المحاورة الخامسة والثلاثون
١٤ من نوفمبر ١٩٤٤م
كان مستر هوايتهد نائمًا في مكتبه عندما وصَلتُ، وكانت الساعة الثامنة من مساء خريفٍ معتدِل؛ الجو رطب، وشَذى الأوراق المبتلَّة المتساقطةِ تُعطر الشوارع السكَنيَّة.
(كل شيء في ظلام الموت الصامت والخريف المتساقط.)
كنتُ عائدًا لتوي مباشرةً من المكتب، فكان ذهني مليئًا بأهوال مذبحة الألمان لقرية ديستومو الإغريقية، وقد تم تحقيقُ تفصيلات المذبحة، ونُشِر عنها في الطبعة الأخيرة، وبعد نصف ساعة وجَدني الفيلسوف مع مسز هوايتهد نبحث في موضوع القسوة الألمانية، وذلك حينما خرَج من مكتبه. ومما قاله في هذا: إنه في الحالات الأخرى التي لا تُقاس إلى هذه الحالة إلا في بعض المواضع من بعيد «نجد أن القسوة تُرتكَب لغرض ما، ولكن الألمان يرتكبونها لذاتها، حتى حينما لا يكون لها سندٌ من عقل، ولا يكون من ورائها رِبح، وهم يتقهقرون؛ لمجرد أن تسوء الأمور!»
– «عندي لك نبأٌ سار» (وقد آثرتُ أن أنقل الحديث إلى موضوع آخر) «وهو أكثر تهذيبًا؛ لقد أصبح صديقُنا لفنجستون نائبًا لمدير أكسفورد، أو لعله مِن الأصح أن أقول: إنه عُيِّن.»
– «أصحيح ما تقول؟ يَسرني أن أسمع ذلك.»
– «إنه يقول: إنه سوف يقرأ (ولكن في تواضع جمٍّ كما أتعشم) ملاحظاتِ أفلاطون عن عودة الفلاسفة إلى الكهف، ومهما يكن من شيء فقد كان لفلاسفته نفوذٌ أكبر من نُفوذ نُواب المدير، وكانوا من غير شك يَمتازون بأنهم فلاسفةٌ أحسن. هل ترى أن هذه الوظيفة ستَستنفِد كثيرًا من وقته وقوَّته في الواجبات الإدارية؟»
– «لن يكون ذلك إلى حدِّ المبالغة فيما أعتقد؛ فهناك مجلس سوف يرأسه، ولكن تسعة أعشار العمل الإداري يَقوم به عُمداء الكليات.»
– «قيل لي: إن وظيفة نائب المدير لا ترتفع ارتفاعًا مذهلًا، ولكن مما يَحطُّ من قيمة المرء ألَّا يَشغَلها.»
وقالت مسز هوايتهد باسمه: «ليس الأمر جديًّا إلى هذا الحد، ولكن أصدقاءك يتَهامسون عليك إن لم تَشغَلْها (وقد وضعَت إصبَعها على شفتَيها).»
قال: «إن الوظيفة تمر بالدور على عُمداء الكليات، وكلٌّ منهم يَشغَلها بدوره إلا إذا كانوا يَعُدونه عاجزًا؛ كم يبلغ لفنجستون من العمر؟»
– «قرابة الواحد والستين فيما أظن.»
– «ألا يَكبر هذه السنَّ؟ إني أُقدِّر عمره بالسبعين.»
وصاحت زوجته: «غير معقول؛ فقد كانوا شبابًا أولَ ما عرَفناهم!»
– «دعنا نبحث عنه في «الدليل».» وذهب إلى مكتبته وعاد منها بمجلد، ووضَعه تحت ضوء المصباح، ووضع تحت عينه نظَّارة قراءة كبيرةً ذاتَ عدسات ثقيلة، ثم فحَص إحدى صفحات الدليل وقال مُعلِنًا: «أربعة وستون … ولكنه قام بأعمال كثيرة؛ كان نائبًا لمدير جامعة بلفاست من عام ١٩٢٤م إلى عام ١٩٣٣م، ثم رئيسًا للجماعة المسيحية بأكسفورد، كما أدَّى كثيرًا من الأعمال العامة. لقد عرَفتُه معرفة جيدة أولَ الأمر في عام ١٩٢٠م حينما كنَّا معًا في لجنة رئيس الوزراء لبحث دراسة الآداب القديمة، وقدَّرتُه قدرًا كبيرًا.»
