المحاورة الثانية والأربعون
١١ من سبتمبر ١٩٤٥م
وهكذا انتهت الحرب، ولكن الناس ما يزالون مذهولين، لا يستطيعون إدراك الموقف تمامًا. وكان الصيف يسير نحو أوائل الخريف في أيام متتالية تتألق بأشعة الشمس الذهبية وزرقة البحر. ومنذ أن توقَّفت مذبحة الحرب أمكن مرة أخرى أن يُحِس المرء أن الدنيا جميلة. ولا يكون الجو مُشرِقًا أبدًا على شواطئ خليج ناهانت مثل إشراقه في نهاية الصيف.
وفي غضون ذلك وصل سر رتشارد لفنجستون من إنجلترا بالطائرة (وهي أسبقية مُتقدِّمة جدًّا بالنسبة لرجل من المدنيين) وتوجَّه لقضاء يومَين في معهد الدراسات العليا في برنستن، وكان يقصد تورنتو لكي يُلقي أربع محاضرات في الجامعة، ثم جاء إلى سوامبسكت ليقضي يومَين آخرَين في راحة وهدوء. وركِبنا بعد ذلك ذات خميس في الصباح إلى كمبردج لتناوُل الغداء مع آل هوايتهد. ولما كان يتوقع أسبوعَين من عمل شاقٍّ في تورنتو قبل عودته إلى إنجلترا بالطائرة، فلم يرتبط بموعد آخر.
وقد قُتِل ابنه الأصغر كابتن روبرت لفنجستون في هذه الحرب الثانية، كما قُتِل ابن هوايتهد في الحرب الأولى؛ فكان هذا بينهما رباطًا بغير كلام.
وجلس أربعتنا في مكتب هوايتهد ذي الجدران المليئة بالكتب، وقد غمره فيض من ضوء الشمس الذهبي من خلال نافذة جنوبية فُتِحت على مصراعَيها لكي تستقبل الهواء الدافئ الساكن، وكانت طيور الزيزان تشدو في الخارج فوق الأشجار. رجل اسكتلندي وآخر إنجليزي، يتباينان في الشكل؛ هوايتهد بريطاني من كنت وأنجليا الشرقية مُتورِّد أشقر اللون؛ ولفنجستون، مديد القامة، نحيل الجسم، رملي الشعر، رملي البشرة، وإن كان في هذه اللحظة مُحمرَّها على غير عادته من أثر التعرض لضوء الشمس المُتوهِّج ولزرقة البحر الشديدة في إنجلترا الجديدة في شهر سبتمبر على الساحل الشمالي.
وسرعان ما انتهيا من تجديد التعارف بينهما. وتلت ذلك فترة قصيرة من السكون.
ثم سأل لفنجستون: «ماذا تظن كان أثر العلم على عالمنا؟»
– «ما رأيك أنت قبل أن أُجيب؟»
– «ألم يُلغِ العلم الرِّق؟»
– «لو قلت ذلك حوالَي عام ١٩٠٠م لكنت من الصادقين، ولكن سرعة التغير في الماضي — لمدة خمسين عامًا — قد غيَّرت الموقف كله. ولا أتحدث عن القنبلة الذرية في الوقت الحاضر؛ لأنها ليست إلا الحلقة الأخيرة في سلسلة، وأحدث من أن نزنها وزنها الصحيح على أية حال.»
وقال لفنجستون: «يبدو لي أن العلماء عند إعلان القنبلة الذرية كانوا يستخفون بها، ولكن الناس كانوا مُنزعِجين.»
ومضى هوايتهد يقول: «أقصد أن ظروف حياتنا قد تغيَّرت أساسًا في الخمسين سنة الأخيرة أشد مما تغيَّرت في الألفَي سنة السابقة، بل في الثلاثة الآلاف من الأعوام السابقة. وجوابي على سؤالك الأول هو أني أعتقد أنَّا في مُستهَل عصر من عصور التحرير، وحياة أفضل للجماهير، وتفجُّر جديد لطاقة مُتحرِّرة خلَّاقة، وشكل للمجتمع جديد؛ إما هذا وإما أن تُبيد البشرية نفسها ويُقفِر هذا الكوكب.»
وقال لفنجستون: «هب أن بعض عظماء اليونان قد عادوا ورأونا على ما نحن عليه الآن … أمثال ثيوسيديد وأفلاطون وبركليز وأرسطو؟»
– «إن أرسطو يُصعَق إلى درجة لا يمكن التعبير عنها من الطريقة التي نُبِذت بها أحكامه العامة، ولا أقصد أن أفكاره — الأنواع والأجناس وما إلى ذلك — لم يثبت نفعها على نطاق واسع، فإن أرسطو قد استكشف كل أنصاف الحقائق التي كانت ضرورية لابتداع العلوم.»
وعاد لفنجستون إلى الحديث فقال: «يبدو لي من ناحية أخرى أن كتاب «الأخلاق» لأرسطو له فضل أكبر.»
وبدت على هوايتهد المخالفة وقال: «أُسلِّم لك بأن آراءه هنا مُحدَّدة إلى درجة تدعو إلى الإعجاب، وأن أفكار أفلاطون في هذا الموضوع تميل نسبيًّا إلى الغموض، ولكني أُوثِر الغموض.»
وعلَّق على ذلك لفنجستون بقوله: «إن الإغريق لم يميلوا إلى الغموض، ويمكن بهذا المعنى أن يُقال عن أفلاطون إنه لا يكاد يُمثِّل اليونان. إنهم كانوا يُحِبون تمييز الخطوط ويُحِبون تنظيم مادة الموضوع تنظيمًا واضحًا داخل صورة مُحدَّدة.»
ومضى هوايتهد يقول: «إنني أُفضِّل أفلاطون، ويبدو لي أنه الرجل الوحيد في العالم القديم الذي لا يُدهَش لما حدث لو رآه؛ لأنه كان حين يُفكِّر يأخذ في اعتباره دائمًا كل ما لا يمكن التنبؤ به، وما تتضمنه الأشياء من إمكانيات لا حصر لها. إنك حينما لا تكون على ثقة تامة مما تُصيب من هدف تُوسِّع لنفسك دائمًا مجال الفرصة لكي تبلغ هدفًا له قيمته.»
