المحاورة السادسة
٢٥ من أغسطس ١٩٣٥م
تناولت الشاي والعشاء مع آل هوايتهد في كمبردج، وقد قرءوا مقال «هلاس والأرواح» ومقال «ممالك الذهب» في «أكسفورد روندو» التي نُخرِجها «نحن الشماليين»، وكنت قد عرضت هذه الفصول على الأستاذ هوايتهد لأني اقتبست منه طويلًا في كثير من الموضع، وبعض اقتباسي من كتبه المنشورة، وبعضه من حديث ٥ من أبريل ١٩٣٥م، وقال لي إنه طالع المطبوعات ثلاث مرات، وكان ذلك نقطة البداية لحديث عام.
قال الأستاذ: «إن اليهود يفتقرون إلى روح الفكاهة بدرجة فريدة.»
واعترضت قائلًا: «إنهم في أمريكا على الأقل يُرسِلون بعض النكات الطريفة، ومنها نكات عليهم أنفسهم، وبعض الكوميديين اليهود من أكثر الناس فكاهة على الأرض.»
– «نعم، ولكن فكاهتهم من قبيل التهكُّم عادة. ويُعَد هين مثالًا للفكاهة اليهودية. إنهم في ذلك الممر الذي يقع بين إمبراطورية بابل والإمبراطورية المصرية، كانوا شعبًا في موقف يائس، يُحِس أنه لا يظفر بحقوقه؛ ومن ثَم فإن تفكيرهم ثقيل من أوله إلى آخره.»
وسألته: «إذا أخذنا في اعتبارنا كل الشروح التاريخية المألوفة، فبماذا نُفسِّر تسلُّط هذا الفكر العبري علينا نحن الأوروبيين الشماليين؛ لأن هذه هي حالتنا؟»
قال: «الأمر عجيب، وأعتقد أنه يجب أن نذكر أنها نظرة إلى الحياة نفذت عن طريق الرقيق والعمال المأجورين، وهي نظرتهم التي ترى أن المرء يمكن أن يعيش حياة طبيعية حتى لو كان دون مرتبة الكلاب، وقد لوَّنت هذه النظرة بطبيعة الحال كل ما تلا ذلك من التاريخ الأوروبي، وهي نظرة أقرب إلى بولس منها إلى المسيح وليس هناك ما يدل على أن بولس قد رأى المسيح قط، ويبدو أنه كان يعطف بعض الشيء على بيئته …»
وقاطعته مسز هوايتهد بقولها: «نعم، كأنه أستاذ في أكسفورد.»
– «أجل، وإن المرء ليحسب أن بولس قد توجَّه إلى الرسل وقال لهم: «تعالَوا حدِّثوني عن كل ما تذكرون عنه، وكيف كانت سيرته؟» ولكنه لم يفعل ذلك، بل قال: «اجلسوا أمامي وسأُحدِّثكم عن معنى كل ذلك.» يبدو أن المسيح كان أحد أولئك الناس الذين يكتسحون غيرهم، فتُنسَب إليه أمور طيبة، فلما أخذت تلك الطبقات المهضومة تضع برنامجًا للحياة يجعل العيش محتملًا لهم، تجمَّعت حول شخصية المسيح، ومن عجب أن العنصر الهليني الذي تسرَّب إلى المسيحية كان علاجًا لنفس المشكلة من الطرف الآخر المناقض؛ أي أن المفكرين الإغريق رأوا أن [القبضة الحديدية] أمر وضيع، أو «بربري» كما كانوا يقولون. وباعتبارهم من الأرستقراط، رأوا أن الشفقة وحسن المعاملة هما زينة الحياة الدنيا، وائتلف هذان العنصران، ولكن يجب أن نذكر أن المسيحية أتت إلى أوروبا عن طريق «الطبقة الدنيا من الكهان!».»
وسألته: «ألا يدل اتجاه اليهود البغيض على حالة عقلية لم ترتفع إلى مستوى هذا السمو؟»
– «بالتأكيد، وقد أصبتَ في تعريفك للبروتستانتية في أمريكا.»
– «قلت إنها لا تستند إلى تقاليد قديمة تُخفِّف من وطأتها.»
