المحاورة الأربعون
١٩ من يونيو ١٩٤٥م
كان يومًا عاصفًا، هبَّت فيه عاصفتان بحريتان؛ إحداهما عند ماريلهد، والأخرى عند ناهانت، كما هبَّت عاصفة ثالثة في مكاتب تحرير مجلة «جلوب»، حيث غضب فريق لنشر مذكرات شيانو في الصحيفة، وعدُّوا ذلك دفاعًا عن الفاشية؛ وسُر فريق آخر لعرضها في جميع الأنحاء وتمكين الشعب من التفرقة بين الغث والسمين.
وأخذ آل هوايتهد بالرأي الثاني، وقد مر هوايتهد وزوجه عرَضًا بكمبردج لبضعة أيام في الفترة ما بين عودتهما من لدن بكمان في بدفورد وقضائهما شهرًا في مين حيث يعتزمان الرحيل إليها في يوم الجمعة القادم. وكانت جميع نوافذ مسكنهما مُفتَّحة على مصاريعها تستقبل هواء الليل الرطب، الذي يتسلل منه إلى الداخل نسيم حفيف، وفي آنيات الزهر أعواد نبات الصليب الضخمة البيضاء مُنكِّسة رءوسها، وقد رُفِعت جميع السجاجيد وأُسدِلت ستائر النوافذ، فأكسب ذلك الغُرف جوًّا باردًا نقيًّا مُنعِشًا، وعطَّرت الجوَّ أزهار شهر يونيو فبدت هذه الغُرف المألوفة في صورة غير عادية، وأشاعت في المكان جو الصيف.
وكنا نقول: كيف أن الطلاء الجميل لخشب الأرض المتين — الذي انكشف الآن — يعكس الماهوجاني كما يعكس أعواد نبات الصليب البيضاء؟ وعندئذٍ دخل علينا هوايتهد قادمًا من مكتبه.
قال: «أرى أن سجاجيدنا قد رُفِعت. إنني لم ألحظ ذلك من قبل.»
قالت، وقد سخرت منه: «نعم، ألم ترَني أجوس خلال البيت أجمعها لأبعث بها إلى محلات التنظيف.» ثم نهضت وتوجَّهت نحو دولاب طويل من خشب الماهوجاني وقالت: «لدينا شيء نريد أن نُطلِعك عليه.» وكان ذلك الشيء في كيس من الجلد القاتم، موضوعًا فوق محمل لونه عاجي؛ ذلك هو شارة وسام الاستحقاق. إن الصليب المالطي مصنوع من الميناء الثمينة ذات اللون الكهرماني التي تكسو الذهب، يعلوه تاج ذهبي، ودائرة من اللآلئ حول مركز من الميناء ذات اللون الأزرق الملكي، وقد نُقِشت عليها هذه اللفظة «للاستحقاق» مكتوبة بالذهب وحولها إكليل من الغار.
قلت: «لا أعتقد أنهم يُقصِّرون في تكاليف الوسام.»
قالت: «من حسن حظنا أنه لم يُكلِّفنا شيئًا. إن كل وسام آخر مما تمنحه الحكومة لا بد أن يدفع ثمنَه الشخص الذي يتسلمه إلا هذا، فهو هدية من التاج.»
– «أعتقد أن التاج قد دفع فيه مبلغًا ما، وأود أيضًا أن أذكر أن الجامعة قد أقامت حفلها على صورة رائعة؛ فلم تُلقِ الخطب الطويلة، ولم يشعر أحد بالملل، ولا ضجيج ولا حواشي، ولم يحضر إلا العدد المطلوب فحسب. هل ترى أن مائتَي شخص حضور عادي في الكلية؟»
فقال باسمًا: «كان حضورًا عاديًّا بالنسبة لمن حضر؛ فقد كانوا أعضاءً في قسم الفلسفة.»
قلت: «من الرجال والنساء بطبيعة الحال.»
– «ومن صغار الزملاء وكبارهم.»
– «هؤلاء استطعت أن أتبينهم؛ لأني عرفت بعضهم.»
واستأنف حديثه قائلًا: «ومما بعث السرور في نفسي حضور السكرتيرَين من القسمَين رجالًا ونساءً ممن يحملون كثيرًا من عبء الإدارة.»