والتفت ثانية إلى لفنجستون وواصل حديثه قائلًا: «أريد أن أُوجِّه إليك سؤالًا. هل أنا على حق حينما أعتقد أن البحث الألماني يُخطئ جِد الخطأ عندما يُحاوِل أن ينسب إلى أفلاطون بعض النتائج الصريحة في محاوراته، وعندما ينسب إليه حديثَ مُتكلِّم واحد ورأيًا نهائيًّا؟ يبدو لي أن ذلك بعينه هو ما كان يُحاوِل تحاشيه. خُذ خطاباته مثالًا؛ لو فرضنا أنه كتبها — وحتى إن كان لم يكتبها — فإنها تنمُّ عن صورة ذهنية سادت في العصور القديمة عن مؤلفاته؛ وأقصد أنه لم يكن هناك نظام أفلاطوني فلسفي. إن ما فعل كان الكشف عن أوجه مُتعدِّدة للمشكلة ثم يتركنا وإياها … يبدو لي أنه كان لديه — أكثر من أي فرد آخر — إحساس رفيع بإمكانيات الكون التي لا حد لها.»
وأجابه لفنجستون بقوله: «لست الآن على استعداد لأن أُقرِّر شيئًا بشأن البحث الألماني، ولكن في كل ما يقرأ المرء لأرسطو يلمس مُقاوَمته لتأثير أفلاطون، وفي كل ما كتب أرسطو لا يستطيع المرء الفرار من تأثير تفكير أفلاطون.»
قال هوايتهد: «دعني أتحدث عن نفسي لحظة؛ لقد تلقيت تعليمًا كلاسيكيًّا جيدًا، وحينما التحقت بكمبردج في السنوات الأولى بعد عام ١٨٨٠م واصلت تدريبي الرياضي على أيدي مُعلِّمين ممتازين، وكان المفروض آنئذٍ أن كل شيء تقريبًا مما يمكن معرفته عن الطبيعة كان معروفًا، اللهم إلا موضوعات قليلة، مثل ظاهرة المغناطيس الإلكتروني، التي بقي علينا أن نصِلها بمبادئ نيوتن (أو هكذا كان يُظَن). أما فيما عدا ذلك فكان المفروض أن الطبيعة موضوع قد انتهى البحث فيه تقريبًا. واستمر البحث خلال الاثنتَي عشرة سنة التالية لإيجاد هذه الصلة. وقبل أن يتصرم القرن التاسع عشر بسنوات قلائل بدرت شكوك خفيفة ومَخاوف يسيرة من أن كل شيء لم يعد يدعو إلى الاطمئنان، ولكن أحدًا لم يُحِس ما هو آتٍ. ولما حل عام ١٩٠٠م انهارت طبيعيات نيوتن، وانتهى أمرها! وما زِلت أتحدث عن شخصي حينما أقول إن ذلك كان له أثر عميق في نفسي؛ لقد خُدِعت مرة، ولعنة الله عليَّ لو خُدِعت مرة أخرى! المفروض أن أينشتين قد كشف كشفًا عالميًّا، ولكن ليس هناك ما يدعو إلى الظن بأن نسبية أينشتين أكثر نهائية من «مبادئ» نيوتن، والخطر في الفكر اليقيني؛ إنه يُسيء إلى الدين، وليس العلم معصومًا منه. وأنا — كما ترى — تطوريٌّ إلى أبعد الحدود؛ لقد بدأت أرضنا منذ ملايين السنين تأخذ في البرودة، وبدأت أشكال الحياة في أبسط صورها. (من أين جاءت هذه الأشكال؟) لا بد أنها كانت كامنة في مجموع النظام العام، لا بد أنها كانت موجودة بالقوة في أدق الجزئيات؛ أولًا في هذا الكوكب الناري، ثم في هذا الكوكب المائي والأرضي. ألم تفكر مرة في أنه من السخف أن نبدأ في تقدير المقاييس الطبيعية بأجسامنا التي تبلغ في طولها خمس أقدام ونصف القدم أو ست أقدام؟»
قال لفنجستون: «إذا بالَغنا في الفكرة قلنا إن «الإنسان هو قياس كل شيء».» وروى هذه العبارة باليونانية.
ووافقه على ذلك هوايتهد، وقال: «إن أفكارنا عن الأبعاد الطبيعية تحكمية إلى درجة السخف. إنني لا أعتقد أنه من المستحيل أن أدق حصاة قد تحتوي في داخلها على عالم يبلغ من التعقيد هذا العالم الذي نعرفه، وأن العالم أو العوالم التي بدأنا نفهمها منذ وقت قريب قد تبلغ بالقياس إلى ما لم نكشف بعدُ من الصغر مبلغ ما في الحصاة من عالم بالنسبة إلى العالم الذي نعرفه، أو أن الاتساع قد يكون أفسح في الاتجاه الآخر؛ أقصد اتجاه ما نعدُّه صغيرًا صغرًا مُتناهيًا … إن التطوُّر يثِب وثبًا فيما أحسب. منذ خمسين ألف عام تقريبًا كانت هناك وثبة سعيدة، تجسَّدت في رجل واحد، أو في أسرة واحدة، أو في قليل من الأسرات، وبعد فترة حدث تقدُّم عظيم آخر ترتَّب على ذلك.»
وقيل إننا ربما كنا نعيش في غضون «وثبة» من هذه الوثبات، اللهم إلا إذا قضت علينا.
وفكَّر في ذلك هوايتهد ثم قال: «لماذا نتحدث عن «قوانين الطبيعة» في حين أن ما نقصد هو السلوك المُميَّز للظواهر في حدود مُعيَّنة في مرحلة مُعيَّنة من مراحل التطور في فترة مُعيَّنة، بمقدار ما يمكن أن نتحقق من كل هذا؟»
ولما فتر الضحك، وجَّه حديثه إلى لفنجستون قائلًا: «ولكن دعنا نتخلَّ عن كل ذلك. إنني أريد أن أتحدث عن كتبك في التربية التي تدعو إلى الإعجاب، وبخاصة تربية الراشدين. ما أسخفَ أن نُعفي الأطفال من المدرسة في سن السادسة عشرة، أو حتى الثامنة عشرة، ونعدَّهم قادرين على مُجابَهة أمور الحياة المُعقَّدة …»
قال لفنجستون: «من رأيي كما تعلم أن التربية لا بد أن تستمر طوال الحياة كلها لكل إنسان، على مستويات القدرة والاستعداد المختلفة، وإن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تجعل الديمقراطية الحديثة فعالة، أو التي تُمكِّنها من استمرار البقاء.»
