المحاورة الرابعة والثلاثون
٢٩ من أغسطس ١٩٤٤م
أشرف الصيف على نهايته، وبدأت أشجار الدَّردار في كمبردج بالفعل تظهر بمظهرها في شهر سبتمبر، وأوراقها الذابلة تتساقط فوق المروج، وكانت الساعة السابعة والدقيقة الأربعون حينما دقَقتُ جرس بيت آل هوايتهد، وكان الرجل وزوجه كلاهما يَبدُوَان في صحة جيدة غير معهودة، وقلت لهما: «لا بد أن تبدُوَا كذلك، وقد عُدتُما بعد شهر قضَيتُماه في جَزيرتِكما بمين، ثم سمعتُما بهذا الفيض من أخبار الحرب السارة، لا بد أنكما تتعجَّبان — كما نتعجب جميعًا — إذا كُنَّا نعيش في عالَم ١٩٤٠م–١٩٤٢م بعَينه.»
وقال هوايتهد: «حقًّا، إن هذه الحوادث تتذبذب.»
وسألته: «هل هي حقًّا لم يَسبق لها مثيل، أم هل هي على نطاق أوسعَ من الناحية المادية فحسب؟»
– «لم يحدث ما يُشبِهها مما أعرف في ألف عام، وإن حدث ما يُشبهها فقد استغرق مائة عام، في حين أن هذه الحوادث لم تَستغرق سوى بضعة أشهر، إن ضخامة مثل هذه الحوادث — فيما سبق — لم يمكن إدراكُها إلا فيما بعد، ثم لا يُدركها أساسًا إلا المؤرِّخون والباحثون، أمَّا حوادث اليوم فيمكن أن يَلمس وقوعَها كلُّ إنسان، من يوم إلى يوم، بل من ساعة إلى ساعة.»
«إني آتيكم وقد كِدتُ أفقد البصر من قراءة الصحف، أو إدمان النظر فيما يرد إلى المكتب من أخبار مكتوبة، وذلك منذ السادس من شهر يونيو؛ ما الذي يقع — في ظنك — وأنت تقرأ هذه الحوادثَ من حيث المغزى والجوهر؟»
– «أمران: أولهما مجرد الاحتفاظ بالنفس، فقد أُرغِمنا على الدفاع عن أنفسنا ضد نوعَين من الرجال الألمان العسكريِّين، بعدما كان نوعًا واحدًا (وهؤلاء يمثلون بطبيعة الحال الشعبَ من ورائهم)؛ النوع الأوَّل: ضباط الجيش الألماني النِّظاميون من الطبقة الأرستقراطية القديمة، والنوع الثاني: هؤلاء المغامرون الجدد من الطبقة الوضيعة. وكلاهما يقول لنفسه: أليس من الأمور العظيمة أن نَسترِقَّ أوروبا بأسرها؟! وهدَّدونا باستبعادٍ من نوع جديد مُريع؛ إن أكثر الغُزاة السابقين كانوا يَرغبون في الإبقاء على الثقافات الإقليمية بغير مساس! …»
قلت: «كان الرومان يؤثِرون ذلك؛ فإن البلاد المغلوبة أيسرُ في حكمها بهذه الطريقة.»
قال: «ولكن هؤلاء الألمان شرَعوا في استئصال كل ذلك، ولستُ على يقين من أنهم يرمون إلى «حكم العالم» أو على الأقل أنهم حتى الآن لا يَرمون إلى ذلك. بيدَ أنهم لو كسبوا الحرب لسبَّبوا لكم إزعاجًا شديدًا عن طريق أمريكا الجنوبية. والأمر الثاني الذي يَجري كما أرى هو هذا: أنك لا تستطيع أن تُشعل حربًا بمثل هذه الضخامة دون أن تفتَتح عصرًا جديدًا. لقد كان حظُّنا حسنًا في تشرشل؛ فهو قائد يدعو إلى الإعجاب في إثارة الوطنية في شعبه في حرب يائسة، ولكنه لا يُفكر اجتماعيًّا في حدود عهد جديد، وأشك إن كان يدعو إلى الإعجاب في إبرام الصلح.»
قالت مسز هوايتهد مؤكِّدة: «إن تشرشل يفكر في حدود القرن الثامن عشر، ولطبيعته جانبان: فهو في جانب سياسي بريطاني من الطراز الذي نعرِفه، ونُعجَب به في كثير من الوجوه، ولكني عرَفتُ أمه، وهي أخفُّ منه عقلًا … وهو مِن هذا الجانب روتري مازح، يتغنَّى بالأناشيد المرحة مع «الصبية».»
