المحاورة السابعة
١٩ من مارس ١٩٣٦م
عند تناوُل العشاء — وكنا ثلاثة فقط — سألوني رأيي في المناوشات الأوروبية، قلت: «إنها ليست حربًا، أو إنها ليست كذلك الآن على الأقل.»
فقال الأستاذ: «إن الدبلوماسية الجرمانية فعالة. إنهم يحسبون أنفسهم أبطالًا خياليين. استطاعوا في عام ١٩١٤م أن يسبقوا العالم بمراحل دون قتال، ومع ذلك فقد أوجبوا على أنفسهم القتال. وإني لأتخيل أن رجال الصناعة عندهم قد أدركوا سخف هذا الاتجاه، ولكنهم خضعوا حينما استطاع رجال الحرب — كما حسبوا — أن يُثبِتوا أنها لن تدوم أكثر من ستة أسابيع أو ستة أشهر. وهل يطرأ لك أن نصف قرن من موسيقى فاجنر قد يكون له أثر كبير في وقوع هذه الكارثة؟ لقد كان أفلاطون يعرف ما يتحدث عنه حينما قال: إن «من الموسيقى ما يُجافي الأخلاق.» إنها لا تتمشى مع قواعد الأخلاق. صحِبتني مرة إلى كارمن فتاةٌ صغيرة جميلة كي أستمع إليها في حفل عيد ميلادها. ولما انتهى الأداء، أذهلتني بسؤالها: «هل كانت كارمن حقًّا امرأة لطيفة؟» إن السؤال لم يطرأ لي من قبل قط.
فالمرء يستمتع بالموسيقى وينبذ أحكامه الخلقية السابقة. والألمان عاطفيون وحساسون للموسيقى، وفاجنر يستهويهم لافتخارهم بعنصرهم. وإني لأجرؤ على القول بأنه لو أقيمت بإنجلترا سلسلة من الأوبرات الفاخرة المُذهِلة حقًّا، ذات الموسيقى الرائعة والعروض البعيدة، مُمجِّدة إنجلترا من عهد التيودور حتى عام ١٩١٤م، أقول بأن هذا يستطيع في جيل واحد أن يُحطِّم العبقرية الإنجليزية في الحكم الذاتي السياسي.»
ولم أشَأ أن أُؤمِّن على هذا بأكثر من قولي: «إن الفكرة تدعو إلى القلق.» ولكني إمعانًا في الصراحة زدت على ذلك قولي: «لعلك تعلم أني قد حضرت الحفل في بيروت في يوليو من عام ١٩٣٣م، وكانت الذكرى الخمسين لوفاة فاجنر، ولقد حضر الشيطان أيضًا؛ جاء هتلر، وحضر ست حفلات في ثمانية أيام، كما حضر الأوبرات الأربع؛ رنج وميشتر وسنجر وبارسفال، ثم جلس في مقصورة فاجنر في فستسبيلهاوس مع فراو وينفرد، أرملة سيجفرد، وكان قد استولى على الحكم منذ يناير فقط، وكانت النازية لا تزال في شهر العسل. جاء واتجه إلى ما بين المسرح والطعم بين صفَّين من الألمان، كل واحد منهم يستطيع أن يطعن بخنجرَين جنبَيه ويقضي عليه. وكان نضر البشرة، بُنِّي الشعر، لا تلحظه إذا مشى في الطرقات، وقد جلس في دار الأوبرا، يومًا بعد يوم، يحضر حفلًا في أثر حفل، وتعجَّبت في ذلك الحين ماذا عساه يستمد من تلك الحفلات!»
فقال هوايتهد: «رأينا بعد عامٍ تطهيره الدموي الأول.»
وما دام الفنانون لا يُلامون على طريقة استغلال أعمالهم، فقد تخلَّينا عن الحديث عن فاجنر إلى حين.
وبعد العشاء عدنا إلى المكتبة، وقد أُسدِلت فوق النوافذ الستائر الثقيلة السوداء المصنوعة من المُخمَل، وكانت نار الحطب تشتعل في الموقد تعلوها مدخنة سوداء.
وكانت مسز هوايتهد في زيها الأسود والأبيض المعهود، فبدت أنيقة ممتازة.
وكان هوايتهد يتحدث عن كيفية استكشاف الموهبة، وعما ينبغي عمله بها بعد استكشافها.
قلت: «أليس بعض العصور وبعض الحضارات مُواتيًا لتطوُّر نوع مُعيَّن من المواهب؟ ثم أوَليس من المُستحَب أن نخلق حضارة تُلائم جميع أنواع المواهب؟»
فابتسم في خبث وقال: «أعتقد أن أقصى ما نتطلب من الحضارة ألا تسحق كل نوع من أنواع المواهب.»
فسألته: «ألست ترى أننا نحن النورديين من النوع الذي يزدهر بعد وقت طويل؟ وإذا لم تُعجِبك كلمة النورديين (وقد فاحت رائحتها على أيدي بعض الناس) فلنستبدل بها الأوروبيين الشماليين. ألسنا ننضج أبطأ مما ينضج غيرنا؟ في حداثتنا على الأقل نرى الأحداث اليهود قادرين على التفوق علينا تفوقًا ساحقًا.»