قال هوايتهد: «إن ما نريد هو أن نستخرج بقدر ما نستطيع كل القدرات الكامنة في الموهبة البشرية، ولكنا لم نعرف حتى الآن طريقة للقيام بذلك على الوجه الأكمل؛ قد نستخرج طائفة مُعيَّنة من المواهب في ظل أشكال مُعيَّنة من التنظيم الاجتماعي الذي يُلائم تطوُّرها، ولكن ذلك لا يحدث إلا في نطاق محدود جدًّا وفي ظروف مكانية وزمانية غاية في الضيق؛ لا يبدو قط أننا وجدنا وسيلة نستخرج بها الانتشار الكامل لقدرات الإنسان الكامنة.»
وعادت مسز هوايتهد إلى حجرة الدرس، ولم يكن الغداء قد أُعِد تمامًا، فجلست على مَوطئ قدمَي كرسي زوجها ذي الحشية الوثيرة، وواجهت الرجلَين الإنجليزيَّين، وانطلقت في جدل عن بلدَينا.
ووجَّهت الحديث إلى لفنجستون قائلةً: «الأمر الذي لا ينبغي للمرء أن يفعله — وهو هيِّن إلى أقصى الحدود — هو أن يقوم بالمقارنة. إن البلدَين لا يُقارَن أحدهما بالآخر؛ كل منهما فريد في نوعه. لقد عشنا هنا واحدًا وعشرين عامًا، وكل يوم نلمس فرقًا جديدًا، وحينما جئنا إلى هنا أول الأمر بعد الحرب الأولى، كان الأمل الذي رأيته مُرتسِمًا على الوجوه يُذهِلني. كل هؤلاء الصغار كانوا يتطلعون إلى الحياة في شغف وحماسة …»
وقال لفنجستون باسمًا: «لقد وصلت لتوِّي بالطائرة إلى بلتيمور يوم الأحد الماضي بعد الظهر، فأنا إذن في موقف صحيح يمكنني من تأليف كتاب عن أمريكا.»
قلت: «كلما طالت إقامة المرء هنا أحس بالعجز عن تأليف مثل هذا الكتاب، ولكن لا تخدعك الظواهر، إن كثيرًا منها يُضلِّلنا …»
قال هوايتهد: «هل أُحدِّثكم عن إحدى هذه الظواهر — لو سمح لي لوشيان — الصحف.»
– «إني أستطيع أن أُوجِّه إليها لومي بطريقة أكثر منك تحديدًا، ولكن هلمَّ.»
ومضى يقول: «إذا نظرت إلى صفحاتها الأولى قد تظن أن هناك قضية أساسية تتقاتل هذه الصحف بشأنها.»
وحذَّرته قائلةً: «تذكَّر يا أولتي أننا لما كنا نُغادِر إنجلترا إلى القارة الأوروبية كنا نجد الجريمة في القارة هائلة، وقد كانت كذلك فعلًا.»
– «أذكر ذلك جيدًا. إن الانطباع الذي تتركه الصفحات الأولى في الصحف خادع تمامًا. ليس من أنباء الصحف أنك لو سألت غريبًا — أي فرد في مجال الحياة الأمريكية كلها — عن اتجاه مكان مُعيَّن، يحيد عن طريقه شارعَين لكي يدلَّك على الطريق الصحيح، ومع ذلك فهذا هو ما يُمثِّل تمامًا أفراد هذا الشعب، الذين يظهر لي أن لديهم شفقة طبيعية أكثر من أي شعب عاش على وجه هذه الأرض.»
وسألتْ لفنجستون: «هل طُلِب إليك أن تُوقِّع في أوراق للدخول في هذه البلاد؟»
– «لا أذكر شيئًا غير عادي أو مُزعِجًا.»
– «ولكن هذا هو الواقع وإن كنت لا تذكر. حينما جئنا للإقامة هنا — وهذا هو ما أعني بألا تخدعك الظواهر — طُلِب إليَّ وإلى ألفرد أن نُوقِّع على إقرارات بالقسم بأننا لم نقضِ في السجن أكثر من عشرة أشهر!»
قال لفنجستون: «كلا. لا أذكر أنني وقَّعت على شيء من هذا.»
وتطوَّعت بالتصحيح فقلت: «ولكن جلبرت مري يذكر ذلك. حينما جاء إلى هذا البلد في عام ١٩٢٦م، لكي يُلقي مثلك سلسلة من المحاضرات فحسب، قال إن الأجانب لا بد أن يُوقِّعوا على ورقة مُجيبين فيها عن هذَين السؤالَين: هل أنت فوضوي؟ وهل أنت مُتعدِّد الزوجات؟»
قالت مسز هوايتهد: «يا إلهي!»
وبعدما استردَّت رباطة جأشها استطرت قائلةً: «بعدما جئنا للإقامة هنا اعتدنا أن نستقبل الطلاب ليلة كل أسبوع، لمدة تسع سنوات، وكان عدد الفتيان والفتيات الذين يجوسون خلال حجراتنا يبلغ المئات، أولًا وآخرًا، وكانوا يفدون من مختلف البيوت، بما فيها المَزارع، وما يقرب أن يكون أحياءً شعبية، ولكني أقول لك إن رقة طباعهم، وحسن ذوقهم، وتربيتهم الطيبة فعلًا، كانت ملموسة حقًّا في كل حالة من الحالات، وكان ذلك في تلك الأيام الباسلة، أيام قانون فولستد، حينما كان الناس — والمُسِنون منهم خاصة — يمتلئون بالشراب قبل أن يبدءوا في تناول العشاء. وبالرغم من هذا ففي خلال هذه الفترة كلها لم يأتِ إلينا ثملًا سوى فرد واحد، وهو — إن شئت الحق — من أبناء أرستقراط بوسطن! وعلى نقيض ذلك تمامًا فتًى جاء من نيويورك، من الجانب الشرقي، وفي منتصف السهرة تقريبًا تمطَّى وتنهَّد وقال: «أليست هذه الدنيا عجيبة؟» فسألته: «وماذا تعني؟» فأجاب: «منذ أسابيع قليلة، كنت أُدحرِج البراميل في شوارع نيويورك، وها أنا ذا الآن وسط التَّرف وكل هذه الكتب.» (ومسكننا الكائن على ضفة النهر لم يكن بطبيعة الحال مما يُبهِر.) إن ما يعني هو أن هذه هي المرة الأولى بالنسبة إليه في مثل هذا الوسط، ولكنها لم تكن المرة الأخيرة! فقد صار واحدًا من تلاميذ ألفرد اللامعين، وأجاد إجادة ملحوظة.»