واستطرَد هوايتهد قائلًا: «وأنتم أحسنُ مِنَّا حظًّا في رجلكم؛ فإن مستر روزفلت يفكر — فيما أعتقد — إلى حد كبير في حدود عهد جديد، وقد ظهر ذلك قبل أن تبدأ هذه الحرب في سياسته الداخلية، التي أغضبَت بعض أصدقائنا الأثرياء، دعنا نأمُل أن يعيش؛ حتى تكون له يدٌ طُولى في تشكيل السلام. ثم إني في العهد الجديد أتطلع إلى روسيا كذلك.»
– «حينما أفكر في الأثر السيئ الذي تركَتْه روسيا في أمريكا لمدة خمسة وعشرين عامًا، ثم أرانا اليوم مُتشابِكين في عناق أخوي …»
ثم تحدث هوايتهد في بُطء شديد، وهو يَزِن ما يقول: «يبدو لي أنكم أيها الأمريكان على شيء من ضيق العقل في آرائكم عن تفوق شكل حكومتكم، وإمكانِ تطبيقه تطبيقًا عامًّا؛ كيف استطاع الروس أن يقوموا بما قاموا به؟ في القرن السابق، أو القرن ونصف القرن، قبل ثورتهم، كانوا كلما دخَلوا في شئون غرب أوروبا يؤيدون عادةً الجانبَ المخطئ، كما فعلوا مع مترنخ في مؤتمر فيينا! حقًّا كان هناك أفراد فاتِنون موهوبون ممن عرَفناهم في قمة مجتمعهم، وقد أجادوا في الفنون؛ في الأدب (تلك الروايات التي كتبها تولستوي ودستوفسكي وترجنيف التي تَفضُل كثيرًا رواياتِنا في هذا العصر نفسه) والمسرحية، والموسيقى، والتصوير …»
– «ولا تنس الرقص …»
قال: «وكذلك هزيمتهم لنابليون كانت إعلانًا مقدَّمًا لما هو آتٍ، كما تكون عادةً أمثالُ هذه الحوادث العظام، ولكن العالم لم يرَ العظمة الحقيقية الجديرةَ بها روسيا حتى هذا القرن الذي نحن فيه.»
– «متى يبدأ هذا التاريخ؟ هل من نوفمبر عام ١٩١٧م؟»
– «بل من رحيل تروتسكي وبلوغ ستالين الحكم.»
وقالت مسز هوايتهد: «لما كان لنين أرستقراطيًّا ثائرًا، فقد احتفظ بالثورة لطبقته، كما يفعل عادةً أمثالُ هؤلاء الأبناء العُصاة، أمَّا ستالين فهو رجل من الشعب، وأحسنُ لهم منه تمثيلًا بدرجة كبيرة.»
ووافقَها على ذلك هوايتهد قائلًا: «يَرجع السبب في ذلك عندي إلى أن ستالين كان من جورجيا؛ كان يعتقد أن روسيا — برغم تفرُّعِها واتِّساعها — يمكن أن تَتحد في شعب واحد عظيم. ومما يَستحق النظرَ ظهورُ هذا العدد الضخم من المواهب من صفوف جماهير الشعب الروسي في مثل هذه الفترة الوجيزة! خذ مثالًا لذلك قُوَّادهم في هذه الحرب؛ إن أكثرهم من الشبان، ولا بد أن يَنتقيَهم أحدٌ ما، ولستُ أعتقد أن ستالين قد اختارهم مصادفة؛ إن من وظائف المجتمع الرئيسية إطلاقَ المواهب على أوسع نطاق ممكِن، والظاهر أن ذلك هو ما حدث في روسيا، حينما تنتقل حياةُ الناس انتقالًا عظيمًا، فإن ذلك يكون عادةً نتيجة لاجتماع سببَين أو أكثر، وبالرغم من أن رجلًا واحدًا لا يَستطيع أن يبتدِع أمثال هذه الانتقالات الكبرى، إلا أنها ما إن بدأَت حتى يُمكِن لرجل واحدٍ أن يُوجِّهها هذه الوِجهةَ أو تلك. لقد استولى نابليون على الحكم على آراء الثورة الفرنسية، ولكنه لم يهتمَّ قط — في صميمه — بهذه الآراء؛ ومن أسباب ذلك أنه في قيادة الجيوش أبرعُ مما ينبغي، وكان تطبيقُ العلوم الحربية أشدَّ إثارة لاهتمامه، وكأن الآراء الثورية قد أوقَدَت النار في جهازه الحربي.»
