المحاورة السابعة والثلاثون
٢٥ من مايو ١٩٤٥م
تناوَلنا الغداء في نادي السبت، وكان الجو ربيعًا مُشرِقًا. ولما كان خطر استخدام عربات الأجرة قد أُلغِي، فقد أتى هوايتهد في واحدة منها. وجاء بلس بري بالأستاذ كارل وبر من كلية كُلبي ضيفًا على النادي، وهو الرجل الذي كوَّن تلك المجموعة الفريدة من مُخلَّفات توماس هاردي. قال لي: «أردت أن أدرس هاردي، ولم تكن هناك مجموعة من مُخلَّفاته؛ لذا اضطررت إلى تكوين واحدة. إنني أعمل الآن في كمبردج، وكثيرًا ما وددت العودة إلى كُلبي لأسدَّ حاجتي إلى بعض المواد.»
وكان على مائدة الطعام ما يقرب من خمسة عشر عضوًا، وكنت مع هوايتهد وحدنا في الطرف القصي، فقلت له: «ينبغي أن تحرص فيما تقوله لي من الآن فصاعدًا؛ فأنا رئيسك بعدما أصبحت أحد أعضاء اللجنة الزائرة لقسم الفلسفة.»
قال: «عجبًا، وكذلك أنا!»
– «إذن لنبدأ من جديد.»
ولكي يكون حريصًا فيما يقوله لي، أبدى لي هذه الملاحظة همسًا: «هل تستطيع أن تتصور كائنًا يخلق عالمًا لغرض مباشر، وهو أن يُسبِّح مخلوقاته بحمده؟!»
– «إن المسيحية تتعرض للنقد أحيانًا من أفراد كفاة، بيدَ أنه من العجَب أن النظرة السائدة — بالرغم من ذلك — هي أن المسيحية مُحصَّنة ضد النقد، مهما يكن الناس — من الناحية العملية — غير مُبالين. ولو حاوَل أي فرد أن ينظر إلى الأمر من خارج، ألفاه شذوذًا وحمقًا.»
قال: «إن المُتعلِّمين الذين نشئوا بروتستانت ثم اعتنقوا الكاثوليكية — كما فعل بعضهم فيما بين عام ١٩٢٠م وعام ١٩٤٠م — هم عندي قوم قرءوا التاريخ دون أن يفهموه، أو قوم لا يعرفون التاريخ؛ فإن أي فرد يتدبر معنى الحوادث التاريخية لا يمكن أن يتقهقر هكذا على علم منه. إن ركود الفكر عثرة من عثرات البشرية. وإدراك ذلك أيسر في الرياضة منه في الدين (الرياضة هي دراسة الإمكانيات). الرياضة في أثينا في القرن الخامس كانت عديمة الفائدة إذا استثنينا التطبيق العملي المباشر، مثل ١٢ × ١٢؛ كانت الرياضة صورة من صور التأمل، وكان أفلاطون شديد الانفعال بموضوعها، وكان عقله مليئًا بها؛ كان يستخدمها كأداة للتفكير، وكانت تُوحي إليه بجميع ضروب الإمكانيات التي لم تطرأ على ذهن أحد من قبل. ولو أنك تحدَّثت إلى أرسطو عنه في ذلك الوقت، فلا شك أن أرسطو كان يقول لك على انفراد: «مسكين أفلاطون! إنه مغمور في تلك الأفكار الرياضية التي ليس وراءها نفع.» (وابتسم ابتسامة ماجنة وهو يقول ذلك.) والواقع أن هذه الأفكار الرياضية في عهد أفلاطون كانت عديمة الجدوى، وبقيت كذلك ما يقرب من ستة عشر أو سبعة عشر قرنًا، ومنذ القرن الثاني عشر بعد الميلاد تقريبًا جعلت هذه الأفكار الرياضية — التي انفعل بها أفلاطون انفعالًا شديدًا — العالم الحديث ممكنًا.»