وعلَّق على ذلك لفنجستون بقوله: «إن الوسط الاجتماعي للجامعات الإنجليزية قد تغيَّر تغيُّرًا كبيرًا.» وذكر لذلك أمثلة فقال: «إن الإيراد الصافي لآباء الدارسين عندنا في العام الماضي في الجامعة كان ٤٠٠ جنيه، ٦٨٨ جنيهًا، ٣٦١ جنيهًا، ٣١٨ جنيهًا، ١٠٦٥ جنيهًا (وقد تحدَّدت هذه الأرقام بطبيعة الحال منذ ذلك الحديث)، واثنان منهما لم يطلبا الراتب الإضافي؛ ولذلك فقد كانا على يسار، ولكن كان هناك اثنان ممن يكسبون الأجور أسبوعيًّا، بمعدل ثلاثة جنيهات وعشرة شلنات في الأسبوع، وثمانية جنيهات في الأسبوع.»
فقال هوايتهد: «يبدو لي أن الجامعات الإنجليزية، وربما بالأخص منها أكسفورد وكمبردج، قد أخذت تعود إلى مثل وظيفتها في العصور الوسطى، وهي تعليم الفتيان الموهوبين من الطبقات الفقيرة. كانت جامعاتنا في القرن الثامن عشر تُعلِّم في الأغلب الشبان الأرستقراط، أو على الأقل أبناء عُمَد الأرياف، مع قلة من الدارسين من الطبقات الفقيرة، واستمدت طلابها في القرن التاسع عشر من القطاعات المُنتعِشة في الطبقة الوسطى وطبقة أصحاب المهن الرفيعة — من أمثالنا مثلًا — ممن يبدو أن الدنيا لهم آمنة مُمتِّعة، ولكن الجامعات الآن قد بدأت تقبل الأطفال من الطبقة العاملة.»
قال لفنجستون: «مما قلت لي ومما لاحظت هنا في زياراتي السابقة، وقليلًا في هذه الزيارة أيضًا، يبدو لي أن الديمقراطية في إنجلترا رأسية؛ أقصد إحساسًا بالمساواة يسري من أعلى المجتمع إلى أسفله، يخترق الطبقات. أما في أمريكا، حيث تكون الطبقات أقل تحديدًا، فالديمقراطية أشد أفقية.» ومثَّل البُعدَين بإشارات من يدَيه.
وقال هوايتهد: «سأُعطيك مثالًا عن مدى أفقية الديمقراطية هنا؛ إن سائقي عربات الأجرة هنا في كمبردج وبوسطن ممن يُجيدون الحديث، ولديهم فعلًا حديث شائق يُوجِّهونه إليك، ومنذ عهد قريب التقينا بأحدهم ليسوقنا من بوسطن إلى بيتنا، وقد أبطأ المسير، وتخلَّل الطرقات الجانبية [وشرح لنا كيف أنه لا يُطيل المسافة، وإنما يُطيل الوقت] وبادَلنا الحديث الحي، يُكلِّمنا ونُكلِّمه. ولما أنزلنا عند بابنا قال: «هذا أمتع حديث تبادلته منذ أمد طويل.»»
وأُعلِن ميعاد الغداء، وتوجَّهنا إلى المائدة، واتجه الحديث نحو الروائيين الإنجليز.
وقال هوايتهد: «يبدو لي أن النساء يكتبن روايات أفضل مما يكتب الرجال؛ فالرجال أميل إلى الانحراف نحو البحث عن الأفكار المجردة، مُحاوِلين أن يضعوا الحياة في إطارها. أما النساء فأميل إلى أن يُقدِّموا لنا العلاقات الخاصة التي تجعل الحياة والأشخاص أشد حيوية في أعيننا.» ثم وجَّه إلى لفنجستون السؤال قائلًا: «وما رأيك في هذا؟»
– «كنت أفكر في مسز جاسكل وأنت تتكلم، وأنا أُوافِقك على ما تقول.»
واستطرد هوايتهد يقول: «وأرى استثناءً واحدًا لذلك، وهو ليس نابغًا من الطراز الأول، ولكنه صاحب موهبة تدعو إلى الإعجاب تمثَّلت تمامًا فيما فعل؛ فقد صوَّر لنا الحياة والفكر الشائع في عهده من خلال طبقة تُمثِّل ذلك العهد إلى حد كبير، وهي طبقة القسس؛ وأقصد أنتوني ترولوب.»
وصاحت زوجته قائلةً: «حُق لك أن تعرف. ألم تغرق فيها إلى الأذقان، كما غرقت منذ سنواتي الأولى بعد العشرين؟ … ولا تنسَ أنها أفسدت كل فرد من أفراد أسرتك في جيلك، ما عداك. وأنا أُسلِّم لك بأن ترولوب قد أحسن التصوير ولكنه بالغ قليلًا.»
وقال هوايتهد: «إنه على الأقل كان صادقًا يا عزيزتي.» وأبرق بعينَيه نحوها عبر المائدة، ثم قال: «إننا على اتفاق في ذلك. إنني حين أقرؤه أستطيع أن أستمع إلى أبي وأصدقائه من القساوسة وهم يتحدثون، بل إن النكات نفسها تبدو طبيعية جدًّا. وقد كنا نقطن بالقرب من كانتربري، ورأينا الكثير من قساوسة الكاتدرائية.»
وأذعنت لذلك مسز هوايتهد، وقالت: «بيدَ أن النساء الروائيات لا يُحسنَّ تصوير الرجال، ويقعن عادةً في الخطأ حينما يُحاوِلن تصوير من يُؤثِرن من أشخاص الرجال.»
