المحاورة الخامسة
٥ من أبريل ١٩٣٥م
كان على الأستاذ هوايتهد أن يحضر اجتماعًا لرؤساء الأقسام، ولبثت مسز هوايتهد بانتظاره في غرفة جلوسها الصغيرة، التي تُطِل على فناء راندور هول، وعلى النهر، خلال أشجار الجميز التي بدأت الآن تتفتح أزهارها، وكانت كتبها الخاصة هنا فوق الرفوف من سطح الأرض حتى السقف.
قالت: «إن أكثرها مذكرات فرنسية، في صفَّين، يعلوها سنت سيمون للرجوع إليه، وعندي صنارة أستطيع أن أجذب بها المجلدات. إن فرنسا — كما كان يقول أولتي عندما كنت تتناول معنا الشاي في المرة الأخيرة — كان من سوء حظها أن تفقد عددًا كبيرًا من رجالها الذين كان يُرجى لهم أن يكونوا من المفكرين الأحرار في ثورتها، وإلى ذلك يرجع السبب فيما أظن إلى ضعف أدبها في أوائل القرن التاسع عشر. إنني لم أُطِق قط قراءته؛ ومن أجل هذا آثرت المذكرات والرسائل.»
وعاد الأستاذ في الموعد المُلائم قبل ساعة العشاء، وانسحبنا إلى المكتبة إلى جوار الموقد لأن هذا المساء من أبريل كان قارص البرودة.
قال الفيلسوف: «إنني أُومِن أشد الإيمان بأن أسمح للضيوف بالبدء في الحديث في الشئون العامة حتى ينفضوا ما لديهم ويكتسبوا حرارة الغرفة.» وابتسم ابتسامة عريضة ثم قال: «حتى الجو أو المناخ موضوع مُلائم للحديث دائمًا.»
وكان من بين الضيوف الأستاذ رالف بارتن بري، وهو زميل لهوايتهد في قسم الفلسفة، ومُؤرِّخ حياة وليم جيمز. ولما كنت طالبًا أستمع إلى محاضرات الأستاذ جورج هربرت بامر في تاريخ الفلسفة، كان بري — وهو حينئذٍ شابٌّ أسمر وسيم الطلعة — يقوم بإلقاء إحدى محاضرات «بامر» بين الحين والحين، والآن وقد تجاوَز ربيع العمر، لم يفقد شيئًا من حِدة نظرته، أو سناء طلعته. وجاء متأخرًا بعض الشيء، وقُبَيل وصوله كان مُضيفنا يقول: «إن الأمم الغربية عندما تقترف أمرًا مشينًا، فهي على الأقل لا تفخر به، ولكن يظهر أن ألمانيا تنفرد بهذه الصفة، وهي أنه كلما كان العمل بشعًا، اشتدت حماسة الألمان لتأكيد صوابه.»
واتفق رأينا جميعًا على أنه بمقدار ما يُدافِع عنهم أحد الأحرار في بلد من البلدان، يُخيِّبون ظنه بالإساءة إليه، وقد حدث لنا ذلك مرارًا وتكرارًا في صحيفتنا ما بين عام ١٩١٤م و١٩١٧م حتى سئمنا.»
وكان على مائدة الطعام هوايتهد وزوجه، ونورث ابنهما، وكان حينئذٍ في الصف الأعلى من مدرسة هارفارد لإدارة الأعمال على الضفة المقابلة من نهر شارلز، والأستاذ بري. وبدأ الحديث عن الكحول؛ لأن الخادمة قد وضعت قِنينة كبرى على المائدة — مما أدَّى إلى امتعاض مُضيفتنا — وقد بلغت القنينة من الضخامة أنها كادت أن تُخفي بتاتًا باقة أزهار الربيع.