وقالت: «لم يكن لنا شأن بالدعوات، فلم ندعُ سوى جون وماري من ناحيتنا، وهما بطبيعة الحال جزء من الأسرة، وقد أرضانا ذلك كثيرًا، ولم يكن من المُؤكَّد حتى اللحظة الأخيرة أن يتمكن ألفرد من الحضور؛ فقد رقد طول النهار، وأخيرًا نهض وحاول الحضور بنفسه.
وفي اللحظة التي وصل فيها إلى ردهة الجامعة أحس بالعافية، وأود بهذه المناسبة أن أذكر لك أن دعوتك جاءتك عن طريق علاقتك الرسمية بقسم الفلسفة.»
وجاء دوري في الكلام فقلت: «عندي لكما نبأ سار؛ إن لفنجستون سيحضر ليُحاضِر في تورنتو في سبتمبر المُقبِل. إنه لم يطلب إليَّ أن أُخطِر أحدًا بذلك، ولم أُخطِر سواكما حتى الآن.»
وقال هوايتهد: «لا بد من رؤيته. هل هناك أمل في حضوره هنا؟»
– «لست على ثقة من ذلك. إنه يقول إنه يُنفِق الساعات مُتنقِّلًا في تفكيره من مشكلة جامعية إلى أخرى، وإنه سوف يُحاضِر في تورنتو إذا أمكن أن تُكتَب المحاضرات.»
فقال هوايتهد: «قُل له عندما تكتب إليه إننا سنشعر بخيبة الأمل شعورًا قويًّا إذا لم نرَه.»
وتباحَثنا في الطُّرق والوسائل في شيء من التفصيل.
– «إن كُتيِّبَيه الصغيرَين عن التربية قد أُعيدَ نشرهما في هذا البلد في مجلد واحد بواسطة ماكملان، وأطلق عليهما هذا العنوان البسيط: «في التربية». ويقول لي بائع الكتب في مكتبة «الركن القديم» إنه يُوزِّع توزيعًا حسنًا.»
قال هوايتهد: «إنه يستحق ذلك؛ قرأت الكُتيِّبَين في الطبعة الإنجليزية، وقدرتهما قدرًا كبيرًا.»
– «متى نُشِر كتابك «أهداف التربية»؟»
– «دعني أرَ؛ فقد نسيت.» ثم توجَّه إلى مكتبه وعاد بالمجلد وقرأ في المقدمة تواريخ فصوله المختلفة. ويقع أكثرها بين عام ١٩١٢م وعام ١٩٢٢م. ثم واصل الحديث قائلًا: «إن كتاباتي في الفلسفة كانت كلها بعد قدومي إلى هذا البلد، بيدَ أن الأفكار كانت تتوالد في ذهني في خير سِنِي حياتي، وقد نبت بعضها لديَّ عندما كنت في المدرسة وقبل أن ألتحق بالجامعة، وكنت أستمع إلى المناقشة في التربية دائمًا منذ حداثتي؛ فقد كان أبي واثنان من أعمامي مُشتغِلين بها، وكنت في كمبردج — كما تعلم — عضوًا في «جماعة الرسل».»
قالت: «كان في ذلك شيء من الشذوذ، أليس كذلك؟ ألم تكن العالم الرياضي الوحيد في المجموعة؟»
وأجاب: «… ربما كان ذلك لأني كنت العالم الرياضي الوحيد الذي يهتم بالآراء العامة.»
ثم تبيَّن أن هوايتهد قد نجح في امتحانات الزمالة في ترنتي مصادفة (وللطالب ثلاث فرص). وكان الأمل ضعيفًا في قبوله حتى لقد انصرف في الصيف دون أن يترك عنوان إقامته.
قلت: «أشك في أني قد قرأت في العبارات الإنجليزية تفكيرًا مُحكَمًا يبلغ ما بلغ في كتابك «أهداف التربية». هل الكتابة سهلة عندك؟»
قال: «نعم، إذا كانت في موضوع أودُّ الكتابة فيه.»
وبدا الشك على وجه زوجته فسألها: «ما رأيك؟»
فذكَّرته بقولها: «إنك مليء بالأفكار، وأنت تُدوِّنها كلها أولًا، وهي تشتمل على كل شيء، ثم يأتي بعد ذلك دور الترتيب والتهذيب.»