– «هل توافقني على أن نجم نابليون كان يَرتفع ما دام خاضعًا لآراء الثورة الفَرنسية العظيمة، ثم بدأ في الأُفول حينما طغى عليها بشخصه الإمبراطوري؟»
– «أجل، ونحن الإنجليز كُنَّا في الجانب المخطئ طوال الوقت؛ كانت طبقاتنا الحاكمة وأرستقراطيتنا المالِكة للأراضي مُرتاعةً من عهد الإرهاب ومن إطاحة رأس الملك.»
– «كأن الإنجليز لم يُطيحوا برأس ملك …»
قالت مسز هوايتهد: «أجل، ولكن الأمر كان مختلفًا.»
«ألم أسمع أنه كان بالأمر انفعالٌ ديني أيضًا، وأن الإنجليز المنحرِفين عن الدين السائد اعتقَدوا أن توحيد الفلاسفة الفرنسيِّين والقادة الثوريين ضربٌ من الإلحاد؟»
قالت مسز هوايتهد: «كان ذلك يضَع شعبنا متماسِكًا خلف أرستقراطنا، حيث كانوا بالفعل.»
– «وإني لأعجب من ذلك من أن حرب استقلالنا الأمريكية قد وجَدت — من بدايتها إلى نهايتها — كتلة كبيرة من الأصوات تؤيِّدها في مجلس عمومكم البريطاني.»
قالت مسز هوايتهد: «أعتقد ذلك، ولكني أوَد لو استطعتُ أن أُقنع بعض أصدقائي الأمريكان بأن ذلك هو الواقع.»
«هل ترَون أن الناس لا يَستطيعون أن يفكروا تفكيرًا عالميًّا كافيًا، يمكنهم من أن يدركوا حركات التحرير البشرية مهما تكن صِبغتها القومية، إلا بعد أن تَمر بهم بعضُ المحن المخيفة؛ شخصيةً كانت أو اجتماعية؟»
قال هوايتهد: «إن ذلك لا يتحتم دائمًا؛ خذ مثالًا لهذا ذلك الطِّراز من الفرنسيين الذين غالبًا ما تتمخَّض عنهم المعارضة الكاملة للكنيسة؛ إن هذا الطراز يَسترعي نظري بسوء حظه، ولقد كانت حركةُ الإصلاح الديني من أشدِّ ما عرَف التاريخ من أنواع الإخفاق الذريع؛ فقد نبذت كل ما يجعل الكنيسة محتمِلة أو رحيمة؛ أعني جاذبيتها الجمالية، ولكنها أبقَت على عقائدها البربرية.»
وقالت مسز هوايتهد جادةً: «إن ما يَشغَلني هو أنه ما دامت المسيحية تَفقد سلطانها، فأين تجد البشريةُ مكانًا تستطيع فيه أن تُعبر عن نيتها الطيبة مجتمعة؟ إنني لا أنكر الآلام المريعة التي سبَّبتها العقائد المسيحية للنفوس ذات الحسِّ والخيال البعيد؛ فلقد كان ذلك — عَلِم الله — أمرًا فيه مما يَصدم النفس الكفاية! ولكن كما أن الأسرة هي الموئِل الوحيد الذي يَستطيع المرء أن يقصده حينَما يَسلك سلوكًا شائنًا (ونحن جميعًا قَمينون بمثل هذا السلوك في فترة من فترات حياتنا، حتى إن كان ذلك عن غير قصد)، فكذلك يجب أن يكون هناك مكانٌ يستطيع الناسُ فيه أن يتجمَّعوا، لا لكي يؤدوا هذا العمل أو ذاك بعينه، ولكن ليذكِّروا أنفسهم، ويُذكِّر كلٌّ منهم الآخَر، بنواياهم الطيبة، وبإرادتهم الحسَنة العامة. ولو كنتُ أعتقد أن الكنيسة، أو أيةَ صورة من صور المنظَّمات المسيحية، لا تزال تَفعل ذلك، أو لا يزال في إمكانها أن تفعله، ما قلتُ هذا الذي ذكرت؛ إن الحاجة لا تزال قائمة، فكيف نسدُّها؟»
ولم نُثِر الاعتراض بأن جماهير زوار الكنيسة قد يقولون بأن الكنائس لا تزال تسد هذه الحاجة. لم نثر هذا الاعتراض؛ لأن ما يُنادي به صوتٌ واحد منعزل اليوم، كثيرًا ما تُنادي به الجماهير في الغد. وإنما أثَرْنا — بدلًا من ذلك — هذا الموضوع: هل لا يمكن أن تكون الخبرة الجمالية صورةً من صور العبادة الدينية؟! «أليس الجمال صورةً من الصور الأخلاقية؟»
فأجاب هوايتهد: «كلا، إن الجمال والأخلاق يتحركان في ميدانَين مختلفَين.»