وقال هوايتهد: «منذ سنوات عديدة كنا نقطن قرية اعتاد أهلها الشراب، وقد امتنعنا عنه بتاتًا آملين بذلك أن نضرب لهم مثلًا حسنًا؛ وذلك لأن رجال الكنيسة كانوا يشنون حملتهم على تناول الخمور، وكانت النتيجة أننا لاحظنا آثار الشراب على الآخرين عندما كنا نُدعى إلى حفلات العشاء، وأخيرًا قلت لأحد مُضيفَيَّ: «أنصِت إلى قولي، هل تُدرِك أنه بالرغم من كثرة الضحك بعدما يتناول كل واحد كأسَين من الشمبانيا، فإن النكات لا تنم في الواقع عن فطنة أو ذكاء، ولكنكم تحسبونها كذلك؟ ولشدَّ ما كان عجبي لإجابته، قال: نعم، ولكن هذا تعريف للفطنة، أما النكتة فتكون طريفة إذا حسبتها كذلك!»»
وعلَّقت على ذلك بقولي: «إن كتردج كان يقول إن كل موضوع نكتة حينما يكون الناس في نشوة.»
فقال نورث: «أجل، ولكن أليس هناك فارق بين الفطنة والنشوة؟ عرفت بحَّارًا عجوزًا ما رأيته قط صاحيًا ولكنه لم يكن سكران، وكان يتحدث كثيرًا في السياسة، ولكنه يلتزم دائمًا عمومياتها الكبرى، دون الخوض في تفاصيلها. لم يكن ذكيًّا فطنًا في الواقع، ولكن لما كنت أتناول شيئًا من الخمر كنت ألاحظ أن نكاته في مسمعي أروع وحكمته أسمى.»
– «هل اتضح لكم لماذا يُؤثِر أهل الشمال الشراب القوي على النبيذ؟»
وكان من رأي هوايتهد أن ذلك لتفادي الإحساس بالبرودة والرطوبة.
– «هل يمكن أن يكون ذلك لأن العنب لا ينمو في الشمال؟»
ووافقني بري قائلًا: «إنني أعتقد أن ذلك هو السب إلى حد كبير.» ثم أضاف قوله: «ولكن تخمُّر العصير قديم قِدم المدنية.»
وداعبه نورث هوايتهد بقوله: «هل تعني أن الكحول معيار من معايير الحضارة؟»
وأجابه الأستاذ بري بابتسامة مريرة: «لو كان الأمر كذلك لكانت حضارة الولايات المتحدة من نوع شديد الانحطاط في العقد الثالث من القرن العشرين!»
وعلَّقت على ذلك بقولي: «كان النورمان يُدمِنون الشراب منذ ألف عام، وكان من المألوف في معاملة العدو أن تنتظر حتى يسكروا جميعًا ثم تحرق دارهم بمن فيها، وقد ورد ذكر هذه العادة المُستحَبة في كثير من القصص التي امتدت حتى بلغت اسكتلندا.»
– «ولكن هل كانوا يشربون في عرض البحر؟»
– «كلا، فيما يبدو.»
– «ولكن الملاحين النشطين يستطيعون استبعاد الكحول.»
– «كما يستطيعون استبعاد القهوة.»
– «ثم هناك توزيع الروم عليهم.»
فقال نورث: «لا تأخذوهم مأخذ الجِد، إنهم قلة تدعو إلى العطف.»
– «إن الأوامر بهذا الصدد في السفن الإنجليزية غاية في الدقة. لا يجوز إدمان الشراب في البحر، إلا في عيد الميلاد.»
وبذلك الانتقال السريع الذي يحدث في الحديث، انتقل الموضوع من ندرة الشراب في البلدان اللاتينية التي تقع جنوبيَّ «خط النبيذ» إلى كفاية الملاحين النسبية في فنون الملاحة. وقال قائل: «لا بد أنهم كانوا بارعين في يوم من الأيام؛ لأن أكثر تلك الرحلات البحرية الجريئة التي تمَّت في القرنَين الخامس عشر والسادس عشر قام بها البرتغاليون والإسبانيون والإيطاليون.»