– «وهل هناك سبب خاص نعرفه جعلها تُثمِر كما فعلت بين عصر النهضة والقرن الخامس عشر تقريبًا في فرنسا وإنجلترا؟»
– «كلا، فإن كل ما يلزم للعلم الحديث والتكنولوجيا الحديثة كان موجودًا في عصر أرشميدس. وإني حينما أقول لك — كما قلت من قبل — إن كل ما كان ينقص صقلية أو اليونان العظمى — فيما يظهر — هو أن الناس لم يجلسوا إلى جوار النار ويُشاهِدوا أغطية غلَّاياتهم ترتفع ببخار الماء الذي يغلي. إني حينما أقول ذلك قد يعتقد الناس أني أمزح مزاح البلهاء، ولكني جادٌّ جدًّا فيما أقول.»
– «ثم نعود إلى «إذاعة» تجربة مُعيَّنة. التجربة — كما قلت لي — بحاجة إلى اتساع إذاعتها لكي تستمد الاستجابة لها من أوسع انتشار ممكن للمواهب؛ فنحن لا نجد عازفين ممتازين على البيانو بين رعاة المَزارع الغربية في القرن التاسع عشر، مهما تكن المواهب الكامنة لامعة؛ إذ لم يكن هناك بيانو.»
والحديث يدور عادة بين كل اثنين حتى يدق رئيس الجلسة المائدة ليسود النظام؛ ولذا فقد سألني هوايتهد عن الأخبار التي نُمِيت إلى مكتبي في ذلك الصباح فنبَّأته، ثم قلت: «هل تستطيع أن تذكر أمة غربية واحدة اتصلت بالأفكار التمدنية التي سادت في الخمسة والعشرين قرنًا الماضية، منذ عهد اليونان القدماء؟ هل تستطيع أن تذكر مثل هذه الأمة التي كان يمكن أن تقوم بما يُقال عن الألمان في الوقت الحاضر إنهم يقومون به؟»
قال: «ليس في أعمالهم التي تُنسَب إليهم جديد؛ فالغلبة، والسرقة، والقتل، بل والتعذيب، كان دائمًا موجودًا في مكانٍ ما وإلى درجةٍ ما. والجديد عند الألمان هو المدى؛ فإن ذلك لم يحدث من قبل بمثل هذا المدى.»
– «وإلى أي حدٍّ تعتقد أنهم سيُحسِنون السلوك بعد هذا؟»
قال: «لقد هدموا الإمبراطورية الرومانية، وهدموا نظام العصور الوسطى، وهدموا مدنية أوروبا الحديثة، وأعني تلك المدنية التي بدأت منذ خمسمائة عام، في عهد النهضة تقريبًا. والراجح أنهم سيُواصِلون الهدم؛ لأنهم يُحِبون الهدم.»
وهنا دق مارك هاو رئيس الجلسة المائدة، وطرح موضوع اليابان للمناقشة. وقام بأكثر الحديث لانجدن وارنر الذي عاش وتجوَّل كثيرًا في الصين واليابان؛ وكامرون فوربس، الذي كان سفيرًا في اليابان كما كان حاكمًا عامًّا للفلبين. وكان مدار حديثهما هذه الموضوعات الهامة: ماذا سيتم في حالة النصر بشأن مواني المعاهدة الصينية، وبشأن منشوريا، وكوريا، وقواعد الطيران الجزرية؟ وأي لون من ألوان الحكم سيسود في الجزر اليابانية الوطنية؟ وظن كام (كامرون) أن مواني المعاهدة ينبغي أن تُرَد للسيادة الصينية، ولكن ربما رُدَّت القواعد لبريطانيا لتحتفظ بظاهر كرامتها الاستعمارية كلها ما عدا هنج كنج، التي رأى أنها مركزية في حيويتها حتى إنه لا يصلح لها إلا التدويل. ولم يرَ هوايتهد سببًا لأن تسترد بريطانيا مواني المعاهدة، ثم قال: «أما سنغافورة فهي تهمُّنا من أجل أستراليا ونيوزيلندا.»