– «بمعونتك …»
– «نعم. أنت تقرأ بصوت مُرتفِع وأنا أُصغي …» ثم قالت لتُؤيِّدني: «عنده عادة سيئة في تكرار لفظة بعينها مثل «لذلك» أو «بينما»، وفي كل صفحة بعد أخرى ترد هذه اللفظة …»
– «هل يفعل ذلك أيضًا؟ إن التكرار نوع من التأثير المغناطيسي في النفس.»
وأضافت مُوجِّهة إليَّ الكلام: «إني لأعجب كيف تستطيع أن تكتب بهذه الكثرة.»
– «وإني لأعجب أيضًا لذلك. والجواب على هذا هو أني لا أُكثِر الكتابة؛ فأنا أكتب مرتَين كل أسبوع في هذه الأيام، أو ثلاث مرات عند الضرورة، ولكني أتغيَّب شهورًا أسترد فيها الأنفاس.» ثم سألتُ هوايتهد: «ماذا تفعل لكي تقي نفسك الإجهاد؟»
وأجاب، وقد ابتسم ابتسامة رقيقة على ما يُصيبني من حبوط، قال: «لقد حاضرت مرتَين في اليوم عدة سنوات منذ كنت في الرابعة والعشرين من عمري، ومن الحق أن عطلة الصيف كانت تمتد من أواخر يونيو إلى أوائل أكتوبر، كما كنا نتعطل أربعة أسابيع في عيد الميلاد وخمسة في عيد القيامة؛ فلم يكن جدول الأعمال ثقيلًا.»
وذكَّرته زوجته بقولها: «ولكن من الحق أيضًا أنك لم تكفَّ عن العمل قط. إذا قمنا برحلة في القارة الأوروبية لم تدع ظرف خطاب في جيبك لم تملأ ظهره بالكتابة فوق ركبتك في قطارات السكك الحديدية أو في الفنادق كلما طرأت على ذهنك الأفكار، وإذا مكثنا في إنجلترا في مكان ما في الريف كنت أيضًا تتصفح مذكراتك الفلسفية الخاصة.»
ووجَّهت إليه خطابي قائلًا: «الظاهر أنك لا تعتقد أن الرجل يستنفد نشاطه ويُنفِق كل طاقته للعمل بالتعبير الدائم عن نفسه، في حدود وقته وحيويته.» (وكنت أفكر في أكثر من باحث علمي ألقى محاضراته حديثًا وكان بإمكانه أن يُصدِرها كتابًا، وكنت كذلك أفكر في الإجهاد الذي ألمسه حولي بين الصحفيين الذين لا يستطيعون — أو لا يريدون — أن يتوقفوا عن العمل وقتًا كافيًا.)
وأجابني هوايتهد بقوله: «كلا. إني أعتقد أن المرء يُفيد من مثل هذا التعبير؛ فهو يُوضِّح الآراء الغامضة بصياغتها حديثًا أو كتابةً. وبالتعبير يُطوِّر أفكاره ويشق طريقه إلى أفكار جديدة.»
– «ربما كان ما كنت أريد السؤال عنه هو: هل تستمتع بالكتابة؟»
– «نعم، أحب أن أكون في جوها.»
– «وإحكام الفكر في أسلوبك، هل تعتقد أنه نشأ عن تدريبك الرياضي؟ لقد تعلمتَ طريقة من طُرق التعبير ثم انتقلت إلى غيرها، وكأنك — بعد تدريبك تدريبًا ذهنيًّا قاسيًا — انتقلت في يسر إلى فن الكتابة والكلام.»
فقالت زوجته: «لقد مر وليام جيمز بشيء من هذا؛ فقد تعرَّض لتدريب ذهني شاق في الطب أولًا، ثم انتقل إلى الفلسفة، وعلم النفس، وتستطيع أيضًا أن تقول إلى الأدب.»
قال هوايتهد: «لقد أفدت من الاشتراك في المناقشات العامة في ترنتي، ثم من خبرة واسعة فيما بعد بمشكلات التربية في جامعة لندن، وذلك بعينه هو نوع التربية الذي يرضى عنه أفلاطون. إن الرياضية لا بد أن تُدرَس، أما الفلسفة فيجب أن تُناقَش.»
وكان هذا الرأي قنبلة عنيفة ألقى بها، صمت بعد إلقائه برهة لكي يُعطيني فرصة لاستيعابه.