– «هذا هو الفارق بينها هنا وفي أوروبا. في إنجلترا — وأعتقد أن ذلك كان بعد تدوين «مسرحية العاصفة»؛ أي بعد عام ١٦١٠م فيما أظن — كان الشعب الحي الحساس، من أصحاب الذوق الفني، لا يستمد راحته النفسية من الإبداع الفني، وإنما يستمدها من الخبرة الدينية، لخمسين عامًا بعد ذلك على الأقل، وتُلاحِظ انحطاطًا ظاهرًا في الفن، والعمارة، والشعر (أما الفردوس المفقود لملتن فهي استثناء لا يُقاس عليه) حتى بعد حكم الملكة آن. أما الأدب فجيد، بل عمل عبقري، ولكنه لم يبلغ جودته المعهودة، وفي فن العمارة رشاقة ولكن تنقصه القوة، وأعتقد أن الخبرة الدينية ينقصها شيء يُستمد من التعبير الفني، إنها تهز المشاعر ولا تُهدِّئها، وربما كانت تفتقر إلى التدريب الذهني الذي كان يكفله التعبير الفني. عندما يُراقِب الناس غروبًا رائعًا — مثلًا — تثور مشاعرهم، ولكنهم كذلك يهدءون، وإذا أضَفت إلى ذلك عنصر النظام الذي يُدخِله الفنان فيما يُبدِع، والذي ينبغي كذلك أن يُحيط به من يستمع بالفن، إذا أضَفت ذلك وجدت أن شيئًا من المجهود العقلي يُطلَب بالتعاون مع الفنان كي يُحدِث الأثر، وقد عرفت الكنيسة الكاثوليكية ذلك، واستطاعت أن تُدير أمرها بطريقة أفضل. إن كرسي الاعتراف يهز المشاعر التي يُثيرها في الإنسان تقصيره في بلوغه أعلى مستوياته، ثم يُهدِّئها بصرف الناس مُطمئنين مُرتاحين، ولا أقول إنها تتعرض لسوء الاستعمال، ولكن وازِن بينها وبين مذهب «كالفن» الذي لا يطمئن فيه الرجل التائب إلى أنه أصبح واحدًا من المُقرَّبين إلى الله أو أنه حكم عليه باللعنة الأبدية، وليس هناك ما يستطيع أن يفعله بهذا الشأن، بل إن الأعمال الطيبة نفسها لن تُنجيه، فهو «خِرقة قذرة». إن العقيدة هي أن الله عالم بكل شيء، حكيم، قادر على كل شيء خُلِق هذه الدنيا كما أرادها تمامًا، وحتى ما فيها من شر قد سبق تقديره، وبالرغم من أنهم يُلقون بضع عبارات يُخفِّفون بها من قسوتها، إلا أن ذلك لا يُنقِذهم حقيقة من الموقف الصارم الذي زجُّوا بأنفسهم فيه.»
– «ما الفرق — فيما تظن — بين الخبرة الدينية والخبرة الفنية الذي يجعل الثانية في كثير من الأحيان على ما يبدو؛ أعني استجابتنا لصورة من صور الفن أو لشعور من المشاعر الفنية، أصح كثيرًا من الخبرة الأولى (بما فيها أيضًا التربية العقلية)؟»
– «أقول إن الفرق هو هذا. الخبرة الفنية تُهدِّئ كما تُثير، والخبرة الدينية تميل إلى أن تترك المرء مُعلَّقًا وسط الفضاء، تثور العواطف ولا تُشبَع.»
– «إن الوقار غير الطبيعي الذي يتصف به الكثيرون من مُحترِفِي الدين هو عندي نقطة ضعف فيهم.»
قال: «كنت أُلاحِظ دائمًا أن الأشخاص المُتديِّنين حقًّا ومن الأعماق مُغرَمون جدًّا بالفكاهة، وإني لأشك فيمن ليس لديهم فكاهة. إن جهد الوقار لا يُحتمَل لأنه غير طبيعي. ولعلك تذكر أن الأثينيين كانوا دائمًا يُقدِّمون بعد مآسيهم مُهرِّجًا على المسرح.»
– «نعم، وكثيرًا ما كان المُهرِّج يسخر من موضوع المسرحية، بل ومن أشخاص المأساة.»
قال: «إنني في كتابي «العلم والعالم الحديث» قد عالجت موضوع «ضرورة الهزل».» وأنزل الكتاب من فوق الرفوف، وأطلعنا على ما كُتِب في هذا الصدد في الفصل الثالث عشر، الذي قرأناه معًا جهارًا.
(هل حقِّية الأمر أنه ليس هناك أمر من الأمور، ولا خبرة من الخبرات حسنة كانت أم سيئة، ولا عقيدة من العقائد، ولا سبب من الأسباب، ليس هناك شيء من هذا يبلغ من الجلالة في حد ذاته ما يكفي لشغل الحياة كلها بحيث لا يبقى مكان للضحك؟ الضحك هو الذي يُذكِّرنا بأن نظرياتنا ليست سوى محاولة لجعل الوجود مفهومًا، لكنها بالضرورة لا تعدو أن تكون محاولة. ثم ألا يتدخل ما ليس معقولًا وما هو غرَزي لكي يحفظ التوازن صحيحًا بطريق الضحك؟)
وواصل هوايتهد حديثه قائلًا: «كثيرًا ما يبدو لي أن الرجل الأوروبي بلغ أوجه بين عامَي ١٤٠٠م و١٦٠٠م، ومنذ ذلك الحين أثقلنا بالتعقيل تقديرنا للجمال. نحن المُتعلِّمين ثقَّفنا إحساسنا بالجمال أكثر مما ينبغي، ولا نُدرِك كُنه الجمال في بساطة، ومن الجائز أن يكون الإحساس بالجمال أصدق وأقوى لدى غير المُتعلِّمين منه لدينا. إن بُناة الكاتدرائيات الأوائل — حتى النورمان والرومانسك — لم يصوغوا النظريات، إنما كانوا «يبنون»، كما أن الشعراء انصرفوا إلى عملهم مباشرةً أكثر مما نفعل. نحن أبناءَ اليوم نُبالِغ في تعقيد الأمور. إن المكان الوحيد الذي يتراءى لي أن ازدهارًا عظيمًا آخر للثقافة الأوروبية قد يظهر فيه هو الغرب الأوسط في أمريكا، حيث يمكن أن تكون البداية جديدة، وأن تنمو الثقافة من أصولها. وقد عالجت في الفصل الذي كتبته علاجًا معقولًا مسألة الفارق بين الأمريكان والأوروبيين؛ لا ينبغي للأمريكان أن يُحاكوا الأوروبيين، يجب أن يكونوا أنفسهم، وأن يُبدِعوا من جديد. إن هذه المحاكاة الأمريكية لأوروبا ستفتقر دائمًا إلى التشويق والحيوية، شأنها في ذلك شأن كل المشتقات. وعلى الأمريكيين أن يدرسوا أوروبا وأن يعرفوا ما أنجزته من أعمال، ولكن عندما يكون الأمر أمر خلق وإبداع، فبالله انسوا كل ما تم عمله من قبل، واخلقوا وأبدعوا!»