قلت: «أضف إلى ذلك كلَّ كتبه، وهي تبدأ بكتاب «العبقرية اليونانية» في عام ١٩١١م، وهو كتاب يدعو إلى العجب إذا عرَفتَ أنه كان حينئذٍ في الحادية والثلاثين من عمره.»
وقال هوايتهد: «إنني لا أجادل في قيمة الكتاب، ولكن السن التي كتبه فيها لا تدعوني إلى الدهشة؛ فليس من غير المألوف أن يبدأ المرء في إخراج أحسن مؤلفاته في سن الثلاثين أو ما حولها.»
– «لقد غلَبتَني؛ فهناك بيتهوڤن، وجيته، وميشيل أنجلو.»
– «إن الأفكار الأساسية التي تَسري في أعمال المرء مدى أيام حياته قد تتكوَّن في ذهنه عندما يبلغ الثلاثين، وقد يصب هذه الأفكارَ في صيغ متنوعة فيما بعد، وقد يُطيل في شرحها، ولكن خطوطها الرئيسية ترتسم في هذه السن.»
– «ألا تُعَد سيرة لفنجستون إحدى السِّيَر الإنجليزية القوية المعاصرة؟»
– «أجل، وحيث إن نشاط مُري قد فتَر، فأعتقد أن لفنجستون سيَخلفه. ما أكثر ما ينتفع الإنسان «بالدليل».» وأخذ يُقلب صفحات هذا المجلد الضخم، ذي الغلاف الأحمر، والطباعة الدقيقة، بين يديه. ثم تفرَّس فينا ضاحكًا وقال: «لو أنهم قذَفوا بي في تلك الجزيرة المهجورة، وسمحوا لي باصطحاب كتاب واحد، لما ترَددت في مصاحبة «الدليل».»
ونزلتُ عند رأيه وقلتُ: «إنه يستغرق وقتًا طويلًا، ولكن المتعة التي يستخلصها منه المرءُ تفترض فيه إعدادًا خاصًّا سابقًا.»
وسألت مسز هوايتهد: «ما شكل ليدي لفنجستون؟ إني لا أذكرها إلا وهي شابة صغيرة، شديدة الخجل، حينما كان طفلها الثاني لا يزال رضيعًا.»
– «إنها هادئة قوية الأثر، إذا عرَفها المرء أُعجِب بها، وأستطيع أن أُطيل الكلام في هذه الصفات إلى حدٍّ ما. وهي كذلك الزوجة الملائمة تمامًا لعميدِ كلية من كليات أكسفورد.»
وخلال حديثنا عن كتب لفنجستون، ذكَر هوايتهد ما يلي: «يدهشني أن البشرية لم تتقدَّم من الناحية الخلقية إلى درجة تُذكَر في ألفَي السنة الماضية.»
– «بل في أمَد أطولَ من هذا.»
– «إذن في ثلاثة آلاف عام.»
– «في ألفَي سنة وخَمسمائة أو سِتمائة عام فيما أظن.»
– «لا يختلف ذلك عن تقديري كثيرًا.»
– «إن العصر الذي كنتُ أفكر فيه هو القرن الخامس قبل الميلاد في اليونان، والقرن السادس الذي سبقَه والذي كانت تتجمَّع فيه قُواه. وإذا ذُكِرت أثينا في القرن الخامس، فليست المشكلة هي أن الإنسان الحديث لم يُحرِز بعده تقدمًا، بل هي الشك في أننا قد احتفَظْنا بالمستوى الذي بلغَتْه.» ورُوِيت وقائعُ تاريخية معينة لا جدال فيها أدلةً على هذا الرأي.