فقالت مسز هوايتهد: «كان ذلك من زمان بعيد.» وروت لنا أنها كانت على ظهر باخرة إيطالية أقلعت من نابلي، وقد لقي البحَّار الذي كان يُقلِع السفينة مشقة في فك حبل زورقه، وصاح القبطان الذي كان يقف قريبًا من إحدى الخادمات وطوَّقها بذراعَيه، فصاحت، وعم الصياح بين الملاحين، واستطاع البحَّار أن يُخلِّص نفسه، ولكن بداية الرحلة على هذه الصورة لم تكن قط تدعو إلى الاطمئنان.
قلت: «إن أردتم مثالًا لبراعة البريطانيين في الملاحة، فإليكم هذه القصة، وهي حديثة العهد جدًّا، وقد رواها صبي نجا من حريق الباخرة مورو كاسل، وهو شابٌّ من فيلادلفيا، رواها لجون رتشاردز أحد أساتذته القدامى في سنت بول؛ أمسك بحبل كان مُعلَّقًا بقضيب الباخرة، وتشبَّث به أربع ساعات وهو في شك من التهام النار للحبل، ثم ماذا حدث؟ أبحرت السفينتان الأمريكيتان، ولم تفعلا إلا قليلًا، بل لعلهما لم تفعلا شيئًا، ثم ابتعدتا. وأخيرًا عند مُنبثَق الصباح أتت السفينة البريطانية، ويقول جون إن الصبي الأمريكي روى القصة ثلاث مرات دون أن يُدرِك أنه كان يُكرِّر ما يقول، وذكر أثر ما اتصف به البحَّارة الإنجليز من كفاية هادئة وتدريب حسن على نفسه، وكانت السفن شديدة التلاصق حتى استطاع أن يسمع طقطقة الأذرعة التي تحمل السفينة وصليل القطع الحديدية، ثم طرق أذنه صوت هادئ رزين انبعث من الضابط الأول ورن فوق سطح الماء، وهو يقول للرجل المسئول من أحد قوارب النجاة: «مستر هوكنز، إن قاربك بطيء، اهبط به إلى الماء أيها اللعين.»»
والظاهر أن هذه القصة قد بعثت في نفس الأستاذ هوايتهد سرورًا شديدًا، ولكنه قال: «ربما صاح بالأمر — فيما أعتقد — رجل لاتيني شديد الحماسة وحصل على مثل هذه النتيجة.»
ثم انتقل الحديث إلى السفن الأمريكية الطويلة السريعة في القرن التاسع عشر، أو سفن جلستر للصيد في القرن العشرين، حيث بلغ كل طراز منهما قمة الإتقان، بحيث أصبح عملًا فنيًّا، حتى حلَّت محلَّ الأولى سفن تجارية، وحلَّت محلَّ الثانية سفن تندفع بقوة الاحتراق الداخلي.
وقال هوايتهد: «أذكر أن الإتقان يسبق التغيُّر دائمًا، ويدل على اقتراب نهاية عهد من العهود.»
وانتقل هذا الحوار من مائدة الطعام إلى حجرة الجلوس، حيث كنا نحتسي أقداح القهوة، وعندئذٍ ذكر مُضيفنا: «أن القدرة على الاختراع في أمريكا ليست ابتكارًا غير مسبوق كما يُنسَب إليها هذا الفضل دائمًا، ولكنها تُوجَد غالبًا في مخترعات الدرجة الثانية التي تنشر السلعة وتُعمِّم استعمالها.» وواصل حديثه قائلًا: «إنكم لم تبتكروا السيارة. إنما الفرنسيون هم الذين فعلوا ذلك. أما ما قمتم به فهو تحويرها بحيث تصلح للجماهير.»