قلت: «لا يبقى للمرء في أغوار الخلق والإبداع شيء يستطيع أن يُؤدِّيه، أما الدراسة فقد تُعِين المرء، ولكنها لا تُنجيه.»
قال: «إنها لا تُعِينه إلا إذا تمثَّلها حتى نسيها وأصبح لا يعيها. وإننا لنجد — كما كتبت مرة — في أكثر الجامعات التي تُدرِّس الأدب، أن الدراسة لا تتجه إلى ما ينبغي عمله، وإنما تتجه إلى ما تم عمله؛ وهي لذلك تميل إلى تقديس الماضي واحترامه. وإني لأفزع من تجميد الذكاء الخالق بالتعليم البالغ في جودته، بالأفكار الساكنة، فيُقال للمُتعلِّم: «هذا هو الشيء الصحيح الذي ينبغي لك أن تعرفه.» فذلك قبول سلبي للتعليم المقدس، دون أية نية للتصرف فيه. وعلى المُعلِّمين أن يُحِسوا إحساسًا حادًّا بالعيوب الكامنة في المادة التي تُدرَّس. إن ما يُعلِّمونه قد يفتقر كل الافتقار إلى عناصر التغذية الضرورية، عليهم أن يحذروا مادتهم وأن يُعلِّموا تلاميذهم أن يحذروها. إن التعليم إذا تجمَّد، فقُل عليه السلام. إن أقسام هذه الكليات سوف تحتاج إلى التعليم، والخطر في أن تتجمد التربية، فيُظَن «أن هذا وذاك هو الصحيح الذي تجب معرفته»، وإن حدث ذلك مات التفكير. لشدَّ ما أضِيق بالغرور الذي ألمسه في بعض ألوان الحديث الذي يدور بين زملائي، ذلك الحديث الذي يُرسِلونه في ازدراء قائلين بأن النظرية لا تجود إذا [اختُبرت نصف اختبار] فحسب، وأنه لا بد من جمع الحقائق في دقة بالغة. كما أضيق كذلك بابتعاد الجامعة عن الحياة العملية، ولا أقصد ابتعادها عن الحكومة الفدرالية وحكومة الولاية فحسب، وإنما كذلك ابتعادها عن الشئون المحلية البلدية. إن وظيفة كبرى تنتظر الجامعات الأمريكية، وذلك أن يُمدِّنوا العمل، أو على الأصح أن يحملوا رجال الأعمال على أن يُمدِّنوا أنفسهم باستخدام نفوذهم في شئون الحياة العملية، فيُمدِّنوا وظائفهم الاجتماعية. ولا يكفي أن يجمعوا الثروة بهذه الطريقة أو بتلك، ثم يتبرعوا بعد ذلك لإحدى الكليات أو المستشفيات، إنما ينبغي أن يكون «الدافع» في جمع الثروة استخدامها في غرض اجتماعي إنشائي.»
– «وهل يستطيع الرجل الذي يندفع بدافع الإيثار أن يجمع ثروةً ما؟»
– «الأرجح أنها تُنفَق عند جمعها، إنما قصدت أن القانون قد تمدَّن — فعل ذلك اليونان والرومان وجستنيان وغيرهم — وتخلَّص الطب من السحر، وتخلَّصت التربية من الدجل، وقد آن للعمل أن يعرف وظيفته الاجتماعية؛ لأن أمريكا — إن أرادت أن تتمدن — فلا سبيل لها إلى ذلك (في الوقت الحاضر على الأقل) إلا عن طريق طبقة رجال الأعمال، الذين يملكون النفوذ والعمليات الاقتصادية. ولست بحاجة إلى أن أذكر لك أن هناك محاولات كثيرة لتحقيق ذلك، في كلية هارفارد والمدارس العليا على هذا الجانب من نهر شارلز، وهناك محاولات في مدرسة هارفارد الجديدة لإدارة الأعمال على الجانب الآخر من النهر، ولكنها محاولات تسودها روح الاستعلاء وانعدام الخيال، ولو أن الجامعات الأمريكية عرفت واجبها لتناولت العمل بين يدَيها وعلَّمته قواعد الأخلاق ومستويات المهنة العالية.»