وفكر فيما قلت قليلًا، ثم قال: «ليس من المستحيل فيما أرى (وإن كنت أتعشم أن يكون بعيدَ الاحتمال) أن يبلغ الإنسان قمة قُواه العقلية ثم يبدأ في الانهيار الذي يَدوم آلاف السنين، بل كثيرًا ما ظننتُ أن هذه الحرب قد تُحدد مصيره ارتفاعًا أو هبوطًا. إن قوة الاندفاع، والباعث على التفكير المستقل، من الأمور التي يَسهل فقدانها. وقد يَستغرق الناس في مجرد التَّكرار الروتيني لِما ألِفُوه من أعمال وما اعتادوه من علاقات اجتماعية في مستوًى وضيع، وكأنهم بغير عقول. كما تستطيع بعض الحشرات أن تُدير مجتمعًا مستقرًّا بالرغم من انعدام التفكير لدَيها … ثم ما أشدَّ ما أساء الإنسانُ استخدام دياناته!»
– «إن مَن يعرف تاريخ هذه الديانات يَميل إلى التردد حتى في استعمال كلمة الديانات.»
– «هل فكرتَ في عدد كبار مؤسِّسي الديانات الذين ظهَروا حوالي القرن الخامس قبل الميلاد؟»
– «كلا. ومتى جاء بوذا؟»
– «حول هذا التاريخ فيما أظن. دعنا نتأكد.» ثم عاد إلى مكتبته مرة أخرى، وخرج هذه المرةَ ومعه مجلد من دائرة المعارف البريطانية، وتأكدتُ من ظهوره في القرن الخامس.
وسألتُه: «ومتى ظهر موسى؟» ولم يكن أحدٌ منَّا على ثقة، وكنَّا على حقٍّ في شكنا، كما ثبَت ذلك فيما بعد.
– «دعنا نبحث عنه أيضًا.»
– «لا أريد أن أرهقك بالعمل، دعني أقوم بالبحث.»
– «كلا؛ فإني أريد أن أرى بنفسي.» وجاء بمجلد آخر من دائرة المعارف البريطانية.
– «(موسى) أين تواريخه؟» وقد أمسَك بالمجلد الضخم تحت ضوء المصباح، وفحَصه بنظارة القراءة، ولم يجد أي تاريخ. وشاركتُه في البحث، ولم نجد تاريخًا.
فقال: «هذا أمر عجيب! إنهم لا يعطونك أية فكرة عن تاريخه حتى في مدى قرنَين.»
– ««موسى!» في فراغٍ من الزمن.»
– «دعنا نبحث في «الخروج».»
وبحثنا في الخروج. وقلَّبنا الصفحات، وطالَعنا عمودًا بعد عمود، وعُنوانًا بعد عنوان، وفحَصنا المطبوع معًا، من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى. فلم نجد تاريخًا، وليس مِن شكٍّ في أن المؤلِّفين الذين اشترَكوا في تحرير المقال ووقَّعوا بالأحرف الأولى من أسمائهم في نهايته، لا شك أنهم كانوا متحفظين. وربما سمعوا — كما سمعتُ — بالشك الذي يُلقي ظلَّه على الفكرة التي تقول بأن شخصيةً تاريخية باسم موسى قد عاشت بالفعل، وإن «الشخصية العظمى في القصة هي شخصية يَهْوَه.»
وتمتم هوايتهد قائلًا: «لا بد أن يكون هؤلاء الكُتَّاب باحِثين من الطراز الأوَّل؛ فإنهم لا يُمِدوننا إلا بقليل من العون. دعنا نبحث عما تدل عليه هذه الأحرف الأولى من الأسماء في الفهرست الذي يقع في أول المجلد؛ لنكتشف مَن يكون هؤلاء الجحوش!»
وقد صُعِقنا معًا.
قلت: «كوك! إنه عضو من جامعتك المقدَّسة كمبردج، وهو مشترِك في تأليف «تاريخ كمبردج القديم»، وهو المؤلف الذي أقدسه.»
وأعاد المجلد إلى مكانه من الرف.
وقال: «حين أقرأ التاريخ، أريد أن أعرف أين أنا، وينبغي أن يكون الزمن على قمة كل صفحة.»
– «إن ترفليان يقوم لك بهذا على الأقل في مجلده الوحيد «تاريخ إنجلترا».»
واستطرَد قائلًا: «حينما كنتُ أطالع فرود في شبابي كنت أنتقَّل من صفحة إلى أخرى، ومن فصل إلى آخر، دون أن ألتقيَ بزمن للتاريخ.»