– «نعم. أوَليس الجانب الأكبر من هذه القدرة على الاختراع ينتهي إلى جهاز لنقل الأجسام، ونقل الأفكار، ولا ينتهي إلى التفكير نفسه؟ فما رأيك في التفكير المُبتكَر؟ لو كانت هذه الولايات المتحدة مُنعزِلة كقارة أطلنطيق الخرافية، ماذا كان يبقى لنا لنُذكَر به؟»
فقال هوايتهد: «إن تعميمكم لتعلُّم القراءة والكتابة، ورفع مستوى الراحة والرفاهية بين الجماهير، يُعَد في ظني من أعظم الأعمال في تاريخ البشر. في البلدان القديمة وفي الأزمنة السابقة — حتى في أحسن الظروف — كانت الثقافة تنتشر بين أفراد طبقة صغيرة عليا فقط، لا تزيد عن عشرين في المائة على الأكثر، وأعتقد أن إمداد الجماهير بمستوًى من المعيشة مُلائم على الأقل يُعَد خدمة كبرى للمدنية.»
وسألت قائلًا: «إن هذا لا يعدو مجرد الرفاهية المادية وراحة الناس، أليس كذلك؟» ووافقني الأستاذ بري.
وقال بري: «إن الفنون الحقيقية هي علوم الجمال، والعلوم، والفلسفة. أما ما عدا ذلك فجهود ثانوية، وليس من الجهود العظمى.»
وصاحت مسز هوايتهد قائلةً: «ما أعجبكم أيها الأمريكان! إنكم دائمًا تحطُّون من شأن أنفسكم!»
قلت: «إننا لم نبلغ مرحلة النقد لأنفسنا إلا أخيرًا فقط، وربما كنا مبالغين فيه.
ولكن لماذا شاعت في كتبنا الشعبية نغمة الغضب والمرارة والحنق، في الوقت الذي زاد فيه توفير الراحة عن أي وقت سابق أو لاحق، من عام ١٩١٩م إلى عام ١٩٢٩م؟ ألا تذكر أي أثر أليم تركه ذلك؟ هل كان ذلك راجعًا إلى تبديد أوهامنا بشأن الحرب، أو إلى إحساسنا بعجزنا السياسي المُؤقَّت؟ لقد وصلت الرفاهية إلى أوساط الصفوف الدنيا من الطبقة الوسطى أو إلى بيوت العمال على صورة راديو، وعربة رخيصة، ومظلة من الجلد للمصباح، وستائر كريتون، وكرسي وثير، وأجهزة منزلية تُوفِّر العمل. فهل يرجع سبب الغضب إلى أن الراحة والفراغ قد توفَّر لأناس لم يتدربوا على استغلالهما، ثم حُرِموا منهما قبل أن يتعلموا طريقة استخدامها؟»
وقال بري لكي يستفزني: «إنهم كانوا يتطلعون إلى وقت تزداد فيه أسباب راحتهم المادية وكانوا دائمًا يترقبون هذه النعمة التي لم تتحقق، فبقوا ساخطين.»
وقالت مسز هوايتهد: «أنتم مستعجلون جدًّا، لم ينقضِ من تاريخكم سوى ثلاثمائة عام، وقد انقضى من تاريخ أوروبا ثلاثة آلاف.»
– «ولكن الإغريق في حضارتهم لم ينقضِ على تاريخهم سوى ثلاثمائة عام.»