ثم قال إن من رأيه أن تفسير التاريخ بالعامل الاقتصادي طريقة مَعيبة جدًّا، وإن محاولة الإسكندر توحيد العالم بإدخال الحضارة الهلينية في شرقيَّ آسيا — «وبرغم أنه أصاب نجاحًا، وخلَّف من بعده فوضى» — حتى في هذه المحاولة مجهود أنبل وعامل أفعل.
وتحدَّثنا في السبب الذي أدَّى إلى تفوُّق الطبقة الوسطى بهذه الدرجة المُؤسِفة، وكان من رأيه أن ذلك راجع إلى أنهم نخبة ممتازة نجحت في حياتها لأنها جديرة بوظيفة محدودة — هي وظيفة خلق العمل المُريح — في عصر مُعيَّن، وإن لم يكونوا في الواقع فئة ممتازة، ولكنهم طبقة ذات موهبة تدفع بها الظروف المُتقلِّبة إلى أعلى. «أما في إنجلترا فإن هذه الطبقة عندما يعتريها شعور صادق بالخروج على التقاليد الدينية، تتحول إلى طائفة من الناس لها قيمتها، ولها أهمية تاريخية قصوى.»
– «هل تنقسم الطبقة الوسطى إلى فئتَين؛ إحداهما تتأثر بالعاطفة الدينية أو بالإحساس بالجمال — الذي يُخفِّف من وطأة وظيفتهم الاقتصادية — والأخرى تلك التي تتأثر أساسًا ﺑ «دوافع الملكية» أو لعلها تتأثر بهذه الدوافع وحدها؟»
– «نعم، وأظن ذلك يُفسِّر لنا الحقيقة. وقد وُجِد أن الطبقة الأرستقراطية وطبقة العمال في إنجلترا بينهما قدر كبير مشترك، وتفاهُم متبادل، أكثر مما بين إحدى هاتَين الطبقتَين والطبقة الوسطى. إنهما يتعارفان عن طريق الرياضة، وكلاهما أقرب إلى الواقع وإلى الارتباط بالأرض. وأعتقد أن طبقتكم الوسطى هنا في أمريكا أعلى وأقوى أثرًا من مثيلتها لدينا، ولا أحسب أن حركة اتحادات العمال عندكم مسئولة من الناحية السياسية أو تستطيع أن تستولي على الحكم. أما الأرستقراطية بالمعنى الأوروبي الذي يقصد طبقة مسئولة حاكمة، فلا وجود لها عندكم بطبيعة الحال.»
– «إن كلمة الأرستقراطية في هذه البلاد مُعتَلة. في الغرب الأوسط، عندما كنت صبيًّا، كانت كثيرًا ما تُقرَن بسمك القد؛ فقد انتقلت هذه الفكرة إلى هناك من إنجلترا الجديدة، وهي تقصد بوسطن بصفة خاصة. يبدو لي أن أرستقراط إنجلترا الجديدة، إذا أطلقنا عليهم هذه الصفة، قد فقدوا أو تخلَّوا عن قيادتهم، واستوردوا جموعًا حاشدة من الأوروبيين الجنوبيين يعملون لهم، ولما خافوا كثرتهم وفلقهم وقوتهم الكامنة، أصابهم الذعر، وتخلَّوا عن محاولة الكم، وتحوَّل أصحاب الأصل الطيب منهم إلى دكاترة وأساتذة، ولكن كثرتهم تعيش على المال الموروث وعلى المركز الاجتماعي.»
فقال: «إن الأرستقراطية التي تنفض قيادتها تُنهي وجودها؛ لأن المُسوِّغ الوحيد لبقائها هو توليها القيادة. إن أفراد الطبقات العليا من الأمريكان في بوسطن وإنجلترا الجديدة من أرقِّ من قابلت من الناس. إنهم مُثقَّفون جذَّابون، ولكن لما تدفَّق المهاجرون إلى هنا من أوروبا في القرن التاسع عشر، لم يفعلوا لهم شيئًا سوى العطف البشري في بعض صوره؛ وترتَّب على ذلك بعد جيلَين — لما زاد المهاجرون عنهم في العدد والأصوات — أن وجدوا أنفسهم من الناحية السياسية تحت رحمة أناس لا يشعرون نحوهم أو نحو مؤسساتهم بالولاء.» وبعد لحظة قال: «إن عائلات التجار المُنشَقين على تقاليد الدين تزاوَجت مع الأرستقراط الإنجليز مُلاك الأراضي في القرن التاسع عشر، فبعثت جدية خلقية في طبقة الأرستقراط لا أظن أنه قد سبق وجودها في التاريخ.»
وكنت في بداية المساء قد لاحظت مثلًا من رقة قلب هوايتهد ويقظته، وكان يتحدث عن الكاثوليكية، وانخفض صوته وهو يقول إن عقلنا كاثوليكي ونحن نُكرِّس حياتنا للكاثوليكية. وكان نص ما قال: «إن الأناجيل المُجمَلة من تفكير قوم أقوياء، إن الحواريين يجمعون الحنطة يوم السبت، يزجرهم حاكم القرية والمجلس القروي، وهم يُجيبون في خشونة (واخشوشن صوته إلى حد الفظاظة): «وما الخطأ في ذلك؟» غير أن الدين الرسمي الذي يبدأ زهاءَ القرن الثاني — أعني التعاليم الكاثوليكية — فلسفة في الحياة، وكأنها تصدر عن رجل عاش عيشة مُنحَلة، وجرَّب كل شيء، وكانت له علاقات جنسية مُثيرة كثيرة، ثم — على حين بغتة — في سن الخامسة والثلاثين انقلب إلى النقيض، وتخلَّى عن كل صنوف الاستهتار.»