قلت: «إن المؤرِّخين المتحذلِقين حقًّا يَعُدون ذِكر التواريخ محطًّا بقدرهم! كم مِن مرة في «تاريخ كمبردج القديم» تجد الحادثَ مذكورًا في صراحة تامة في إحدى الصفحات، ثم تجد أنك مضطرٌّ إلى أن تقرأ عدة صفحات قبله وبعده، حتى تعثر على السنة التي وقع فيها الحادث تمامًا.»
وقال هوايتهد: «إنهم لا يريدون أن يَجدوا في طريقهم حوائلَ؛ فالتواريخ تعترض تدفُّقَ الأسلوب الأدبي الجميل المستقيم.»
وسألتُه: «هل سعدتَ كثيرًا في أي وقت من الأوقات بالبوذية؟»
– «لا أستطيع أن أقول: إني سعدت؛ إذ يبدو أنها كلَّها تؤدي في النهاية إلى تأمُّل سلبي لا يُثمر! وربما كان لذلك الجوِّ المثبِط الذي نشأتُ فيه بعضُ الأثر في هذا؛ ففي مِثل هذه الحال يجد المرء أن أسهل الأمور أن يَجلس ساكنًا ولا يؤديَ عملًا، ولكن ذلك يؤدي إلى الجمود الاجتماعي، كما شهد العالم.»
– «يُقال: إنها لم تنجح كثيرًا في هذا البلد إلا مع الزوجات الملولات. أمَّا فيما بين عام ١٩٢٠م وعام ١٩٣٠م، حينما كنتُ أدرسها — وأؤكد لك أني كنتُ أدرسها في تقدير شديد لها — فقد كنت أعتقد أن إدراكها بطبائع النفوس يَقترب جدًّا من وقائع الحياة، ولكني لم أُنفق العشرين سنةً التي سبقَت هذا التاريخَ في لفظ دين؛ لكي أستوعب مكانه دينًا آخر بأسره.»
وقال هوايتهد مؤكدًا: «تستوعب شيئًا بأسره! إننا نعيش حتمًا بأنصاف الحقائق، ونسير سَيرًا مُرضِيًا ما دمنا لا نُخطئ، فنحسبها حقائقَ كاملة، ولكنا حينما نعتقد أنها كذلك، نجد أنها تسبب لنا مشكلات كثيرة.»
– «إن تلك الخبرة التي مرَّت بك في شبابك، حينما شهدتَ طبيعة نيوتن — التي كانت تُعَد ثابتةً كالدهر — وهي تَنهار تحت ناظِرَيك؛ إن هذه الخبرة لا بد أن تَكون قد ترَكَت في نفسك أثرًا عميقًا.»
قال: «لقد علَّمَتني أن أحذر من اليقين! كنَّا نظن أن كل ما يتعلق بالطبيعة معروف، لو استثنَيْنا بِضع نقاط مظلِمة قد تَستغرق بضعة أعوام حتى تتكشَّف. وما إن حلَّ عام ١٩٠٠م حتى وجدنا أن طبيعة نيوتن — وإن كانت لا تزال وسيلةً نافعة مُريحة للنظر إلى الأشياء — قد انتهَت بكل معنًى من معاني الانتهاء! وكما ذكَرت لكم من قبل، إن ذلك كان يُثير دهشة أرسطو، ولكنه لا يدهش أفلاطون؛ فلو راجعتَ مُحاوراتِه — لو استثنيت محاورة «القوانين» التي تُظهِره في شيخوخته حينما بدأَت آراؤه تتجمد، بالرغم من احتوائها على مادة تدعو إلى الإعجاب — لتذكرتَ أن أية محاورة منها حينما تنتهي لا تَفُض أمرًا بصفة نهائية؛ كل متحدِّث يُدلي برأيه، فيُفحَص الموضوع من نواحٍ متعددة، وقد تكون بعضُ الأوجه أشدَّ إقناعًا من بعضها الآخر. ولكن من الخطأ أن نَنسب إلى أفلاطون رأيًا واحدًا بعينه دون سواه؛ إنه يتجوَّل بنا خلال وِجهات النظر المختلِفة، وهو يتعلم أن كلًّا منها يَحتوي على شيء من الصدق، ولكن ليس منها رأيٌ واحد يحتوي على كل الصدق، والأثر النهائي لهذا في العقل المستقبل المرِن لا يَبعد عن الصواب. إننا ننتهي بمعرفة نافعة إلى حدٍّ كبير يجب علينا أن نتعلم كيف نُطبِّقها بأنفسنا؛ ليس هناك أمر كله صدق، ولكن هناك بعض الصدق في كل وجه من الوجوه، ولو أحسَنَّا فَهْم أنفسنا، لأدرَكنا أن هذه هي الوسيلة التي نُعالج بها الخبرة، اللهم إلا إذا بدأنا نتيقَّن، حينئذٍ تبدأ المتاعب! إننا ننتفع بأنصاف الحقائق إلى درجة كبيرة ما دُمنا نَذكر أنها لا تَعدو أن تكون أنصافَ حقائق.»