وهنا تدخَّل هوايتهد قائلًا: «نعم، ولكنهم لم يعبئوا إلا قليلًا جدًّا بمصر وفارس، ولعلك لاحظت ذلك. حقًّا لقد اقتبسوا بعض مبادئ الحضارة من كريت وميسيني وآسيا الصغرى، وقليلًا من مصر، ولعلك تذكر أن رجال الدين المصريين في قصة أفلاطون كانوا يقولون لصولون: «أنتم الإغريق لستم إلا أطفالًا.» أردت أن أقول إنهم صنعوا حضارتهم بأنفسهم، وكانوا — كالأمريكان — على درجة من العنف، وإني لأتخيل المصريين والفرس يقول بعضهم لبعض: أليس من المُؤلِم أن يُرتكَب كثير من جرائم القتل في اليونان؟ لا بد أن يكون المجتمع هناك غير آمن إلى حد مزعج، بيدَ أن جرائم القتل لم تعترض إنشاء المدنية. إن أكثر الأماكن التي زرتها شبهًا باليونان — فيما أتخيل — هو اجتماع للعلماء الجامعيين في شيكاغو! كانت المدينة فوضى ولكنها تزخر بالحياة. لم يدرس الإغريق خير النماذج التي يمكن الحصول عليها خارج بلادهم، كانوا يصنعون نماذجهم بأنفسهم. وذلك في ظني أقصى ما يستطيع امرؤ أن يصنع مما يكون له صفة إغريقية. أما عن قيمة دراسة اللغة في أصولها، فإني أعتقد أننا نستطيع أن نستمد من الترجمات أكثر ما فيها من مميزات، ولقد قرأت العهد الجديد في أصله وأنا شابٌّ ووجدت اليونانية — كلغة — لا تستحق التقدير، وأفضل منها بكثير الترجمة إلى إنجليزية أوائل القرن السابع عشر. إن تسعين في المائة من هيرودوت العزيز يمكن الحصول عليه من الترجمة، وكذلك ستين أو سبعين في المائة من ثيد سيديد، بل إن أفلاطون المقدس ذاته لا يفقد الكثير في الترجمة، ولقد قمت بتدريس كثير من خير محاوراته لفصول متتابعة من الطلبة، وكثيرًا ما سألت نفسي: أية قيمة لما تحتويه من آراء تُبرِّر الجهد الذي يُبذَل في سبيل تعلُّم اللغة؟ وبعدما انقضى الآن أربعون عامًا منذ كنت أقرأ اليونانية بطلاقة، أتناول ترجمة لوب التي تعرض الترجمة الإنجليزية في صفحات مقابلة، وبمعاونة معجم ليدل وسكوت أستطيع بوجه عام أن أُبيِّن في أي المواضع يُعرِّض جوت نفسه للسخرية، وذلك تقريبًا مرة في كل جملتَين.»
واعترضت زوجه طلاقته المُتدفِّقة بقولها: «هذا من عمل أكسفورد يا عزيزي أولتي كما تعرف!»
وفي خضوع لزوجته خفَّف من حدة نغمته في الكلام وقال: «أجل، يا عزيزتي، إن ما قصدت إليه، هو أن أُبدي شكي فيما يعود من فائدة للطالب المتوسط من إمعان البحث في دقائق المعنى من الأصول. إن اليونان أنفسهم لم يكونوا ليفعلوا ذلك، وحينما يقول لي دارسو الإغريقية: نعم، ولكن ما عناه مؤلفنا حقًّا هو … فإنهم لا يُعاوِنون بذلك على ظهور الفكرة. إنهم يقولون إن أية طريقة أخرى لا تتفق وزماننا، ولست على يقين من ذلك، ولكنني أرى أن طريقتهم هي التي لا تتفق وزماننا. إن هذا التقيُّد بالتقليد الذي ينظر إلى الوراء إنما جاء في عصر النهضة، ولم يكن من صفات اليونان، وقد عانى قسم الفلسفة الذي أنتمي إليه كثيرًا من ذلك بصفة خاصة؛ ومن أجل هذا حاولت أن أخترع مصطلحات جديدة للأفكار الجديدة. إن للتفكير رطانة تعترض سبيل التفكير نفسه، ولا يقل ذلك في مساوئه عن رد الفن الأمريكي إلى الآثار القديمة. كان الأمراء في عهد التصوير العظيم إبان النهضة يشترون الصور التي كانت تُرسَم في ذلك الحين، ولم يشتروا الصور التي رُسِمت منذ قرون، ولو أن أصحاب الملايين عندكم لم يُنفِقوا أموالهم في جمع روائع الفن لكبار الأساتذة، وإنما أنفقوها على الصور المعاصرة، لانتعش الفن في أمريكا. إن جوهر الحياة عندكم هنا في أمريكا هو أنكم لا تتطلعون إلى الخلق وإنما تتطلعون إلى الأمام. إذا كان تاريخ الفن هو كل ما تريدون إذن لَكان مرجع الفضل كله إلى أوروبا. أما إذا كنتم تريدون إبداعًا يتطلع إلى الأمام وجب عليكم أيها الأمريكان أن تعتمدوا على أنفسكم، وإليكم سوف يرجع الفضل كله.»