قلت: «ولماذا تحصر ذلك في المسيحية الرسمية. ألم تصِف لنا بذلك صديقنا العزيز ليو تولستوي؟»
وقال باسمًا: «ليس إلى هذا الحد!»
وأدَّى بنا ذلك إلى موضوع التأليف.
قال: «إن المرء في الواقع يكتب لقُراء يبلغ عددهم نحو العشرة، وربما أُعجِب بما يكتب آخرون، هذا أمر واضح، ولكن إذا اقتنع هؤلاء العشرة رضي الكاتب عن نفسه، لا بد من قدر مُعيَّن من التشجيع.»
وأثَرت هذه المشكلة، وهي: لماذا يستنفد خلق العمل الفني خبرة الفنان المُبدِع، في حين أن لهذا العمل الفني قدرة لا حد لها لتكرار إثارة الحس عند المُشاهِد؟
قال: «ربما كان ذلك لأن كل المجهود البشري يُوجَّه نحو غرض من الأغراض، سواء تحقَّق أو لم يتحقق، وهدف الفنان — وإن لم يبلغ النتيجة التي كان يرجوها برمتها — يتحقق إلى حد كبير؛ ومن ثَم فإن الأمر بالنسبة إليه مُنتهِ، والنقطة التي ينتهي عندها هي نقطة البداية عند المُشاهِد.»
– «هذا رأي أقبله إجمالًا، ولكني أُرجِّح أن بيتهوفن وفاجنر وبراهمز وجيته قد رضوا عن أنفسهم إلى حد كبير بما أنتجوه في السمفونية التاسعة «ترستان»، بالعزف على الكمان، أو «فادوست». ولا أقصد أنهم لم يتمنوا أن يكون العمل أفضل مما انتهى إليه، ولكنهم استطاعوا أن يُحِسوا أنه بلغ من الجودة الحد الذي يستطيعون، ولم يكن أمامهم بعد ذلك ما يُزعِج خواطرهم.»
وعلى مائدة الطعام تحدَّثنا عن تدخُّل الصحافة الأمريكية في حياة الأفراد الشخصية. قال: «إن الناشر الإنجليزي يستطيع أن يُوجِّه الخطاب إلى جمهور مُتماسِك لا بأس من ذوي الأذواق، ممن يسهل الاتصال بهم؛ ولذلك فإن الناس المُهتمين بكتاب له قيمة حقيقية يسمعون عنه، ويكفي عددهم لأن يجعل نشر الكتاب ذا فائدة. أما هنا، فإن الجمهور صاحب الذوق مُشتَّت على رقعة فسيحة، ولا تزال البلاد قليلة السكان؛ ولذا فلا مَناص للناشرين من إرسال المندوبين شخصيًّا إلى أماكن نائية على مسافات شاسعة، ويبدو أنهم يُحِسون في إعلانهم بأنه لا بد من أن تكون سمعة الكتاب أشد إثارة من الحقيقة. لا بد في أمريكا من إشاعة الحرارة في كل شيء، ومن بعث عنصر الإثارة فيه. إن جمهوركم في حقيقته أكبر من جمهورنا، ولكنه بالنسبة إلى مجموع السكان عندكم أقل منه عندنا بكثير، جمهورنا يبلغ نحوًا من خمسة وعشرين ألفًا، أما جمهوركم فأكبر عددًا ولكنه مُوزَّع؛ ويترتب على ذلك أن ناشري الصحف خاصةً بدلًا من أن يُخاطِبوا نخبة ممتازة تتقبل الروائع، لا بد لهم من تخفيف المادة وتمزيق المقال حتى يمكن توجيهه إلى جميع الطبقات، ويُؤدِّي ذلك إلى الهبوط إلى القاسم المشترك بين معارف الناس. أضِف إلى ذلك أنهم تورَّطوا في ارتفاع تكاليف الأنباء، بحيث أصبحوا يعتمدون على الإعلان للإنفاق عليها، ويُضعِف ذلك من استقلالهم.»
وتحدَّثنا كذلك عن الفجوة بين الشباب والشيوخ منذ الحرب، وقيل إنها أقل عمقًا بكثير في إنجلترا، وسألته عن رأيه فيما حدث هنا.
فقال: «إن الجيل الذي يبلغ أبناؤه اليوم الخمسين أو ما يُدانيها، كانت نشأته — فيما يبدو لي — شديدة الاضطراب، وإني حينما أُخاطِب جمعًا من الشباب دون سن الثلاثين ينتابني شعور بالاحترام القلبي لهم.»