وواصل هوايتهد حديثه قائلًا: «إنني في شك من أهل الصين. إن تطوُّرهم الثقافي لا ينم عن الاطراد؛ فلم يكن هناك تقدُّم يُذكَر فيما بين عام ٥٠٠ق.م وعام ١٢٠٠ بعد الميلاد تقريبًا. ويظهر أنهم في العصر الحديث يحاولون أن يتشبهوا بالأمريكان ما استطاعوا، ولكن هب أنهم نجحوا في التشبُّه بأمريكان القرن العشرين، فهل لديهم المقدرة — بعد ذلك — أن يُواصِلوا التقدم بطريقتهم من هناك، أم هل سيبقَون قرونًا بعد ذلك مُتشبِّهين بأمريكان القرن العشرين؟»
وقال كامرون فوربس عن الشيوعيين في الصين: «إنهم يختلفون أشد الاختلاف عن الشيوعيين في روسيا السوفيتية؛ فإن الأصول التاريخية التي تُكيِّفهم تعود إلى الماضي السحيق، ماضي الصين الذي يخصها دون سواها، حتى إنك حينما تقول عنهم إنهم «شيوعيون» فأنت لا تكاد تتحدث عن نفس المعنى الذي يُفهَم من الشيوعية في روسيا.»
وقال هوايتهد: «إن ما تقول يُشوِّقني؛ لأن الناس يعتقدون — فيما يظهر — أنهم حينما يستعملون لفظة «الشيوعية» يُسمُّون شيئًا بعينه على وجه الدقة، وأنهم يعرفون ما يتحدثون عنه؛ والواقع أنه ليس هناك — كما ذكرت — ستة آراء وتعاريف للشيوعية في أذهان الناس حينما يُثيرون الموضوع للمناقشة، ليس ذلك فحسب، بل إن هناك ما يقرب من ستمائة تعريف مُختلِف.»
وانفض الاجتماع في نحو الساعة الثالثة والنصف، وناديتُ وهوايتهد عربة أجرة عند برمستون كورنر، وطوَينا شارع بارك وهبطنا في بيكن حتى شارلز مارين بمروج كومون التي اخضرَّت الآن في شهر مايو. وقال هوايتهد: «إني لم أستمع من قبلُ إلى كام وهو يتحدث بمثل هذه الحكمة التي تدعو إلى الإعجاب. إن السامع — عادةً حينما يبدأ — يستعد للاختلاف معه، أو للتسامح، أو يلزم الصمت حذرًا، ولكن لشدَّ ما كانت دهشتي حينما وجدتني على اتفاق تام معه في كل ما قال.»
وسِرنا عبر قنطرة لنجفلو، وضربنا في كمبردج، التي كانت أيضًا نضِرة بهيجية بعدما لبست رداء مايو القشيب الأخضر، وكانت في زهريات مسز هوايتهد في حجرة جلوسها أعواد الأزهار ذات الزرقة الشاحبة، كما تدفَّقت من النوافذ الغربية أشعة شمس الأصيل اللامعة، وذكرنا لها بعض ما دار من حديث حول المائدة مُعادًا؛ بناءً على طلبها، ثم عطفنا نحو الحديث في النظام الاجتماعي الأمريكي.»
وقال هوايتهد مُؤكِّدًا: «أعتقد أن النظام الاجتماعي الأمريكي — على وجه الجملة — خير ما وُجِد من نُظُم. إن له عيوبًا خطيرة، وللنظام الإنجليزي بعض نواحي التفوق، غير أن نظامكم لا يزال خير ما أُنشئ من نُظُم حتى اليوم. ومن المتناقضات أنكم لستم في الحقيقة شعبًا «سياسيًّا»؛ إن ثلث مواطنيكم — في رأيي — من الطراز الأول حقًّا، ولكنهم ليسوا من هذا الطراز في السياسة؛ ومن الثلثَين الباقيَين نحو النصف — في زعمي — من الطراز الثاني، ولكنهم طيبون برغم ذلك؛ أما النصف الثاني (وهنا تردَّد ثم استمر في حديثه) فمُجرِمون.»
