب بها جميعًا — مهما كنَّا متشكِّكين — لأن الفكرة الألفية منها قد تكون هي الفكرةَ التي ستُغير وجه الأرض!»
قلت: «لقد رأى الناسُ في زماننا هذا أن المستحيل كثيرًا ما يَتم، ومن ثَم فهُم مستعدُّون للاعتراف بإمكان ذلك في عالم الكشوف العلمية، ولكنهم ليسوا مُستعِدين لذلك حتى الآن في عالم الأفكار العامة الأوسع.»
قال: «سأعطيك مثالًا يُبين كيف أن هذه الفرص للابتكار الجديد لا يمكن التنبُّؤ بها؛ إننا ونحن جالِسون في هذه الحجرة نستطيع بجهازٍ ما أن نَنقل أفكارنا إلى شخص آخر يجلس في حجرة أخرى في بوسطن أو أبعدَ منها، ولكنك منذ سبعين عامًا لو أردتَ أن تتصل على عجَل مع رجل في طوكيو كان لا بد لك أن تُرسل إليه برقية! إنك تستطيع اليوم أن تتحدث إلى شخص ما في آسيا يَحمل معه جهازًا في حجم الجهاز الذي في الحجرة الأخرى، لقد فكَّر ماركوني أن مثل هذا الاتصال ممكن؛ إنه لم يكن — بطبيعة الحال — على ثقةٍ من ذلك في أول الأمر، وكان هناك كثيرٌ من رجال العلم الممتازين ممن يستطيعون أن يقولوا له: إن ذلك ليس بالإمكان، كما يستطيعون أن يُبينوا له السبب في عدم الإمكان؛ فالذبذبات بدلًا من أن تدور حول الأرض ترتفع إلى الطبقات العليا من الجو ثم تتبدد، وكانت الذبذبات فعلًا تَصعد إلى طبقات الجو العليا، ولكنها بدلًا من أن تتشتَّت انعكسَت ثانية صوب الأرض، وهكذا أمكنَنا أن نتصل اتصالًا لاسلكيًّا. ولم يتنبأ أحد بهذه الحقيقة التي جعَلَت هذا الاتصالَ ممكنًا حتى ماركوني نفسه في بداية الأمر، ولكنَّ شيئًا مجهولًا لا يمكن التنبُّؤ به مجرد مصادفة — إن أردت أن تُسميَها كذلك — حتمَت نجاح هذه الوسيلة من الاتصال البشري، التي تكاد حتى اليوم ألَّا تصدق. وكذلك قد تُغير إحدى الأفكار العامة أسلوبَ حياتنا فوق هذا الكوكب أكثر من أثر اللاسلكي في تبادُل الصلات. وهذه الفكرة — كفكرة اللاسلكي — لا يمكن للأحياء اليوم أن يتصوروها.»
قلت: «إن أوروبا، برغم كل ما انتابَها من اضطرابات، لم تُقصِّر في الابتكار المستحدَث، على الأقل منذ النهضة، ولعدة قرون قبل سقوط روما. أمَّا إذا مات من الشباب في هذه الحروب الكثير، وتكرر انحلالُ المجتمعات المدَنية، فإني لأعجب — بعد هذا — من أين يأتي الدافع إلى الآراء الجديدة.»
قال: «يمكن أن يأتي من روسيا.»
وقالت مسز هوايتهد: «ولكن يكون مَشوبًا بالروح الآسيوية، وأرجو ألا يغيب ذلك عن ذهنك، وهذا لا يجعله نفس الدافع بعينه.»
وواصل هوايتهد حديثه قائلًا: «ليست هناك أسبابٌ كافية حتى الآن تدعونا إلى أن نفرض أن الدافع سيأتي من أمريكا الجنوبية؛ إني أتوقع أن يأتيَ منكم هنا في الولايات المتحدة، بأمريكا الشمالية، فإذا عجزتم عن ذلك فأعتقد أن العالم سيتَّجه وِجهة سيئة، وقد تحتاجون إلى قرن آخر؛ لكي تؤلفوا بين أجناسكم، وأعتقد أنكم ستكسبون من الامتزاج بالعناصر الذكية القادمة من جنوبي أوروبا، ولو تُرِك العنصر الأنجلوأمريكاني القديم وحده لبقي على شيء من الغباء.»
قلتُ: «إن هذا الامتزاج بين الأجناس لم يَبدأ إلا من عهد قريب، ويُحتمَل حتى الآن أن يتخذ صورة الأفراد الموهوبين الذين يَرتفعون إلى مستوًى يسترعي الأنظار. إن الأجناس تمتزج، ولكنا لا ندري حتى الآن ماذا ستكون النتيجة؛ قد تكون النتيجة ارتفاعًا في الذكاء، وقد تكون هبوطًا نحو الغباء.»
قال: «إني لم أكُفَّ قط عن الاعتقاد في إمكان ارتفاع الجنس البشري إلى حد معين، يبدأ بعدَه في الانحدار، ثم لا يَستعيد مكانته قط مرة أخرى، وكثير من صور الحياة الأخرى قد فعلَت ذلك، والتطور قد يَسير صعودًا وقد يَسير هبوطًا، ورأينا في آسيا كيف يمكن أن تَركد الحياة قرونًا، ويبدو أن جانبًا من هذا الركود قد نشأ عن التصوف الديني، من أمثال هذه العبارات: «لا تعبأ بهذه الدنيا» أو «إن ما يصيبنا من حظ سيئ نتيجة لمراحل وجودنا التي تُحتِّم مصائرَنا، والتي تَعرضنا لها في تجسيدات سابقة، ولا بد من التكفير عنه» أو «أن الأهداف التي تتحكَّم في الكون لا يمكن أن يُسبَر لها غَوْر، ومن نكون نحن حتى نتساءل عنها؟»»
قلت: «أمَّا الغرب — فعلى نقيض ذلك — قلَّما تردد في حمل السلاح يواجه به خِضَم المشقات.»
فقال هوايتهد: «إن في الأديان الجامدة فناءَ الفكر.»
– «وهل ذلك لأنها تزعم أنها تُجيب عن كل سؤال قبل أن يُسأَل؟»
– «إن أية طريقة من طرق التفكير اليقينية تفعل ذلك، وحينما تسود الكِهانة في مجتمع من المجتمعات، لا تجد حريةُ البحث تشجيعًا، وإذا ما طالت سيادة الكهان انحطَّ مستوى الذكاء العام.»