وواصل حديثه قائلًا: «وأعتقد أن ذلك راجع إلى أن آباءهم قد فقدوا عقائدهم، ولكنهم ظلوا مُصِرين على صيغ السلوك البائدة كي يجعلوا أبناءهم «طيِّبين»، في حين أنهم هم أنفسهم لم يعودوا يثقون في هذه الصيغ البائدة. وقد كشف الأبناء حقيقة الأمر في النهاية، فخدعوا آباءهم بدورهم، فكانت النتيجة خداعًا في خداع؛ كانوا يعرفون أن دينهم القديم كان فارغًا، ولكنهم لم يُخلِصوا لأنفسهم ولا لأبنائهم في هذا، وكان أبناؤهم في تلك السنين فيما بين الثامنة عشرة والرابعة والعشرين، في السن التي يُمارِس فيها المرء لأول مرة الضرورات الحيوية، عاطفية وبدنية، فلبثوا في جهل تام بالنتائج الاجتماعية التي تترتب على ضروب مُعيَّنة من السلوك.»
كان يقول ذلك في طريق عودتنا إلى المكتبة بعد تناول العشاء. ولما استقرت رفقتنا، ألقى أحدهم بسؤال ظلَّ مُعلَّقًا أمدًا طويلًا: «لماذا لبث العلم في تقدُّم بخطوات واسعة منذ عام ١٩٠٠م في حين أن كثيرًا من الأمور الأخرى قد أخذ يتراجع؟»
قال: «من الأسباب التقدمُ العظيم في علوم الرياضة فيما بين عام ١٧٠٠م وعام ١٩٠٠م، فتوافرت به لرجال العلم أداة دقيقة مضبوطة يستكشفون بها عوالمهم الجديدة.»
– «ولكن لماذا كان هذا التقدم في القرنَين السالفَين، في حين أن الرياضة قد تطوَّرت تطورًا كبيرًا على أيدي اليونان منذ ستة وعشرين قرنًا على الأقل؟»
قال: «كانت مُستكشَفات الإنسان في الرياضة قبل ذلك تأتي عن طريق ملاحظة بيئته الطبيعية، فتتميز بذلك عن التعليل المجرد وتناقضه. لاحظ الإنسان فوق سهول كلديا النجوم تدور ثم تدور، فاستنبط فكرة الدائرة، وأخيرًا وصل إلى العجلة؛ ومن ذلك ترى أن العجلة ليست اختراعًا واضحًا كما يُظَن، وحتى القرن الخامس عشر حينما وجد الأوروبيون أمريكا، كانت العجلة لا تزال مجهولة في هذا النصف من الكرة الأرضية. والهندسة — قياس الأرض — قد تطوَّرت على أيدي المصريين بسبب حاجتهم إلى إعادة رسم الحدود التي يمحوها فيضان النيل السنوي.»
ثم قال: «ولكن حدثت فجوة طويلة فيما بين هذه المُستكشَفات القديمة التي استُنبطت من الخبرة المادية، والمُستكشَفات التي جاءت فيما بعد، والتي لم يمكن بلوغها إلا بالتعليل المجرد. كانت طريقة العدد الرومانية ثقيلة غير مُتقَنة، ولم تصِل إلى أوروبا طريقة العدد العربية — وهي أسهل في التناول — حتى القرن الثاني عشر، ولما وصلت إلى أوروبا جعلت صورها المُبسَّطة — التي يسهل على العين استيعابها — الرياضة في مُتناوَل عقول أكثر عددًا وأشد تنوعًا، ولما أشرف القرن السابع عشر على نهايته، بلغ هذا التقدم — الذي بدأ في النهضة الإيطالية — قمته عند نيوتن وليبنز، فتطوَّرت اللوغارتمات وحساب المثلثات والجبر، وانتهى العهد قطعًا بإتقان حساب التفاضل والتكامل، إن لم يكن باختراعها اختراعًا؛ فأصبح الطريق الآن مفتوحًا، منذ عام ١٧٠٠م إلى ما بعده، لتلك الجولة في الرياضة التطبيقية التي أمدَّت العلماء بوسيلة مركبة حساسة لخلق صيغ فكرية يُفسِّرون بها مُدرَكاتهم للظواهر الحسية.»
فعلَّقت بقولي: «ولكن مع تقديرنا للتقلبات التاريخية، وانهيار الإمبراطورية الرومانية، والعصور المُظلِمة، وما إليها، لا يزال من العجَب أن تحدث تلك النكسة الطويلة بعد تلك البداية المُبشِّرة في العالم القديم.»
فقال: «ما أكثر البدايات المُبشِّرة، ثم لا يُنفَّذ منها إلا القليل، وإن تتبُّع البدايات التي شرعها العلماء بكل ما تفرَّع منها لتستغرق مائتَي عام، ويمكن أن يتم ذلك على أيدي رجال أقرب في الحقيقة إلى رجال الصف الثاني، رجال ذوي عقول ذكية يستطيعون مُتابَعة طرق مُعيَّنة داخل دائرة محدودة، ولكنها ليست عقولًا مُبتكِرة، وقد تنسم أعمالهم بطابع الابتكار، ولكنها محدودة جدًّا؛ فهي قد لا تُمثِّل جزءًا من ألف من التجارب. لقد بلغ العلم حدًّا يستطيع معه أن ينقل هذه السهولة في البحث، ولكنه بحث ذو قيمة ثانوية، ليس بحاجة إلى رجل مثل شكسبير ليقوم به؟»
– «هل تريد بذلك أن تقول إن مُبدِعي العلوم الحقيقيين في ندرة شكسبير؟»
– «إنما أردت أن أقول إن كثيرًا من الناس، ومن بينهم المُبرِّزون منهم، ممن يُعَدون من العلماء، لا يعدُون في الواقع أن يكونوا مجرد تقنيين (أي ماهرين في الصناعة)، إننا لا نظفر بعالم حقًّا إلا مرة في كل جيل طويل.»