– «أمهلني لحظة، ودعني أحاول أن أعيد صياغة السؤال: أليس في عمل الفنانين العِظام فحوى خلقيةٌ عالية؟»
– «وماذا تعني بالفحوى الخلقية؟»
– «أعني الأثرَ الذي يَتركه في المشاهد أو المستمِع الفنانون الذين عاشوا وعملوا في مستوًى مرتفع تتوافق فيه المعيشة مع العمل، ومن المؤكد أنه ليس من المبالغة في شيء أن نقول: إننا نسمو بالروح حينما نستمع إلى أداءٍ جيد في الموسيقى يقوم به رجال عباقرة أكثر مما نسمو بها حينما نستمع إلى صاحب النيافة أو صاحب القداسة … وإني أُلاقي الكثيرين ممن يرَون رأيي؛ فكيف يمكن أن يكون أثرُ أمثالِ هذه الأعمال الفنية غيرَ ديني؟»
فقال هوايتهد وهو يسخر مني: «بينما كنتَ تتكلم كنتُ موزَّعًا بين فكرتين؛ إحداهما تقول: أجل هذا يبدو صحيحًا. والأخرى تقول: يا لله، ماذا يعني؟» واستطرد قائلًا: «كلا. إن الأمر الوحيد في الجمال هو هذا: هل العمل الفني جيد أو رديء؟ فلو كنتُ أنا وأنت مثلًا نستمتع بغروب جميل، فإني لا أهزُّك بذراعي لأنبهك سائلًا إياك: ماذا تفكر أن تعمل بهذا الغروب؟ إننا نستمتع بالتجارِب الجمالية من أجل ذاتها فحسب، وهذا كل حقنا فيما نتوقع منها.»
– «ربما كان ما سمعتَ مني من رواسبِ مذهبَين من مذاهب آبائنا المنحرِفين، أحدهما مذهب بيوريتان إنجلترا الجديدة، والآخر مذهب الصحابة في فيلادلفيا.»
قال هوايتهد: «إنَّ للفنان تيارًا دائمَ التدفق من التجارِب الجمالية الجديدة، ولا بد أن يكون له هذا التيار، وهو يترجم هذه التجارِب إلى صورة فنية، وعن طريق هذه الأعمال الفنية تنتقل خبرته إلى حياة الآخرين.» وانتهى عند هذا، ولكنه كان يعرف — كما كنتُ أعرف — أن ما قاله يَعني أكثر مما يطرق الأذن.
– «وإذن فالأخلاق لا شأن لها بالشِّعر الجيد؟»
وتساءل باسمًا: «وهل كان بيرون «أخلاقيًّا»؟»
وبذلك ضمَّني إلى رأيه في لحظة.
– «هذا شيء يؤلم الكثيرين من شُعرائنا الأمريكان في القرن التاسع عشر؛ فهم يلتزمون «الاستقامة» على إطلاقها أكثرَ مما ينبغي، على الأقل فيما يُدوِّنون من مشاعر، وعندما يقرأهم المرءُ اليوم يجد نفسه مضطَرًّا إلى التشكك: «إنكم لم تعتقدوا في ذلك حقًّا، وليس من الممكن أنكم لم تكونوا أكثرَ من ذلك معرفة، ولكنكم لم تَجرءوا على القول بهذا!» والمغزى «الخلقي» الضعيف الذي يَزج به هوثورن في خاتمة كتابه «الخطاب القرمزي» مثال في النثر لهذا الجبن؛ إذ يقول: «كن صادقًا! وبيِّن للعالم في حريةٍ أسوأ ما عندك، أو على الأقل صفةً من صفاتك تكشف عن أسوأ ما عندك!» وحينما كنتُ أقرأ ذلك، حتى في طفولتي، كنتُ أشعر بما ينطوي عليه من مُراوغة «إذا لم تستطع أن تكون صادقًا، فكن صادقًا على قدر ما تستطيع!»»