– «والآن، ما دمنا نتحدث عن اليقين؛ ماذا نستطيع أن نقول دفاعًا عن المتحمسين للرأي؟»
– «المتحمس للرأي عضوٌ نافع في المجتمع.»
– «إنك تدهشني بذلك، لقد انقضى الوقت الذي كنتُ أَعُد فيه المتحمسَ أملَنا الوحيد. أمَّا اليوم فأنا أنظر إليه في ارتياب!»
– «إن المتحمس يقوم بالعمل؛ إنه يخترق الأمور المألوفة الثابتة. إن قدرًا مُعينًا من الحماسة ضروري لإخراج الناس أصحابِ العادات من الأركان التي ألِفوها، وأنت تعلم أنه من اليسير أن يُكرِّر المرء عملًا بعينه أو فكرةً بعينها؛ لا لشيء سوى أن هذه الأعمال وهذه الأفكار هي التي أداها الناس، أو فكروا فيها عدةَ أجيال. وهذا أمر خطر أيضًا؛ لأن الإنسانية — إن تُرِكَت وشأنَها — تميل إلى أن تدور في نفس الأفلاك التي ألِفَت الدوران فيها، والمتحمس صورةٌ من صور عنصر الجِدَّة في الحياة، وآراؤه قد لا تكون مبتكَرة (والواقع أنها قلَّما تكون كذلك)، ولكن نشاطه ودأبه صورةٌ من الصور التي تتخذها قوة الابتكار.»
وقلت لمسز هوايتهد: «لقد قدَّم إليَّ دفاعًا اجتماعيًّا عن الحماسة، فهل تستطيعين أن تُقدِّمي إليَّ مسوِّغًا شخصيًّا لها؟»
– «نعم، إنه يَجعل الطبقات المطمئنة قلقة.»
– «ذلك ما فعله عندنا دُعاة إلغاء الرِّق؛ كان بعضُهم منفرًا إلى حدٍّ كبير، وكانت لهم نزوات في طِباعهم، استرسَلوا فيها تحت سِتار الثورة على الاسترقاق، وكان بعضُهم ممن يحب الرأفة والعدالة، وبعضهم مِن طراز الأبطال.»
واستأنفَت مسز هوايتهد حديثها قائلةً: «إن بعض الناس يَقبلون أبشع الإساءات التي تُوقَع على الآخرين؛ لأنها مألوفة، أو ليست مما يُثير نفوسهم، أو لبلادة حِسِّهم، أو انعدام الخيال لديهم. إن انعدام الشعور — الذي يَرى المتحمسُ ضرورة إثارته عند بعض الناس — يتطلب عنصر المبالغة الذي نَلمسه لديه.»
وقلت: إن الخيال الذي يُمكِّنك من العطف على الآخرين أشدُّ ضرورةً مما يَعتقد أصحابه. وأضاف إلى ذلك هوايتهد وهو يبتسم قوله: «وكذلك قوة الابتكار … وربما تَذكر عبارة لي يَرويها لفنجستون في كتابه عن التربية …»
«نعَم، أذكرها؛ إن التربية الخُلقية مستحيلة دون أن تكون العظَمة صورةً أمام أعيننا دائمًا، وهو يتخذ هذا الرأي موضوعًا من موضوعاته الأساسية.»
وابتسم هوايتهد متفكِّهًا وقال: «زارنا يومَ الأحد الماضي زميلٌ من كلية لفنجستون. وكان قد قرأ الكتابَ من قبل؛ قال: لقد حاولتُ أن أذكر مِن أين جاءت هذه العبارة، فهي مألوفة لمسمعي؛ أين وجدتها؟»