ثم واصل حديثه بعد ذلك قائلًا: «ولا بد أن تتسامح في انعدام الدقة في اللغة، ومهما قلتُ فلست مُبالِغًا في ذلك، وهو موضوع أعود إليه حينًا بعد حين، ومن يقل بأن الفكر يمكن أن يُعبَّر عنه بالرموز اللفظية تعبيرًا كاملًا أو مقبولًا فهو معتوه أحمق، وقد عاد هذا الفرض على الفلسفة بالضرر البالغ. خُذ مثالًا أبسط عبارة عن حقيقة من الحقائق؛ إننا نحن الثلاثة نجلس في هذه الغرفة. فإن كل ما له أهمية تقريبًا لم يُذكَر في هذه العبارة؛ فإن «هذه الغرفة» تفترض وجود بناء، وكمبردج، والجامعة، والعالم من حولنا الذي نحن جزء منه، والنُّظم الكوكبية التي يُكوِّن عالمنا جزءًا منها، والماضي السحيق الذي انحدرنا منه، والمستقبل البعيد الذي ينبض في عروقنا ويسبقنا إلى الأمام. والعبارة تفترض سلفًا شخصياتنا المستقلة؛ كلٌّ منا يختلف عن الآخر، كما تفترض كل ما نعرف، وكل ما نحن عليه، وكل ما قمنا به من عمل. إن التعبير باللفظ عن جلوسنا هنا يكاد لا يعني شيئًا. وبالرغم من هذا، فإنا — في موضوعات أكثر من هذا جدية بكثير، وعلى نطاق أوسع مدًى — نقبل دائمًا أقوالًا عن حقائق تاريخية وتأملات فلسفية أشد افتقارًا إلى الدقة أو إلى أية علاقة بالحقائق الدقيقة. وحينما نُخاطِب بهذه الأفكار المُبالَغ في تبسيطها أشخاصًا لا يستطيعون أن يُحيطوها بالفروض المحذوقة، فإنها لا تعني شيئًا، ولا تفهم، بل ولا تطرق الذهن …»
وعلى مائدة صغيرة على يساره وُضِعت كأسان من النبيذ، له ولي، فمسَّهما وقال: ««واحد وواحد يُكوِّنان اثنين.» واحد وواحد من ماذا؟ كأس واحدة، أو كأس واحدة بها بعض النبيذ؟ أو واحد وواحد في أي مكان؟ على المائدة، أو في هذه الغرفة، أو في هذا الكون؟ ثم إن كأسَين ليستا ولا يمكن أن تكونا مُتساوِيتَين تمامًا بأية حال، ولا يمكن أن تمتلئا بكميتَين مُتساوِيتَين من النبيذ. فهل نعني إذن «واحد زائدًا لواحد» بعد حساب كل نقص أو إضافة ضرورية؟ ولكن الكأسَين تموجان أيضًا بالنشاط الذري. ولولا أننا تعوَّدنا أن نقيس الوقت بمقاييس ناقصة مُضحِكة من وعينا بامتداد الحياة البشرية، لَتذكَّرنا أن هاتَين الكأسَين تنحلان أمام أعيننا. إني أرفض أن أُخدَع بمثل هذا الانعدام في الدقة الشنيع في استخدام الألفاظ.»
وكان فيما قاله ما يملأ الرأس بالتفكير في برهة واحدة، وقد حوَّم قليلًا حول هذا الموضوع وسألني: «هل تظن أن الإغريق كانوا أول شعب في التاريخ أحس بالحاجة إلى شيء يخضع للدقة في اللغة؟ لقد كانوا بحاجة إلى تفسير صحيح لهومر. متى كان ذلك؟»
– «في وقتٍ ما في القرن السادس ق.م، والمفروض أنه قد تم بأمر من بزستراتوس.»
– «ومتى تظن أن الأدب العبري القديم قد بدأ؟»
وتحدَّثت عن الطريقة المعروفة التي جُمِعت بها في التوراة، ثم أضَفت إلى ذلك قولي: «إن العهد القديم والقصائد الهومرية كلاهما من «الكتب التقليدية» التي استغرقت في استكمالها قرونًا. وفي طريقة جمعهما — أحدهما بوساطة اليهود القدماء، والآخر بوساطة الإغريق القدماء — ترى الفرق واضحًا جدًّا في أسلوب الشعبَين وروحهما؛ فقد أخرج أحدهما كتابًا في الأخلاق، والآخر عملًا فنيًّا.»