وقالت مسز هوايتهد: «إن الشاعر الذي يتَحاشى كلَّ ذلك عندكم هو هويتمان، ولم يبلغ الشعر الأمريكي في أي موضع آخر مثلَ ما بلغ من السموِّ في قصيدته التي رثى فيها الرئيس لنكلن.»
ومن هنا انتقل الحديثُ إلى أثر الحِيَل الفنِّية العلمية في عالمنا الحديث.
فقال هوايتهد: «إن هذه الحيلَ الفنية قد خلَقت موقفًا لم يَسبق له قط مثيل؛ لقد سألتَني في بداية هذا المساء عما إذا كنتُ أظن أن هذه الحوادث العالمية — الحركات الحربية وما يترتب عليها من تطورات اجتماعية — أقوى دلالةً في حقيقتها عما يُشبِهها من أزمات في الماضي، أم هل هي أوسعُ منها نطاقًا من الناحية المادية فحسب؟»
«نعم، هل حوادث اليوم أعظمُ وأبعدُ أثرًا؟ أم هل هي أكبرُ فحسب؟»
«الأرجح أنها ليست «أكبر» ولا «أعظم» من انهيار أثينا في نهاية حرب بلبونيزيا بالنسبة للإغريق، والأرجح أيضًا أنها ليست أعظمَ ولا أكبر من سقوط روما عند الرومان في القرن الخامس بعد الميلاد، ولكن هذا هو ما استَجد: في تلك الأزمات السابقة في تاريخ البشرية، وفيما شابهها، استغرق التطور الذي لمسناه في السنوات الخمس الأخيرة، بل في الخمسة الأشهر الأخيرة، مائة عام. هذا أمر جديد، وهو شيء مريع، ويرجع ذلك إلى سبب واحد، وهو أن جهاز الاتصال يَعمل بسرعة تكاد تكون كالبرق الخاطف، وقد تعوَّدْنا جميعًا هذه السرعة حتى أصبح ذكر هذه الحقيقة لغوًا من القول، ولكن الحقيقة في حد ذاتها أبعد ما تكون عن اللغو. ثم إن اطِّراد التقدم في الحِيَل الفنية الجديدة بلَغ من السرعة أن نسبة الزيادة منذ عام ١٩٠٠م في المخترَعات التكنولوجية أصبحَت ضعف ما كانت عليه فيما بين عام ١٨٠٠م وعام ١٩٠٠م. وقد ولدتُ في عام ١٨٦١م، وأستطيع أن أقرِّر أن الوسائل الفنية للعيش قد تطورَت بدرجة أسرع وأكبر فيما بين عام ١٨٦١م وعام ١٩٤٤م مما كانت تتطور — لو رجَعنا إلى الماضي فيما بين عام ١٨٦١م و…» — وهنا صمت برهة، ثم ابتسم وقال: «كنتُ أريد أن أقول: فيما بين عام ١٨٦١م وعام ٦١ق.م!»
وواصَل حديثه قائلًا: «وآثار هذه الحيل الفنية الجديدة — فوق ذلك — متشابِكة؛ فإن تطويرها في طرق حياتنا اليومية يؤثِّر في آرائنا الخلقية، كما أن التطور في طرق تفكيرنا يؤثِّر بدوره في طرق انتفاعنا بالوسائل الفنية الجديدة، فيؤدي إذن إلى مستحدَثات جديدة. وكما حدثتك كثيرًا، أكاد لا أذكر فكرة كانت تُعَد حقيقة أساسية في شبابي فيما بين عام ١٨٨٠م وعام ١٨٩٠م؛ أكاد لا أذكر فكرة من هذا التاريخ لم يتناوَلْها التعديلُ الشديد، إن لم تصبح بائدةً من أثر التطورات التي كنَّا نتحدث عنها؛ ومن ثَم فإن آراءنا الخُلقية تتأثر بهذا الفيض من التغيرات، كما أن التطور الذي يطرأ على الأفكار يؤثر في طرق انتفاعنا بالحيل الفنية.»