ووافقاني على هذا الرأي، وأخذنا نبحث في النضج المُبكِّر برهة من الوقت.
قال هوايتهد: «ولكنك حينما تلتقي بهم وهم طلاب، يشق عليك أن تعرف أي العوائق تفرضها عليهم كي تُسوِّي بين اتجاه أولئك الذين يُبكِّرون في نضجهم وبين العقول التي ربما كانت أشد عمقًا، ولكنها تنضج أشد منها بطئًا. إنك بحاجة إلى أن تعرف الطالب أولًا بنفسك، ثم أنت بحاجة بعد ذلك إلى أن تعرف ما يرى الآخرون في قدراته، وأنت بعدئذٍ بحاجة إلى أن تعرف أولئك الآخرين كي تُدرِك لماذا يرون فيك رأيًا مُعيَّنًا؟»
فسألته: «ألا ترى أن البحث العلمي في ألمانيا برغم طول باعه في الدرس وبرغم عمقه، مُتخلِّفًا بعض الشيء في البداهة ذات الخيال البعيد؟»
قال: «يستطيع البحث العلمي (الذي يستند إلى دراسة القديم) أن يُوجِّه إلى نفسه ثلاثة أسئلة؛ أولًا: «ماذا كان يعني بالضبط مُؤلِّف من المؤلفين القدامى عندما كتب بضعة ألفاظ بعينها، وماذا بالضبط كانت تعني تلك الكلمات لمُعاصِريه؟» (وذلك ما كان البحث العلمي يقوم به على نطاق واسع خلال القرن التاسع عشر.) ثم يسأل نفسه بعد ذلك: «ما هي وأين تُوجَد تلك الومضات التي تدل على البداهة في عمل عبقري من العباقرة يرتفع به عن زمانه إلى جميع الأزمان، تلك الومضات التي تكون دائمًا شاذة في زمانها، بمعنى أنها لا ترتبط بزمان من الأزمنة؟» (وهذا ميدان لا يجول فيه الدارسون الباحثون كثيرًا، وهو مجال قلما يجد البحث العلمي نفسه فيه مُطمئنًّا.) وأخيرًا هذا السؤال: «كيف نستطيع أن نُخلِّد وأن ننشر هذه الومضات العبقرية النادرة التي ارتفعت فيها الإنسانية عن نفسها، كما لم تفعل في أي مجال آخر؟»»
– «إن الدراسة الإنجليزية الكلاسيكية تفضُل في هذا دراستنا. في العقد الأول من القرن الحالي كان عندنا هنا في هارفارد جماعة من خيار الأساتذة وبخاصة في قسم الدراسات اليونانية، وكان هربرت ويرسمث حينئذٍ حجة في أيسكلس، وقد ألحقوني بهذا القسم أربع سنوات، وسُرِرت بهذا اللحاق، فدرست الشعر والتاريخ والفلسفة والدراما، ولكني لم أبدأ في فهم ما تعنيه الأفكار الهلينية العظيمة إلا بعد اثنَي عشر عامًا، وكان من وجَّهوني هذه الوجهة هم مري ولفنجستون وزيمرن وكورنفورد وكاسون وزمرتهم، وقد ترد عليَّ بقولك إني بذلك قد أوضحت قضيتي وإني كنت بحاجة إلى اثنَي عشر عامًا أو أربعة عشر عامًا أخرى؛ لأني من الذين لا ينضجون إلا بعد وقت طويل جدًّا. بيدَ أن نفس الشيء قد حدث لغيري ممن أعرف.
وأخذوا يُنقِّبون عن نماذج للنضج المُبكِّر بين الأوروبيين الشماليين؛ فذكروا كيتس وشلي بطبيعة الحال، ثم موزار ومندلسن، بيدَ أن هوايتهد كان يعتقد أنه بالرغم من كونهم نماذج شائقة، إلا أنه لا يصح أن نعدَّهم مُمثِّلين لغيرهم، ويرجع ذلك إلى حدٍّ ما إلى أن من خصائص الموسيقى والشعر العجيبة أنهما يبلغان حد الإجادة على أيدي الشباب.»
ثم باغتني بحدة سائلًا: «أين مُلحِّنوكم الأمريكان، برغم حبكم العنيف للموسيقى؟»
وكانت العبارة التي صيغ بها السؤال تدعو إلى الحيرة؛ لأنه لو كان لدينا مُلحِّنون من مستوى الألمان العظام، غير مُنازَعين، ما وجَّه إليَّ السؤال. وكان ما جادت به قريحتي للرد عليه هو أن هذه الفن — فن تلحين السمفونيات، الذي تطوَّر في القارة الأوروبية في القرنَين أو الثلاثة قرون الماضية — دخل أمريكا بعد ما بلغ قمة التعقيد؛ ومن ثَم فإن مُلحِّنينا بدلًا من أن يبدءوا من حيث بدأ الأوروبيون — في بساطة — بدءوا بالتعقيد، وحاولوا أن يزيدوه تعقيدًا، وربما كان من سبق الأوان أن نحكم أكان ذلك نجاحًا أو فشلًا.