ثم ثار الجدل فيما إذا كان الروائيون الرجال أفضل منهن في تصوير النساء، مع إجراء المقارنة بين جورج مرديث وجورج إليوت.
فقال هوايتهد: «إن لثاكري فنًّا عظيمًا، ولكنه يحصر نفسه في طبقة واحدة حصرًا شديدًا. إنه يطوف بك خلال إنجلترا والقارة الأوروبية كلها، ولكن أشخاصه في نهاية الأمر نوع واحد من البشر تقريبًا.»
وأضافت إلى ذلك قولها: «ثم إنه كان يكتب عن طبقة لا ينتمي إليها، ويُلاحَظ من الخارج مأخوذًا من ناحية ومُستاءً من ناحية أخرى، ولم يستطع قط أن يُقِر لنفسه أمرًا.»
وقال لفنجستون: «إن من الروايات الإنجليزية في القرن التاسع عشر التي أعتقد أنها سوف تدوم «بكويك» (فهو بعبقريته الإغريقية يُوازِن بين بهجة عيد الميلاد في دنجلي دل وصورة الحياة الريفية في أنكا في قصة «السلم» لأرستوفان كما وردت في الأبيات الشعرية من ١١٢٧ إلى ١١٧١).» ثم استطرد يقول: «ليست قصة «بكويك» أدبًا فحسب، إنها تاريخ أيضًا، وهي تُصوِّر الإنجليز على حقيقتهم فعلًا.»
ثم قال هوايتهد: «كنت منذ لحظة أقول إني أعتقد أن النساء قد كتبن أحسن الروايات.»
وسكت قليلًا، ورمقنا بنظرة خبيثة، ثم قال: «ويجدر بي أن أقول إن دكنز كان من بين أفضل النساء الروائيات!»
– «وما رأيك في جولزورذي؟»
وكان من رأي لفنجستون أن أشخاصه لم يُطابِقوا الواقع تمام المطابقة.
وقالت مسز هوايتهد: «كان جولزورذي — مثل ثاكري — خارجًا عن الأشخاص الذين يكتب عنهم.»
ودفع هوايتهد الموضوع دفعة جديدة فقال: «الأمر في الرسائل كما هو في الروايات؛ فالنساء يكتبن رسائل أفضل مما يكتب الرجال، إنهن يُدوِّنَّ ما نريد أن نعرف، وكيف يشعر الناس إزاء الأشياء، وكيف يعيشون، ماذا يأكلون ويلبسون، وما يُزعِج خواطرهم، يكتبن عن كل تلك الأمور المباشرة التي تجعل حياة عصر من العصور تعيش مرة أخرى. إن التاريخ ينبغي أن يستند إلى الرسائل أكثر مما يفعل. من ذا الذي تهمه معركة كريسي، والتواريخ، والأماكن، وكل ما نحشو به أذهاننا باسم التاريخ؟ وما شأننا بها؟ إنما التاريخ هو الحياة اليومية المتتالية. إنه ليس ما يقع من حوادث، إنما هو الاجتماع. إنه تقدُّم الفكر.»
وقال لفنجستون: «إن عيب التاريخ الرسمي أنه يُعطينا النتائج، وخواتيم الأمور، دون أن يُرينا كيف بلغ الإنسان هذه النتائج.»
ووافقه على ذلك قائلًا: «هذا جِد صحيح. وليس التصادم إلا الخطوة الأخيرة في أية عملية من العمليات. إن ما نريد أن نعرفه هو تقدُّم الآراء، والتخمُّر الذي أدَّى إلى الصدام.»
وقالت مسز هوايتهد: «والمذكرات مصدر تاريخي آخر ينبغي أن نزيد من استخدامه، وإن كان الفرنسيون قد استغلوها أكثر مما فعل الإنجليز، واستغلوها استغلالًا مُثمِرًا. إن الأدب الإنجليزي ليس غنيًّا جدًّا في المذكرات، وما لدينا منها يميل إلى الوحشة والكآبة. أما المذكرات الفرنسية فهي على نقيض ذلك حية ومليئة بالحقائق. ومن الحق أنها كثيرًا ما تُسجِّل ألوانًا من الهروب الشائن، ولكنها تُسجِّلها بروح إن كانت لا تدعو إلى التسامح فإنها لا تبعث على الضيق. أما ما شابهها من المذكرات الإنجليزية فيدعو إلى النفور، وأشخاصها غير مُحبَّبين.»
ثم بدءوا يتحدثون عن أولئك الذين يمكن أن يُقال عنهم إنهم أجادوا كتابة التاريخ في القرن التاسع عشر في إنجلترا.
فقالت مسز هوايتهد: «ليس منهم ماكولي بأسلوبه المُتكلِّف … وعباراته الفصيحة الموسيقية كأنه خطاب في مجلس العموم مما كان له أثره في ذلك العهد، وكل سطحي إلى أبعد غاية.»
وقال لفنجستون: «لا تنسَ أن ماكولي قد استطاع أن يجعل قراءة التاريخ شائعة، وهو عمل ليس باليسير.»
قالت: «وكذلك فعل ستراتشي، غير أن ذلك لم يجعل ما كتبه من التاريخ الجيد.»
وقال لفنجستون: «إنني لا أحب ما كتب أكثر مما تُحِبين، ولكنها كثيرًا ما تكون كتابة جيدة.»
– «أُسلِّم لك بهذا. وكثيرًا ما يكون قوله طريفًا جدًّا، بيدَ أنه لا يبلغ هذه الدرجة من الطرافة على لسان غيره.»
ونهضنا وقُدِّمت لنا القهوة في حجرة الجلوس، وآخذ آل هوايتهد ولفنجستون وهم يُمثِّلون كمبردج وأكسفورد يُجرون مباراة بين جامعتَيهما، مُوازِنَين بين أطوارهما الغريبة، وأوجه التناقض بينهما، ومزاياهما وعيوبهما.
قالت مسز هوايتهد: «لقد وصلت إلى هناك في عام العرائس الثلاثين، وأُؤكِّد لك أنه لم يكن مكانًا سهلًا للعرائس.»