قلت: «ويتضمن كثيرًا من رجال السياسة عندنا.»
قال: «نعم.»
وتقرَّر أن نعدل عن الحديث في هذا الموضوع.
قال: «لقد دُعيت لحضور الحفل الذي سيُقام في السادس من شهر يونيو، وقد سارعت إلى التلبية قبل أن يتسع لهم الوقت لسحب الدعوة.»
وكان من رأي هوايتهد أنه ربما أُثيرَت بشأنه ضجة كبرى.
فقلت: «لن يكون ذلك من وجهة نظر الجامعة. متى كان أستاذ الشرف المُتقاعِد للفلسفة في أية جامعة أمريكية قبل اليوم رجلًا يحمل وسام الاستحقاق؟»
قال هوايتهد: «هذا أمر لا أهمية له.»
– «أنا أعرف أنه عديم الأهمية، ولكن هذه الجامعة قد وقعت في أخطاء جسيمة في السنوات الأخيرة؛ من تلك الأخطاء أنها سمحت لهارفي كشنج أن يذهب إلى ييل، ومنها أنها سمحت كذلك أيضًا بهذا لجورج بيرس بيكر، وهناك وآخرون.» وقد ذكرت لهم رأي هارفي كشنج في هذا كما أخبرني به ذاتَ أحد بعد الظهر في صيف عام ١٩٣٢م حينما كنا وحدنا في بيته القديم بشارع والنت في بروكلين.
قال هوايتهد: «إن عادة إحالة الرجل إلى التقاعد رغمًا عنه في سن الستين عادة سخيفة.»
وصحَّحت زوجه رأيه بقولها: «يُقال إنها في حالة الجراحين ضرورة؛ فقد عرفت أنهم لا يستطيعون في هذه السن أن يثقوا في يد ثابتة.»
– «إن كشنج لم يشكُ التقاعد في سن الثالثة والستين، بل لقد حدَّد هذه السن بنفسه حينما قام بتنظيم مستشفى بيتر بنت بريام، والواقع أنه لم يشكُ شيئًا قط، ولم يقُل إلا إن الماليين المُنحرِفين — الذين وضع فيهم ثقته — قد محَوا جزءًا كبيرًا من ضيعته، بما فيها ما ورثه عن الدكتور الكليفلاندي، الذي لم يمسَّه قط بل احتفظ به لشيخوخته. وقد تدهورت صحته — كما تذكر — وعُرِف عنه ذلك كله، فمُنِح في هارفارد أستاذية بغير مُرتَّب.»
وبدا هوايتهد مُتجهِّمًا عابسًا.
وغيَّرت مجرى الحديث بسؤالي: «كم كان عمرك حينما أحسست أولًا بالتضلع في مادتك؟»
قال: «لم أُحِس بذلك قط.»
– «إذن فقد وجَّهت السؤال في صيغة نابية. ربما كان ما حاولت أن أسألك عنه هو: متى بدأت أولًا تُحِس بالكفاية في عملك؟»
– «لم أُحِس قط أني كفء له.»
قالت زوجته: «يا لله! أنا أعلم منه بذلك. لم يمر عام ويعود شهر سبتمبر ويستأنف التدريس، إلا وانتابه الضعف.»
– «أنت شاهدة كفء.»
– «لم أُراقِبه إلا واحدًا وخمسين عامًا.»
وقال هوايتهد الذي كان يُصغي في شرود: «هذا رأيي في عادة الإحالة على التقاعد رغمًا. إنها عادة سخيفة؛ لأن الإنسان قد لا يفكر في أمر جديد بعد الستين إلا أنه كثيرًا ما يجد وسائل جديدة لاستخدام ما عرفه من قبل.»