قال: «إن العبقرية العبرية فريدة في بابها، كانت خلقية إلى درجة كبيرة، كان اليهود من أبرز الشعوب التي عاشت في التاريخ.» وكرَّر ما قال من قبل، وهو: «إني بالرغم من هذا لا أعتقد أني كنت أحب العيش بينهم؛ فقد كان الإغريق أقوى منهم منطقًا.»
قلت: «وبالرغم من هذا فقد أخرج اليهود كتابًا من أعظم الكتب التي عُرِفت في التاريخ، وقد فاق «الإلياذة»!»
فقال هوايتهد وعيناه تبرقان: «إذا اعتقدنا في الوحي المنسوب إلى الإنجيل، تعجَّبنا كيف يُختار لتدوين بعضه رجل مثل سليمان، برغم من أنه كانت لديه مليون زوجة وألف محظية.»
وكان من رأيي «أنه لو كان كذلك، فلا بد أن يكون قد حدث في شبابه حينما لم تكن له سوى زوجتَين، وحينما كان في بداية حياته.»
وأضافت إلى ذلك مسز هوايتهد قولها في جِد ورزانة: «وقبل أن تبدأ تبعاته العائلية الثقيلة.»
وعلَّقت بقولي: «إن داود شخصية أدعى إلى العطف، وليس من شك في أن مذكرات قصره أشد إخلاصًا مما يكون عليه عادة هذا النوع من الأدب. ولا تزال الألوف من الفتيان الخارجين على الدين يُسمُّون باسمه، بعدما بطلت التسمية بهكتور بزمان طويل. إن داود اسم جميل. أمَّا عن سليمان، أفليست زوجاته الإحدى ومليون مجرد قصة طويلة؟ إذا كان المرء سيقص أكذوبة كبرى، فأحرِ به أن يروي قصة جيدة.»
وسأل هوايتهد: «هل هناك ما يدعو إلى الظن بأن الأمم المُحيطة قد أعارت اليهود القدماء اهتمامًا كبيرًا؛ أي قبل عهد الغزوات الرومانية؟»
واعترفت بجهلي في هذا، ولكن ما كان ينطبع في ذهني هو أن هذه الأمم لم تُعِر اليهود القدماء إلا اهتمامًا قليلًا نسبيًّا.
واستطرد قائلًا: «إن ما أود معرفته هو إلى أي حد كان الساميون والهلينيون يُعيدون التعبير عن آراء كانت سائدة بوجه عام في ذلك الجزء من العالم القديم، أم لم يفعلوا ذلك قط؟ وأعني تلك الآراء التي تدفَّقت إليهم من شعوب أقدم وأمم مُجاوِرة. إننا نعلم بالطبع أن شيئًا من هذا قد حدث، وأن بعض الآراء الشرقية كانت معروفة لأفلاطون، وأن الأنبياء القدماء قد سبقوا يسوع في كثير من آرائه.»
– «حينما أسأل — وكثيرًا ما يحدث ذلك — كيف أُعلِّل تفجُّر العبقرية في اليونان من القرن السادس إلى القرن الثالث ق.م، أكاد لا أعرف من أين أبدأ.»
وأجاب هوايتهد بقوله: «لا بد أن تذكر أن شرقيَّ البحر المتوسط كان بقعة عجيبة، واستمر كذلك أمدًا طويلًا؛ فهناك إلى جانب الهلينيين والساميين الثقافة المنوانية الميسينية، والفينيقيون، والإمبراطوريات الثلاث الكبرى؛ بابل وآشور ومصر.»
وهذه اللمحة السريعة للنظام الرتيب الذي تنهار على أساسه الإمبراطوريات دفعه إلى التحدث عن زيادة السرعة في تطوُّر عالمنا اليوم عنها في أي عهد سبق.
واعترضت الحديث مسز هوايتهد بهذه العبارة: «لقد اتفقنا — لو استطعنا — أنا وألفرد أن نعود مرة كل خمسين عامًا لنرى ما حدث.»
قال: «ولا نحتاج إلى البقاء سوى شهرَين في كل مرة.»
– «إنك تريد «أن تموت موتًا مؤقتًا» مثل توم سوير.»
قالت: «كلا، بل ثلاثة أشهر. إننا في حاجة إلى مثل هذه الفترة لكي نتمثل بقدر ما نستطيع.»