ووضَّح ذلك هوايتهد بقوله: «حدث تغيُّر في لوائح الجامعة قبل ذلك بوقت وجيز، فسُمِح للرؤساء بالزواج، وكان لا بد قبل ذلك للواحد منهم لكي يتزوج أن يستأذن الكنيسة، ولما كان أكثرهم لا يعتقد في الطقوس التي كان عليه أن يُؤدِّيها، فقد كانوا يتحايلون على إرضاء ضمائرهم بكل أنواع التفسيرات التعسفية لتلك الآراء الدينية التي لم تعد — في ظني — بالخير على كنيسة الجامعة، وكانت النتيجة — كما تقول أفلن — أن ثلاثين أو أربعين عروسًا وصلت إلى كمبردج دفعة واحدة، وبعضهن مثلها صغيرات جدًّا، وبعضهن لم يكن البتة صغيرات.»
قالت مسز هوايتهد: «ولكني تعلَّمت بسرعة. ولما كنت قد وُلِدت ونشأت في فرنسا، فقد قرأت بالفرنسية كثيرًا، ولكن انتقالي إلى إنجلترا لم يُمكِّني من قراءة ما ينتظر أن يقرأه المرء بالإنجليزية. وقد جلس إلى جواري أحد الرؤساء في حفل عشاء وشرع يسألني عما قرأت بالإنجليزية، ولم أحسن الإجابة بطبيعة الحال، فقال: «أرى أنك لم تقرئي شيئًا.» وكفَّ عن الاهتمام بي بقية المساء … واستمر على ذلك لا يهتم بأمري لبضع سنوات. كلا، لم يكن هذا المكان سهلًا للعرائس.»
وأضاف إلى ذلك هوايتهد قوله: «ولم يكن سهلًا كذلك دائمًا للعرسان.» ثم سألها: «ألا تذكرين آل فرل وجيم ستيفن؟»
واختنقت فجأة من شدة الضحك.
وحذَّرته قائلةً: «ولكن لا بد أن تشرح لسر رتشارد أن ذلك كان قبل أن يغيب ستيفن عن صوابه.»
واستطرد هوايتهد قائلًا: «كان في زيارتنا بكمبردج حينما كنا نسكن إلى جوار آل فرل. كانت حديقتانا مُتلاصِقتَين.»
وذكرت مسز هوايتهد: «أنه لم يفصلنا سوى جدار سمكه طوبة واحدة.»
– «وكان فرل يتكلم بصوت مرتفع ذي صرير [وأخذ يٌقلِّده] وكان جيم ستيفن مُقلِّدًا مُضحِكًا، فبدأ يُقلِّد فرل في منظر خيالي تصوَّره فيه وهو يطلب يد زوجته. وصُعِقت أفلن المسكينة وأشارت إليه بحركات عصبية لكي يكف عن التقليد، وقالت هامسة: «إنهما يستطيعان الاستماع، فبيننا وبينهما جدار رقيق.»
وقال ستيفن: «وهل في ذلك خطر؟ إنه يُصلِح الأمر بينهما.»»
وفي معرض المقارنة بين الجامعتَين تساءل لفنجستون إن كان هناك مجال للاختيار في قسوة الإنسان على الإنسان.
فقال هوايتهد: «إن ما كان لدينا من مدنية في كمبردج إنما جاءنا من الخارج. أما في أكسفورد فأنتم تُمدِّنون شعبكم داخل الجامعة.»
وأقر لفنجستون ﺑ «أن أكسفورد أرقى من الوجهة الاجتماعية. أما في كمبردج فأنتم تُدرِّبون الرياضيين والعلماء.»
وقال هوايتهد: «إنما أنقذني من هذا وسار بي نحو المدنية عاملان؛ أحدهما «الرسل»، وهو نادٍ ثقافي من اثنَي عشر عضوًا من الطلاب.»
وسأله لفنجستون: «وما هو العامل الثاني؟»
– «خروجي من كمبردج وانغماسي في جامعة لندن خمسة عشر عامًا.»
وسأل لفنجستون في نغمة رقيقة مازحة: «وماذا تظن أن ذلك قد فعل بك؟»
– «زج بي بين مختلف الناس، وأضِف إلى ذلك خبرتي في مجلس الجامعة.»
وعلَّق على ذلك لفنجستون بقوله: «إن الميل الاجتماعي في أكسفورد إنما يُعزى عادةً إلى «العظماء» القدامى. وأقول العظماء القدامى؛ لأن أولئك الذين يدرسون العظماء المُحدَثين ويُتقِنون دراستهم يُقِرون بأنهم أضعف أثرًا وأضعف نفوذًا.»
وسأله هوايتهد: «وما هو — فيما تتصور — أثر العظماء القدامى في الإنسان؟»
وصاحت مسز هوايتهد قائلةً: «مسكين نيومان، ذلك المخلوق الحساس، الأعزل، رقيق المشاعر! ومن ذا الذي يلومه؟»
قال هوايتهد: «لقد قابلته مرة.»
وسأله لفنجستون: «لكي تتحدث معه؟»
– «نعم.»
– «وهل تذكر ما قال؟»
وبدت أمارات التفكير لحظة على هوايتهد، ثم صاح فجأة قائلًا: «كان ذلك من زمان بعيد جدًّا. عندي سؤال أريد أن أوجهه إلى قسيس من الجزويت.»
واقترحت مسز هوايتهد وهي تنهض من مكانها «أن يُوجِّه السؤال من مكتبه». وتأجَّل الحديث لوقتٍ ما.
وحفَّزه لفنجستون على الكلام حينما عُدنا إلى المكتب. قال: «كان لديك سؤال تريد أن تُوجِّهه إلى قسيس من الجزويت.»
– «أجل، هو هذا: «هل في السماء ضحك؟» إن انعدام الفكاهة في الإنجيل أمر يدعو إلى العجَب.»
وأجاب لفنجستون قائلًا: «لقد حاوَلت أن أُعيد قراءة العهد القديم منذ برهة. إن كثيرًا مما به رائع من جميع الوجوه، غير أن أجزاءً منه … هل تذكر هذه العبارة لأوسكار وايلد: «حينما أذكر كل ما جلبه لي هذا الكتاب من أضرار، يتملكني اليأس — مع هذا — من أن أكتب شيئًا يُقاس إليه.»»