– «وكيف يمكن أن ترتفع الخبرة إلى مستوى الوعي وتنتقل من اللاوعي إلى صيغة فنية؟»
– «أنت تتكلم كلامًا مُمعِنًا في التعقل. إنها في أول الأمر خبرة فنية، يشتد الإحساس بها — خبرة عاطفية مشوبة بتصورات ذهنية — ثم تتطلب بعد ذلك صياغة فنية مُعيَّنة.
ومشكلة المبدعين اليوم هو محاولتهم استبدال الفكرة العقلية بالخبرة الفنية. إنهم يُفكِّرون على هذا النحو: «أليس مما يُثير الحس أن تُعالِج هذا الموضوع بهذه الطريقة، وهي طريقة لم يُحاوِلها أحد من قبل؟» بيدَ أن الجِدة عديمة الأهمية، وكل ما له أهمية هو عمق الخبرة التي يصدر عنها الفن وصلاحيتها؛ فإن صدرت عن مجرد استدلال منطقي بارع واعٍ كان مقضيًّا عليها بالفشل، إنك حينئذٍ تُعالِج تصورات ثانوية وخبرة ضحلة نسبيًّا، إنها لا تحمل طابع الحق العميق.»
– «كنت منذ برهة تتحدث عن غربنا الأوسط، وتقول شيئًا عن …»
وقاطعني بشدة قائلًا: «كانت ملاحظتي أن المكان الوحيد الذي أعرف أن الإنسان الأوروبي يستطيع حتى الآن أن يُنشئ فيه الحضارة على نطاق واسع هو الغرب الأوسط في أمريكا.»
– «بين جبال أبلاش وجبال روكي؟»
– «نعم، حوض المسيسبي، على وجه التقريب.»
– «ولماذا لا تكون المناطق الساحلية، على الأطلنطيق والمحيط الهادي؟»
– «إنها مجرد ناقلة للثقافة، وثقافتهم أقرب إلى الاشتقاق. أما في الغرب الأوسط، فالجوُّ والتربة والطعام كلها مُلائمة، وهي عناصر ثلاثة لازمة لازدهار الحضارة. إن محاولات الإنسان الأولى في الحضارات المُدوَّنة في التاريخ قامت في الأجواء الحارة حيث يتوافر الطعام، وحيث تكاد لا تنشأ الحاجة للملبس والمأوى؛ فقد قامت الحضارة الهندية إلى حد كبير على الرز، كما نشأ مجتمع مُتمدِّن فيما بين النهرَين على الغلة، وفي مصر توافر البلح، وفي أمريكا الوسطى والجنوبية توافر للأزانقة والأنكا الذرة والموز، بيدَ أن زيادة السكان، التي ربما كان السبب فيها رخص الطعام، هبطت بقيمة العمل وأفسحت الطريق للاستبداد السياسي، وبالرغم من أن الثروة — ومن ثَم الفراغ اللازم للثقافة — ربما تنشأ من العمل البخس، إلا أن ما ينجم عن ذلك من فقدان الحرية يُبلِّد الذهن. وكان من نتيجة ذلك أن مدنيتنا الشمالية في أوروبا، حيث الجو أشد برودة، وحيث الحصول على الطعام والملبس والمأوى أكثر مشقة، وحيث تكاثُر الجنس البشري أقل غزارة — ولكن الفردية أشد وضوحًا — هذه المدنية اجترأت على التفكير العقلي، وكان التفكير فيها أقل تقيُّدًا بالخرافة الدينية، فأنتجت أخيرًا ذلك المخلوق المُتوافِر النشاط، المعتمد على نفسه، وأعني به الإنسان الأوروبي.»
– «إن كل نوع من أنواع الإنسان الأوروبي تقريبًا يُوجَد في مكانٍ ما في غربنا الأوسط.»
– «بل إن به بيئة بشرية أشد ملاءمة لحضارة جديدة؛ فالإنسان هناك ليس من سلالة مختارة فحسب، بل إن أهل الريف والمدن الصغيرة لا يزالون يُكوِّنون نسبة كبرى إذا قُورِنوا بسكان المدن؛ وذلك مما يُعاوِن على نشر الحضارة. إن خير تفكير الإنسان ما يقوم به إما أفراد يقطنون الريف وإما في جماعات صغيرة، وإما أولئك الذين نشئوا في مثل هذه البيئة في حياتهم الأولى، ثم عزَّزوا تجاربهم بعد ذلك بالحياة في المدن؛ لأن المطلوب هو الاحتكاك بعمليات الطبيعة الأولية إبان سنوات الشباب حينما يكون العقل في دور التكوين.»