وتابع هوايتهد الحديث في الموضوع الأساسي قائلًا: «وسواء أرَّختَ هذا الاطراد في سرعة التطور منذ مائة وخمسين عامًا، أو منذ خمسين عامًا، فإن التغير في مجتمعنا يفوق كل ما سبقه في التاريخ. إن الآراء بعيدة المدى في الطبيعة البشرية لم تتغير، فهي تتعلق بطريقة التفكير، والشعور، والعمل. أما ما استجد في موقفنا فهو …» وهنا توقَّف قليلًا وابتسم، ثم واصل الحديث قائلًا: «ما أُسميه «الحِيَل».»
– «وماذا تعني ﺑ «الحِيَل» على وجه الدقة؟»
– «أعني بها الأسماء التي تُطلَق على مختلف الشعارات السياسية والتي تُسهِّل قبولها؛ أعني الوسائل التي نُقابِل بها الأزمات الاجتماعية المختلفة؛ أعني الأسماء التي نُطلِقها على التطور الاجتماعي … وما شابه ذلك.»
وتدخَّلت في الحديث مسز هوايتهد وهمَّت قائلةً: «سأُعطيك مثالًا؛ عندما تجد حكومتكم نفسها مُضطرة إلى اتباع سياسة استعمارية، تُسمونها «حسن الجوار»، ولكنكم برغم هذا تحتفظون بجزر المحيط الهادي، وينبغي لكم أن تفعلوا ذلك؛ فقد كلَّفتكم كثيرًا. أما إذا فعلت إنجلترا مثل ما تفعلون أطلقتم عليه «مناطق النفوذ».»
ووجَّهت حديثي إلى هوايتهد سائلًا: «هل تعتقد أن الولايات المتحدة استعمارية؟»
قال في هدوء: «لا شك في ذلك.»
ولما تأكَّدت من آرائهما لم أُتابِع الموضوع، بل عُدت إلى تعريف «الحِيَل».
قلت: ««الحيل» إذن هي الطريقة التي يدور بها الناس حول الأركان على عجلة دون الاحتكاك بصنابير المياه.»
قال: «إنهم لا يتحاشون دائمًا هذه الصنابير.»
فعلَّقت على ذلك بقولي: «إن الحِيَل، مألوفة جدًّا لديَّ؛ فهي تشغل الجانب الأكبر من فراغ الصحف، ولكن ما رأيك في الآراء بعيدة المدى للطبيعة البشرية؛ كيف نفكر ونُحِس، ولماذا نسلك هذا السلوك؟»
قال هوايهد: «هذه الآراء مألوفة لديك أيضًا؛ فقد دوَّنها الإغريق. والعجيب في الأدب اليوناني أنه لا يشيخ؛ فهو اليوم في مثل الحيوية التي كان عليها عندما كُتِب.»
قلت: «بل أكثر من ذلك. إننا ندرسه لكي نفهم أمورًا عن أنفسنا لا يستطيع كُتابنا أن يذكروها بمثل هذا الوضوح.»
واستطرد هوايتهد قائلًا: «إن فناء الآداب دراسة فريدة. هب أن الأدب اليوناني قد أُبيدَ كله — وقد كان ذلك شديد الاحتمال — لو حدث ذلك ما كان ينقصنا ذلك الذي لم نعرفه قط، ومع ذلك فإن حياتنا بأسرها كانت تُمسي أفقر مما هي بدرجة كبرى! أعتقد أن جامعة الإسكندرية هي التي أنقذت هذا الأدب، واحتفظت بأوراق البردي ونشرت تأثيرها ومحتوياتها على نطاق واسع مكَّن لها البقاء. إني أسأل نفسي أحيانًا: ما الذي يجعل للأدب قيمته التي تُخلِّده؟ إن أدب القرن الثامن عشر — على سبيل المثال — قد فقد كثيرًا، بل أكثر ما فيه من عناصر التشويق، اللهم إلا إذا كان يقرؤه لكي يفهم كيف كان الناس يعيشون ويفكرون خلال تلك الفترة، وإن سرعة التطور الاجتماعي وعنفه في وقتنا هذا كفيل بأن يحكم على آداب كثيرة أخرى بالإهمال، بما فيها بعض ما كبته مُعاصِرونا الذين ظفروا منا بالتقدير. أعتقد أن الآداب «الاجتماعية» هي التي تسقط في البحر حينما ينبغي أن نُخفِّف حمولة السفينة لكي تنجو من العاصفة.»