وساورني شك خفيف في أن الفيلسوف الطيب كان يميل قليلًا إلى الاتجاه الآخر كي يُوازِن ما عندي من فرط الحماسة للهلينيين، بيدَ أن اشتغالي باستيعاب هذا الدرس في صدري صرفني عن هذا الشك، وتبادلت معه الفكاهة، وكان يتحدث مع بري عن المعركة التي دارت في أحد اجتماعات الكلية بشأن الاستفتاء عن ضرورة اللاتينية لدرجة البكالوريوس في الآداب، واجتذب سمعي بغتة اسم «راند»، وهو إدوارد كنرار راند، الأستاذ البابوي للاتينية في جامعة هارفارد الذي عرفني بلايفي وهوراس إبان الدراسة بالجامعة.
وذكر بري: «إن كن راند هو الذي ألقى الخطبة الرئيسية دفاعًا عن ضرورة اللاتينية، وكانت خطبة قيِّمة، وُفِّق فيها إلى الحجج الصحيحة، وكان فكِهًا في مواطن الفكاهة.» ثم وجَّه إلى هوايتهد قائلًا: «وبهذه المناسبة، لقد كان لك ضلع في هذه المعركة.»
– «أنا؟»
– «نعم، فقد اقتبس في حديثه بحرية من إحدى مقالاتك في «أهداف التربية».»
– «إذن فهو لم يقتبس كل نقاطي، فليست كلها في جانب رأيه.»
– «من هذه النقاط ما يكفي لتعضيد رأيه، حتى مُنينا بالهزيمة المُنكَرة في صفوفنا يا ألفرد، وكان من بين الأعضاء عدد كبير لم يتكلم طويلًا، ولكن لما لجئوا إلى التصويت — ومنهم شباب ما كنت تتوقع أن ينضموا إلى هذا الجانب من الرأي — صوَّتوا مع راند، ومعك.»
فقال هوايتهد: «هذا أمر يدعو إلى العجب، إنها محاضرة ألقيتها منذ عدة سنوات.»
قالت مسز هوايتهد: «كانت من خير محاضراتك يا أولتي.»
– «نعم، ولكن …»
وصمَّمت أن أُنهي الموضوع فقلت: «ليس الأمر عجيبًا جدًّا يا سيدي، وأنا أُقِر بذلك.
ومنذ بضعة أسابيع أُقيمت في بيت سام موريسون حفلة عشاء لجمع الذخيرة للدفاع عن اللاتينية، وقد وجدتهم لا يعرفون ذلك الفصل في مقالك «أهداف التربية»، فوجَّهتهم إليه.»
وبدت الدهشة في وجه بري، وتكشَّف له السر! ولكني قدرت ذلك قبل أن أتكلم، ولمع بريق السرور في عينَي هوايتهد، وسواء أرَضي أو لم يرضَ عن النتيجة، فقد استطاع أن يُدرِك ما في الموضوع من فكاهة.
وكذلك استطاع بري أن يُجابِه الموقف بما عنده من روح الفكاهة. ولما خرجنا حملني في عربة إلى ميدان هارفارد، حيث افترقنا، وكل منا يُؤكِّد لزميله استمرار تقديره له.