وسأل هوايتهد: «ألم تكن عند اليهود روح فكاهية؟»
– «حينما يكون الأمر جديًّا للغاية، ألا نفقد شيئًا منه إذا ضحكنا منه؟ ألا يُقلِّل الضحك من قيمته؟»
وقال هوايتهد: «لننظر في الفنون. هل فيها فكاهة؟»
وكان من رأي لفنجستون أنه من العسير أن تلمس فكاهة في أعظم الفنون، كالتصوير الديني في إيطاليا لعهد النهضة. وقال: «إني أشك في أن الفكاهة تسير مع أعظم الفنون والأفكار.»
قلت: «إن في كوميديات أرستوفان ضحكًا كثيرًا، وفي كتبه فن ودين معًا.»
وقال لفنجستون: «هذا صحيح، ولكني أعتقد دائمًا أن أرستوفان أحسن ما يكون في الأجزاء التي يمزح فيها.»
– «والموضوع الأساسي الذي أختلف معك فيه هو أن الضحك صفة مقدسة، وأن انعدام الضحك في الديانات العبرية أمر خطير بالنسبة إلينا نحن الأجناس الأوروبية الشمالية؛ لأن الضحك يلعب دورًا كبيرًا في حياتنا، ونحن مُرغَمون على أن نلتمس الضحك خارج ديانتنا كلية تقريبًا.»
وسأل لفنجستون: «وكيف يمكن أن نلتمس الضحك داخل الدين؟»
– «لقد حدث ذلك. هناك كلية للفنون الحرة في إنجلترا الجديدة يجدر بي ألا أُسمِّيها؛ لأن الأمور كانت تسير فيها سيرًا سيئًا منذ عام ١٩٢٠م حتى عام ١٩٤٠م.»
وقال هوايتهد: «لقد أصبت القول في هذا. ولقد دُعيت لإلقاء محاضرات هناك في عام ١٩٣٠م، ولمست ذلك بنفسي.» ودُهِشت لما ذكر.
وقلت: «إذن فأنت تنفذ إلى الضمائر؛ لأنَّا نعني كلية واحدة. كان الطلبة خارجين على النظام، وكان يطلب إليهم حضور الصلاة في الكنيسة أيام الأحد؛ فإذا ما وجدوا الواعظ الزائر على غير هواهم (وكثيرًا ما كان كذلك) سعلوا له لكي ينزل من المنصة، ولا يمكن صدهم عما يفعلون بأية وسيلة من الوسائل؛ ولكن كان هناك واعظ واحد يتردد كثيرًا، ويستمعون إليه في سرور بالغ، وكان رجلًا ذكيًّا، جادًّا جدًّا في مَراميه الخلقية، وكان كذلك ذا روح فكاهية مرحة، وفيما بين عبارة جدية وأخرى كان يستطيع أن يُثير في الطلبة الضحك الشديد؛ كانوا يعبدونه … أما عن الضحك في الديانة الإغريقية، فلا ينبغي لنا أن نقف عند أرستوفان، إنه يرجع إلى عهد هومر، والجزء الأول من الإلياذة ينتهي بالآلهة وهي تضحك فوق الأولمب.»
واستأنف هوايتهد حديثه قائلًا: «كان للعبريين رأي خلقي شديد الصرامة، وإن يكن في حدود ضيقة جدًّا، وذلك في «جمال القداسة»، ولا يلحق بهم أحد في هذا، غير أن الحدود غاية في الضيق.»
(وخرجنا بعد فترة من الزمن بأمثلة متنوعة من الكتاب المقدس مما يمكن — لو وسَّعنا حدود التعريف — أن نُفسِّره بأنه من باب الفكاهة. من تلك الأمثلة إليا وهو يُعيِّر أنبياء البعل بعجز آلهتهم، وقد أمر بذبحهم على أيدي مُريديهم السابقين (سفر الملوك الأول، إصحاح ١٨، آية ٤٠). ومثال آخر النبي يوشع وهو يدعو دبتَين لتفترسا اثنين وأربعين طفلًا عيَّروه بقراع رأسه (سفر الملوك الثاني، إصحاح ٢، آية ٢٤). ومثال ثالث هامان الذي صُلِب على خشبة ارتفاعها خمسون ذراعًا كان قد أعدَّها لقتل مردخاي (أستير، إصحاح ٧، آية ١٠). ومثال رابع حادث القديس بولس مع صائغي هياكل الفضة في أفسيس، وهو سخرية من الطراز الأوَّل (أعمال الرسل، إصحاح ١٩، آية ٢٤). ولكن يجب أن نُقِر أن هذه الأمثلة جميعًا لا تبلع من الفكاهة ما يجعل المُستمِعين يغرقون في الضحك في أجنحة الكنيسة.)
وقال لفنجستون إجابة عن هذه الملاحظة الأخيرة لهوايتهد: «إن الإغريق كان عندهم كل ما كان ينقص اليهود.»
ومضى هوايتهد يقول: «إذا مسسنا هذا الموضوع من ناحيته الحديثة وجدنا أن «الموحدين» — فيما أظن — هم أقرب من وجد سبيلًا لتطبيق الآراء المسيحية على العالم الذي نعيش فيه الآن، وأضم إلى المُوحِّدين أولئك القوم المُتديِّنين الذين يُشبِهونهم أشد الشبه، وأقصد «الطائفيين». وأقول عرَضًا إني قد تسلَّمت خطابًا منذ بضعة أيام من راعٍ أسقفي يُقرِّظ فلسفتي ولم يسعني إلا أن أعتقد أنه أشد شبهًا بالراعي الإنجليزي في القرن الثامن عشر من حيث عمق تفكيره الديني منه براعي القرن العشرين … استمع إليَّ.» قال ذلك وقد اتجه بغتة نحو لفنجستون: «سأسألك سؤالًا شخصيًّا، حتى إن خرجت فيه على حدود اللياقة، وليست بك حاجة إلى الإجابة عنه إن لم تشَأ: كيف أعطيت صوتك في الانتخابات الأخيرة؟»
– «صوَّتُّ مع العمال.»
– «حسنًا فعلت، وهكذا كنت أُصوِّت لو كنت هناك.»
– «حدث أن مُرشَّحنا المحلي كان رجلًا طيبًا جدًّا.»
– «كنت أُصوِّت لمُرشَّح العمال، حتى لو كان رجلًا ضعيفًا، اللهم إلا إذا كان جحشًا كبيرًا.»