– «لست على ثقة مما تعني بالآداب الاجتماعية.»
– «الآداب التي تفترض سلفًا استمرار نظام اجتماعي قائم، وأقصد به النظام الاجتماعي الذي تقوم عليه.»
– «هذا الشرح يجعل الأمر أشد وضوحًا، ويستطيع المرء فعلًا أن يذكر أعمالًا أدبية عديدة كان لها قدرها في القرن التاسع عشر — وهي بالفعل من الطراز الأول في بعض الأحيان — وقد ألقى بها في اليم التطور الاجتماعي في وقتنا الحاضر.»
قال: «إن كتابات الفترة الأخيرة من القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر أقدر على البقاء.»
– «وأعتقد أنك ذكرت أيضًا قدرة الأدب اليوناني على البقاء؛ فهو وإن يكن قائمًا على النظام الاجتماعي السائد في ذلك الحين، إلا أن ذلك النظام الاجتماعي قد تعرَّض للفحص والنقد المستمر من القرن السادس إلى القرن الرابع، كما أن بقاء هذا النظام كثيرًا ما تعرَّض للخطر، وقد تنوَّعت أشكاله وتطوَّرت بسرعة هائلة، حتى إن أكثر كبار الكُتاب من الإغريق قد سلَّموا — فيما يبدو لي — بأنه نظام ثابت دائم حتمًا. وبعض كبار الكُتاب منهم — كأفلاطون، وثيوسيديد، وأرستوفان — كانت لديهم في نهاية القرن الخامس تقريبًا فكرة واضحة جدًّا بأن نظامهم الاجتماعي مُهدَّد بالانحلال.»
وقال هوايتهد: «وإن أردت مثالًا آخر مما أسميته «الحِيَل» ذكرت لك معاملة الهيئة الصناعية الكبرى. لقد بدأنا باعتبارها «أشخاصًا»، وكانت هذه الفكرة تُؤدِّي خدمة طيبة لإنجلترا في القرن الثامن عشر في علاقاتها بالهند، وإن كنت لا أُقِر بأن الهنود قد رضوا عنها كما رضي عنها الإنجليز، ولما بلغنا نهاية القرن التاسع عشر أصبحت هذه الفكرة عتيقة لا يمكن الدفاع عنها؛ فقد تدخَّلت هذه الهيئات — إن خيرًا أو شرًّا — في كل أركان حياتنا، وأصبح الزعم بأن الهيئة «شخص» كلامًا لا معنى له؛ فللمرء مشاعر وعواطف ورغبات ومطامع، والهيئة وحدة مستقلة لا شخصية لها. ومن خطل الرأي أن نفترض أنها لن تخضع تدريجًا للرقابة العامة.»
وقد دقَّت الساعة العاشرة من زمن بعيد من ساعة البرج بالقاعة التذكارية، التي تُمكِن مُشاهَدتها من نوافذ مسكنهما، وكان المطر يتساقط.
وبناءً على اتفاق سابق سحبت مسز هوايتهد مقعدًا إلى جوار المكتب المصنوع من خشب الماهوجاني ذي الأدراج الستة الضخمة، وبدأت تبحث عن صورة ألفرد الفوتوغرافية التي وعدت بها، وتطوَّر هذا الجهد إلى عمل ضخم، وأُخرِجت الأدراج واحد بعد الآخر، وانقلبت محتوياتها رأسًا على عقب، أو سقطت على الأرض حزم ثقيلة من المخطوطات. وكانت طريقتها في البحث، واستغراقها فيه كلية، شائقة لافتة للنظر. وقد نسيت نفسها تمامًا، وأمسى موقفها يدعو إلى المتابعة في حد ذاته، وطرأت على ذهني فكرة طالما وردت على خاطري من قبل، وهي هذه: «إن هذا العمل يكون له أثره فوق المسرح، إنها تبحث عن شيء في المكتب، ومحتويات المكتب تُقلَب بصورة شائقة، وبعضها يسقط فوق الأرض، وهي تفحص بعضها الآخر في حجرها؛ إن هذه المرأة ربما قامت بدور المُمثِّلة خير قيام. وقد خطرت لي هذه الخواطر كوميض البرق.» وكانت أنيقة الملبس، وفي مطلع المساء حينما كنا نقلب شارة وسام الاستحقاق، وضعت الشارة على نسيج ردائها لتُبيِّن لنا تناسق الألوان، ولكنها لم تُعلِّق الشارة حول عنقها، ولم تكن هي المرأة التي تفعل ذلك!