قالت مسز هوايتهد: «منذ لحظة حينما كنَّا نتحدث عن الدافع إلى العبادة، سألتُ نفسي: من أين — في نهاية الأمر — مأتاه؟ وما هو هذا الحسُّ الخلقي عند الإنسان؟ إنه لدى الطفل، بل الرضيع، وهو يُحس بالذنب — وهو ذلك الحمل المسكين — حينما يَعتقد أنه خالف صورتَه الصغيرة عن الخير.»
قالت: إننا لم نعرف قطُّ ما كان يظن أنه ارتكب من إثم، وأولُ ما كان يدلنا على أن هناك خطأً قد ارتُكِب هو بُروز عَقِبَيه وحدهما؛ إنني لم أرفَعْه قط من موضعه، وكان يُسَر جدًّا من جذبه من إحدى قدَمَيه، وسحبه على بطنه الصغيرة. ولكنا لم ندرك خطأه أبدًا.»
وقال هوايتهد وهو مشرَّد الذهن: «كان أشدَّ الناس الذين عرَفتُ في حياتي جاذبيةً، وقد جاءنا رائدُ فرقته فيما بعد، وأخبرَنا بالكثير مما لم نكن نعرف، وكان مما قاله: إن حديث الفسق الذي كان يدور حول مائدة الطعام كان يَخِف إذا حضر إريك؛ لا لأنه كان متصلِّفًا — لأنه لم يكن كذلك — ولكن احترامًا لصفةٍ فيه. وكان شديد المرح، وفي أيام التهريج كان يقود إحدى الفِرَق.»
وقالت مسز هوايتهد: «إنهم لم يُصدِّقوا أنه كان يَقضي لياليَه الحرة في البيت. (فيم أنت شاردٌ يا هوايتهد؟) لا يكاد يصل البيتَ حتى يدق التليفون؛ هل أستطيع أن أتكلم مع إريك؟ وقد دق التليفون ذاتَ مساء خمس مرات، فقلت: ما دهاهم؟ ألا يستطيعون أن يتركوك وشأنَك ليلة واحدة؟ فأجاب قائلًا: إنهم زملاءُ جذَّابون، وما يفعلونه لا يؤذيهم البتة فيما يبدو، بل ينزلق من فوقهم كما تَنزلق المياه فوق ظهر البط! ولكني إن فعلتُ مثلهم، ما استطعتُ أن أقابلكم وجهًا لوجه، ولستُ أدري أي أنواع البيوت نشأوا فيها؛ ربما كانت أمهاتهم من أولئك النساء اللائي بلَغ بهن الطُّهر حدًّا لا يُناقِشْن فيه أبناءهن أمور الجنس.»
– «إن هذه العقدة التي تحُلُّ بالألْسِنة في حضرة صبي حسَن التربية أمرٌ يدعو إلى العجب؛ لقد شهدت ذلك بنفسي، ولكني لا أستطيع أن أدرك على وجه الدقة ماذا يحدث؛ كانت «جماعة سجنت» في هارفارد حينما كنتُ طالبًا مجموعةً من الشبان الأذكياء، وهو أول مكان استمعتُ فيه إلى الشبان وهم يتحدثون حديثًا طيبًا، ولكن كان مِن بين هذه الجماعة شابان أو ثلاثة من الطبقة العليا، وكانوا مُنفِّرين لغيرهم. وقد انضم إلى الصف السابع في الفصل الأوَّل من المرحلة فتًى من فلادلفيا له — في حكمي — شخصية كشخصية إريك. وقد لُوحِظ على الفور أنه إذا ما جلَس إلى المائدة خفَّف الشبانُ الثلاثة المنفِّرون من غُلَوائهم. ولم يكن ذلك لأنه يقول شيئًا بعينه، أو يفكر في شيء بعينه، ولكنهم كانوا يخشَون ما يمكن أن يفكر فيه؟ والطالب لا يحب أن يُسيء سبنسر إرفن الظنَّ به.»
قال هوايتهد: «إن هذا الإدراك للقيمة البشرية يظهر في سن مبكرة، وأكثر المحاولات للتعبير عنها باللفظ يفشل.»