قلت: «لاحظت مرارًا عند الموازنة بين أطفال الريف أو أطفال المدن الصغرى، وأطفال المدن أو الأطفال الذين نشئوا في الضواحي، لاحظت أن الصبيان الذين نشئوا في الريف أكثر اعتمادًا على أنفسهم وأوفر مادة. هب أنهم يفقدون وظائفهم، عندئذٍ تجد أن الشباب من المدينة أو من الضواحي، الذي ينتمي عادةً إلى طبقة الموظفين، مُضطرِبًا، يشعر بالعجز، في حين أن الشباب الريفي يتقبل الموقف ببرودة شديدة. أي عسر أمامه؟ لقد كان يكسب عيشه بالعمل بيدَيه، وهو يستطيع أن يعمل بيدَيه مرة أخرى إن اقتضت ذلك الضرورة.»
وواصل هوايتهد حديثه قائلًا: «إن التمدين (حياة المدينة) نقطة ضعف في كثير من نواحي تفكيرنا الحديث، وبخاصة في المشكلات الاجتماعية. إن التفكير مُستمَد أساسًا من المدن، في حين أن المدن ربما لا تهتم كثيرًا. إن المسرحيات البارعة تُكتَب للمُشاهِدين المُستهتِرين في المدينة، والشعر الفريد والروايات الشائعة تُؤلَّف عن ساكنِي الطرقات المزدحمة، الذين يبعدون أكثر العام — لسوء حظهم — عن الاتصال بالتربة، وبالغابات، والبحار، والذين ربما لم يقوموا بعمل يدوي شاقٍّ يومًا واحدًا في حياتهم، والذين قد لا يُحِسون إلا إحساسًا ضعيفًا بتقلبات الجو ذاتها. إنهم محرومون من ذلك النظام الذي يفرضه الاتصال اليومي بنمو المحصولات الطبيعي، والذي يفرضه القلق الذي ينجم عن خضوع هذه المحصولات لرحمة أهواء الطبيعة، وهم محرومون كذلك من تلك التجربة التي تبعث الطمأنينة في النفوس، ألا وهي جود الطبيعة في نهاية الأمر.»
وعلَّقت بقولي: «منذ وقت ليس ببعيد كنت أقرأ المناظر الخاصة بالحانات في جزئَي «هنري الرابع». إن هاتَين المسرحيتَين صدرتا في أوج عصر إليزابث بإنجلترا، ولم يسعني إلا أن أتأمل دائمًا جلال اللفظ فيهما، والمسرحيتان تستمدان مادتهما من الحياة العادية، وكثير من المادة مُستمَد من الريف ومن حظائر لحيوانات، ولما كانت خبرتي بالحظائر واسعة منذ الطفولة، أحسست كأن رائحة الحظائر تفوح صادقة من ألفاظ شكسبير. وعلى أية حال فإن مثل هذه الكتابة لا بد أن تصدر عن الريف — كما قلت — ولا يمكن أن تصدر عن أي مكان آخر.»
ووافقني على ذلك هوايتهد قائلًا: «أجل، وأعجب من ذلك أني لا أعتقد أن شكسبير كان يتصيد الألفاظ في أي موقف من المواقف. هل يمكنك أن تتخيله يقرض طرف قلمه مُفكِّرًا في الكلمة الملائمة؟ إن لديه من الخصوبة ما يجعل الكلمات تتدفق من تلقاء نفسها — فيما أظن — بمجرد تخيُّله المنظر واضحًا. ويجب أن تذكر أن هذه القوة العارمة قد سادت إنجلترا كلها في عهد التيودور. ولو اجتمعنا معًا مرة في كمبردج أود أن أصحبك إلى الحجرة العامة في كلية ترنتي، ففيها ستجد صور مُوظِّفِي الكلية منذ نشأتها، وقد أسسها هنري الثامن؛ ستجد أولًا التيودور والإليزابثيين الذين يفيضون حماسة، ثم البيورتان الأشداء، ثم أبناء القرن الثامن عشر الذين تدب فيهم الحياة. أما في القرن التاسع عشر فستجد العالم والرجل المُهذَّب، وفي القرن العشرين تجد العالم وتفتقد الرجل المُهذَّب.»
وامتعضت مسز هوايتهد، ولكنه لم يعبأ بامتعاضها.
– «إن التدريب العقلي الذي اجتازه الملوك التيودور لا بد أن يكون قد هيَّأ أذهانهم للحكم. ولقد كانت تربية إليزابث أشمل تربية تستطيعها أوروبا؛ كانت تألف اليونانية واللاتينية أثناء زياراتها لجامعات أكسفورد وكمبردج، كانت تقرأ الإغريقية كل صباح مع مُربِّيها، روجر إسكام، بادئة نهارها بالنص الإغريقي للكتاب المقدس، ثم تقرأ بعد ذلك وتترجم مُؤلِّفين قدامى من أمثال سقراط وسوفوكليز وديموستنيز، وكانت تُنفِق الأصائل في اللاتينية، وقد قرأت كل شيشرون تقريبًا وجانبًا كبيرًا من ليفي. ولما وجَّه إليها السفير البولندي خطابًا مُهينًا باللاتينية — وقد أراد أن يُسيء إليها — ظانًّا أنها تستطيع أن تفهم ومُفترِضًا أنها لا تستطيع أن ترد عليه بلغته، لما فعل ذلك أجابته بكلام مُهين فظيع استغرق نصف ساعة، وكان باللاتينية!»