قلت: «تخلَّي عن البحث، فهو عمل شاق جدًّا، وترقَّبي فرصة أخرى.»
قالت: «إن انتظرنا فلن نجدها.»
– «هذا حق. وقد انتظرت بالفعل تسع سنوات.»
وأخيرًا أخرجت ما كانت تبحث عنه؛ صورة فوتوغرافية لألفرد في مكتبه حينما كانا يقطنان في كانتون. وكان جالسًا في مقعده المُنجَّد بالجلد، ولوحة كتابته موضوعة على ذراعَي المقعد، ويداه معقودتان فوق كومة من المخطوطات، وخلفه صفوف من الكتب فوق الرفوف، وإلى جواره فوق نضد مُنخفِض قدح من تلك الأقداح المألوفة التي كثيرًا ما تناوَلنا فيها الشوكولاتة.»
قلت: «إنني أُفضِّل هذه الصورة على صورته في عيد هارفارد المئوي الثالث؛ لأنه في هذه الصورة يغض الطرف ولا يرى المرء عينَيه.»
قال: «دعني أُريكم أول صورة أُخِذت لي.» ثم توجَّه إلى حجرة أخرى وعاد بمجموعة من الصور القديمة، وتصفَّحها، ثم قال في نهاية الأمر: «إنني لا أستطيع أن أجدها.» ثم قال: «ولكن ها هو ذا ناظر شربورن حينما كنت بها طفلًا، وهو من أعظم من عرفت من نُظار المدارس، وهذا هو جدي.»
– «إنه يبدو مثالًا للرجل الإنجليزي في عهد فكتوريا. هل عاش حياته كلها في القرن التاسع عشر؟»
– «تقريبًا. وقد وُلِد في عام ١٧٩٤م، وعاش عيشة طيبة إلى ما بعد الثمانين من عمره، وقد أُخِذت له هذه الصورة وهو في نحو الثمانين من عمره.»
– «إذن كان هذا الوجه لا يدل على إنجلترا في القرن التاسع عشر!»
فقال حفيده في نغمة فكاهية استعاد بها الماضي: «كان يحكم المدينة، وكخطيب للجماهير لم يكن له مثيل.»
– «كم كان عدد سكان المدينة؟»
– «عشرين ألفًا.»
– «إننا نُسمِّي هذه مدينة كبيرة. أما أنا فقد نشأت في مدينة صغيرة، عدد سكانها ثلاثة آلاف.»
– «إننا نُسمِّي هذه قرية.»
وقالت مسز هوايتهد: «ها هي ذي.» وأخرجت بغتة من درج خفي بمكتبها صورة فوتوغرافية صغيرة في إطار بيضاوي من البرونز المُذهَّب محفوظ في قطعة من المُخمَل القرمزي بُهِت لونها ولكنها ما زالت داكنة، وكانت الصورة مُبطَّنة بالجلد المُقوِّي، ومعدة بحلقة من النحاس تُعلَّق منها فوق الحائط. وقد أطلعني عليها وقال: «هذه أول صورة لي.»
ورأيت في حجر مُربِّية باسمة طفلًا في سن الواحدة، وقد انحنت نحوه في عطف شديد، وكان الطفل في رداء من الشفوف «الموسلين» الأبيض، ملامحه غليظة، وشعره أشقر، لم يطل بعد لكي يُقَص، ورأسه قوي الاستدارة، ملامحه ثابتة، ونظرته حازمة. ولو طُلِب إليَّ أن أحدس لمن تكون الصورة لكان من اليسير عليَّ أن أتكهن بأنها صورة لطفل بريطاني.
ثم قالا إنهما سيذهبان إلى مين يوم الجمعة.
– «وما عنوانكما؟»
قالت مسز هوايتهد: «جزيرة باتلشب، بحيرة سيباجو الصغيرة، جراي الغربية. إن جزيرة تبلغ في مساحتها ربع الفدان تقريبًا ولها هذه الميزة الكبرى (وهنا ألقت نظرة جانبية إلى ألفرد) وهي أن المرء لا يستطيع فيها أن يقوم برحلات طويلة على قدمَيه.»