«إنني حينما ألتقي بها — هذه القيمة الهادئة — حيث توجد أكثرَ الأحيان في الحياة العامة، أجد أنها قيمةٌ تفوق كلَّ القيم الأخرى، وأنها مرتبةٌ تعلو جميعَ المراتب، وصاحبها — برغم ذلك — لا يُحس البتة بوَقارها، وكان هذا أولَ ما اكتشفتُ حينما ذهبتُ إلى العمل في المدينة، وكانت بوسطن في تلك الأيام أكثرَ شرًّا مما هي اليوم؛ كانت عابسة حقًّا، وكان بعض أحيائها نحسًا وشؤمًا، ولكن المرء برغم هذا كان يَلتقي دائمًا بهذه القيمة البشرية الصامتة الفطرية في أبعد الأماكن احتمالًا لوجودها، في أحواض السفن، وفي أقسام الشرطة، وفي المساكن الشعبية. لم يكن لها اسم، ولكنها كانت هناك، والمرء يَعرِفها دائمًا حينما يلتقي بها، وأستطيع حقًّا أن أقول لكم: إنها الشيء الوحيد فيما أعرف مما له أهمية، ولا أستطيع أن أنقلها إليكم كما ترون. وكل ما أستطيع أن أقوله لكم هو أني رأيت «شيئًا ما» ولكنه لا يُعبَّر عنه بالألفاظ.»
قال هوايتهد: «إن الألفاظ لا تُعبِّر عن أعمقِ ما ندرِكه بالبداهة، بل إننا لنفقده عند محاولة صياغته في ألفاظ؛ إن ما نشكو منه هو أننا قد اعتَدْنا أن نحسب الألفاظ أشياء ثابتة ذاتَ معانٍ معينة، والواقع أن معانيَ الألفاظ اللغوية في تذبذُب شديد، وجزء كبير مما نحاول أن نُعبِّر عنه باللفظ يقَع خارج نطاق اللغة.»
كثيرًا ما تكون الموسيقى — فيما يبدو — أقربَ إلى التعبير عن أعمق مشاعرنا.»
قال: «والنحت صورة أخرى من صور التعبير العميق، وأنا أزكِّي خاصة النحت القديم؛ لأنه — فيما أظن — كان الفنَّ الأساسي في العالم القديم، وكانت لهم أيضًا آدابهم، وهي آداب عظيمة، وموسيقاهم، وإن كنَّا لا نَعرف عنها إلا القليل …»
قالت مسز هوايتهد: «لقد حاولَت المسيحية أن تُعبِّر عن شيء عن فكرة القيمة البشرية هذه، إذا تقبَّلنا صورة المسيح التاريخية، بالرغم من تعقيد الأسانيد التاريخية وتشويهها.»
وقال هوايتهد: «لقد صاغت بعضَ المبادئ المفيدة، ولكنها على وجه الجملة كانت ساذَجةَ التفكير، وعلى غير علم.»
– «لَشدَّ ما صُعِقَت نفسي، حينما أدركتُ ذلك لأول مرة!»
وسألت مسز هوايتهد: «ومتى كان ذلك؟»
– «بعد الحرب الأولى، وقد أخذ إدراكي ينمو عدة سنوات قبل أن أعرف ذلك.»
– «وهل اتَّخذ عندئذٍ شكلًا معيَّنًا؟»
– «اتخَذ عشرات الأشكال، وأحسن ما أتذكره منها هو أن المسيحية لم تَخترع القيمة البشرية.»
وقال هوايتهد: «بينما هذه الحرب تَستعِر، ويموت فيها كثير من الشبان قبل أن يتَّسع لهم الوقت لكي يَعيشوا؛ لا أفتأ أسأل نفسي: ما هذا الذي يمكن أن يوحيَ بمثل هذه البطولة وهذا التفاني؟ ولو أن جانِبَنا فشل في هذه الحرب، لما كانت للحياة على أرضنا هذه قيمةٌ كبيرة، وقد أدركَت الجموع أخيرًا هذه الحقيقة، ومن الواضح أن أكثر هؤلاء الشبان العسكريين لم يندَفِعوا ببواعث الآراء السياسية المعقَّدة، وأعتقد أن عددًا قليلًا منهم فقط يرَون أنفسهم مسيحيِّين وهم بذلك واعون. إن آراءهم تتخذ صورًا متعددة، وهي آراء متعارضة؛ لأنهم يُعَدون بالملايين، بيدَ أن هناك برغم هذا رأيًا شائعًا بينهم؛ وهو — وإن لم يَصوغوه في لفظ، وبالرغم من أننا قد اعترَفنا بأنه لا يُعبَّر عنه بالكلمات — فكرة القيمة البشرية، وذلك أقرب ما يمكن أن نَصل إليه من تعريف. إنهم يموتون من أجل ما في العالم من قيمة.»