وسألت مسز هوايتهد: «وهل توقَّعت النتيجة التي انتهت إليها الانتخابات؟»
قال لفنجستون: «كلا. إن أكثر ما كان يتوقعه أي امرئ — فيما يظهر — انخفاض شديد في عدد مقاعد المحافظين.»
وسألت: «وماذا دها حملة تشرشل؟»
– «يُظَن أنه وقع بين يدي ليفربروك.»
وعادت إلى الكلام تقول: «لقد عرفنا تشرشل وتابعنا سيرته منذ حرب البوير، ويبدو أنه بطل من ناحية، وشديد الضجيج الفارغ من ناحية أخرى. هو رائع في القتال، ولكن إذا ما وضعت الحرب أوزارها، ظهر منه الضجيج الفارغ.»
وقال لفنجستون: «مما يدعو إلى الثناء حقًّا في الانتخابات البريطانية أن المُرشَّحين لم يبعثوا الموتى من قبورهم ولم ينبشوا بحثًا عن القضايا الميتة. وقد خرج بولدوين وتشمبرلين من مجال الجدل، والمرة الوحيدة التي أعرف أنه أُشيرَ إليهما فيها كانت إبان مناقشة في مجلس العموم بشأن إرسال القضبان الحديدية لميدان القتال من عندنا؛ فقال أحد الأعضاء: «اتركوا لبولدوين قضبانه، فهو في حاجة إليها لكي تحميه من الشعب!» وأُغرِقت هذه الملاحظة في صيحات الاستهجان، وكان مصدرها عضوًا من المحافظين.»
ومضت مسز هوايتهد تقول: «إن شعبية تشرشل لم تضعف، فهو عند الشعب لا يزال «وِنِي الطيب العجوز!» ويلقى من الهتاف عند ظهوره أمام الجمهور أكثر مما يلقى رئيس الوزراء العمالي. إن الشعب يُعجَب به ويُكرِّمه، ولكنه لا يُصوِّت له. وهذا عندي مظهر لا مثيل له من مظاهر الحكمة السياسية من جانب الناخبين البريطانيين.»
وقال لفنجستون، وهو — باعتباره أفلاطونيًّا — يعرف حق المعرفة النقد الصحيح ﻟ «الرجل الديمقراطي».
قال: «أجل. وذلك مما يجعل المرء يعتقد في الديمقراطية.»
ووجَّه هوايتهد إليَّ الخطاب قائلًا: «إلى أي حد يُحتمَل — في ظنك — أن يكون عليكم رئيس من الرجال العسكريين بعد هذه الحرب؟»
قلت: «لقد مرَّت بنا تجربتان كئيبتان في ذلك، لا تزالان ماثلتَين حيتَين في الأذهان.»
قالت مسز هوايتهد: «إن الجنرال ماك آرثر يجعل منهما مسرحية.»
– «ربما كان ذلك، وهو كرجل عسكري يدعو إلى الإعجاب، ولكنه يتصف أيضًا بالحس المسرحي، وهذا في الحياة العامة الأمريكية لا يلقى قبولًا حسنًا.»
وقال هوايتهد: «إن أيزنهاور شخصية عظيمة حقًّا. ما رأيك فيه؟»
لم يهتم أحد بالتنبؤ له.
ووجَّهت مسز هوايتهد خطابها إلى لفنجستون قائلةً: «من التغيرات العظمى في العقلية الأمريكية التي ينبغي لك أن تضعها موضع الاعتبار، أن الأمريكان يعرفون الآن أن الدنيا ليست في أمان، حتى بالنسبة إليهم. أما نحن — من ناحيتنا — فلم نكن قط آمنين، وقد عرفنا ذلك في أكثر الأحيان، ما خلا فترة وجيزة في أخريات القرن التاسع عشر. ما أشدَّ ما كان في العالم آنئذٍ من أسباب الراحة، وقد اختفى هذا العالم! أقصد عالم الملكة فكتوريا. لقد باتت ذكراها اليوم أسطورة من الأساطير.»
وسأل هوايتهد وقد عاد بغتة إلى حديثنا عن الفكاهة: «هل عُرِف عن الملكة فكتوريا أنها ألقت مرة نكتة فكاهية؟»
وروى لفنجستون ما يلي: «إنها لا تُسلِّي، ولكن لديها على الأقل روحًا فكاهية سلبية؛ فقد كانت تعرف ما لم يكن — في ظنها — فكاهيًّا.»
– «ولكنها قالت مرة: إن مستر جلادستون يُخاطِبني كأني مجتمع عام.»
قالت مسز هوايتهد: «نعم، ولكن هل كانت تعرف أن هذه الملحوظة فكاهية؟»
وقال هوايتهد: «ألم تكن الطريقة التي يتصل بها «دِزِي» بالملكة شائنة. إن شهرة دزرائيلي مثال من الانفصال السياسي يسترعى الانتباه، لم يكن محبوبًا من الشعب، ولكنهم عرفوا أنه قدير وقبلوا أن يكون لهم مُمثِّلًا سياسيًّا.»
ورنَّت ساعة برج مموريال هول الثالثة، وكان هناك قطار بعد الظهر إلى تورنتو لا بد أن يستقله سر رتشارد. ووقفنا، لكي نستأذن في الانصراف.
وسأل هوايتهد مُتلطِّفًا: «هل تشعر بالإهمال إذا لم يتقدمك بعد اليوم امرؤ يحمل مُحرِّك النار؟» وكانت الإشارة إلى حفل توزيع الدرجات في أكسفورد حينما يدخل موكب العلم مسرح شلدونيان، وتتقدم نائبَ المدير فيه الصولجاناتُ المرفوعة رمزًا للسلطة.
وأجاب لفنجستون بقوله: «إن أطفالي يُسلُّون أنفسهم بسؤالهم لماذا لا أدور وأسير في الاتجاه المُضاد. ويقول مُسجِّلنا في الوقت عينه — وهو رجل ذو خبرة طويلة في هذا — إن عادة الوقوف عندما يدخل نائب المدير على اجتماع هبدومادال لها أثر حسن فعلًا في مباشرة العمل جديًّا. إن للطقوس مكانة في الحياة. والاحترام قد لا يكون لشخصية ما، أو حتى لنظام من النظم، ولكنه قد يكون للآراء التي ينطوي عليها الاحتفال.»