مقدمة
هذه صفحات مختارة من فنِّ القصص في الأدب الروماني تُمثِّل ألوانًا مختلفة من هذا الفن عند شعب صديق يُشبه في كفاحه من أجل التحرر والوعي بذاته شعْبَنا العربي إلى حدٍّ كبير، بل ربما كان كفاحه أكثر عنفًا وضراوةً، حتى بالنسبة للغته القومية والاحتفاظ بمقوِّماته الأصلية.
فالشعب الرومانيُّ الأصليُّ جاءته اللغة اللاتينية مع الغزو الروماني، وتطوَّرت تلك اللغة كلهجة محلية حتى أصبحت ما يُعْرَف اليوم باسم اللغة الرومانية، ولكنَّ هذه اللهجة التي أصبحت لغةً لم تتم وتتطور وتستقر بغير عوائق وهزَّات أتتها من غزوات جيرانها وسيطرتهم على البلاد بعد تضعضُع الإمبراطورية الرومانية؛ فتعرَّضَتْ تلك اللغة لمؤثرات سلافية عميقة، ثمَّ لمؤثرات تركية قد تكون أقل عنفًا واتساعًا، ولكنها مع ذلك عاقت نموَّ اللغة القومية وأصابتها بالبلبلة؛ نتيجة لاحتلال تركيا لرومانيا قرونًا طويلة، ولكنَّ الشعب الروماني الأصيل استطاع بالرغم من كل ذلك أن يستردَّ المقومات الأساسية لقوميته وفي مقدمتها اللغة، وكان ذلك بنوعٍ خاصٍّ وبشكلٍ واضح في القرن التاسع عشر، فإنَّ ظهور القوميات في أوروبا نتيجة للروح الثورية التي اشتعلت بكلِّ بلدٍ من بلاد أوروبا في ذلك القرن.
وإذا كان الشعب الروماني في مرحلة كفاحه من أجل قوميته الأصيلة، وتدعيم هذه القومية بكل دم قوي سليم قد تعرَّض في ثقافته وأدبه وفنِّه إلى مؤثِّرات غربية قوية؛ كالمؤثرات الألمانية والفرنسية وغيرها، فإنه لم يلبث ابتداءً من منتصف القرن الماضي تقريبًا أن تخطَّى تلك المرحلة أيضًا ليعتمد على نفسه، ويبحث عن أصالته الخاصَّة، وقاد هذه الدعوة عدد من أدباء رومانيا ومثقَّفيها الذين التفُّوا في مقاطعة مولدافيا — بنوع خاص — حول المجلة التي أصبحت من مشاعل تاريخ الثقافة والأدب والفن في رومانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي مجلة «داسيا الأدبية»، ورأى هذا النفر من الأدباء والفنانين أنَّ طريقَهم إلى الأصالة هو العودة إلى ماضيهم القومي، ويوميات مؤرخِّيهم الأوائل بلغتهم الرومانية النقية من جهة، واستحياء آدابهم الشعبية من جهةٍ أخرى، باعتبار أنَّ تلك الآداب هي التي تُعبِّر عن الروح الأصيلة للشعب وتقاليده، ومواضع اهتمامه بطريقة تلقائية نابعة عن طبيعة الحياة، وغير متأثرة بالثقافات والتيارات والآداب والفنون الوافدة من الخارج، والتي تؤثِّر بنوعٍ خاص في المثقفين لا في أدباء وفنَّاني الشعب.
وأخيرًا دراسة واقع الحياة الرومانية المعاصرة والكشف عما فيها من مظالم ومساوئ، وتصوير مشاهد الطبيعة وحياة البشر المرتبطة بتلك المشاهد، والمتأثرة بها والمؤثرة فيها، وهذه هي التيارات الثلاثة التي سيجدها القارئ في هذه المختارات التي يرجع أقدمها إلى أبعد من سنة ١٨٤٠؛ أي التي تقع كلُّها في الفترة الحديثة التي أخذت فيها رومانيا تكتشف نفسها، وتستكمل مقوِّمات أصالتها.
(١) مادة القصص
ففي هذه المختارات سيلتقي القارئ بالتيار التاريخي في مثل قصة «ألكسندرو تابو شنيانو» للكاتب «كونستنتين نيجروزو» التي استقى مادَّتها من كُتَّاب اليوميات القدماء، وصوَّر فيها ذلك الصراع الدامي الذي كان يجري بين الأمراء في العصر الإقطاعي للسيطرة على الحكم، ويرسم فيها لوحةً داميةً لمذبحةٍ فظيعةٍ دبَّرها أحد هؤلاء الأمراء لمنافسيه على نحو ما فعل محمد علي بالمماليك في مذبحة القلعة الشهيرة في تاريخنا الحديث، بل وأشدَّ ضراوة، وقد أعمل المؤلف في تصوير هذه اللوحة خيالًا قاسيًا تهتز من حوله أصلب الأعصاب.
وفي هذه المختارات يلتقِي القارئ بالحكاياتِ الشعبيةِ التلقائيةِ التي قد لا تكون فيها الحبْكة الفنيَّة، ولكن فيها سخر السذاجة وعصير الحياة الشعبية النضرة في مثل قصة «الأب نيكيفور الحلنجي» للكاتب «إيون كرييانجا» الذي تقرأ قصته الشعبية فيُخيَّل إليك أنَّك تسمع متحدِّثًا شعبيًّا خفيف الروح، ولا تقرأ لكاتب محترف.
وبالمثل في قصة الكاتب الكبير «كاراجيالي» التي سمَّاها «فندق مانيوالا»، وصوَّر فيها نزوات النفس الفطرية ومغامراتها، التي لا تُحِسُّ فيها بأي افتعال أو تصنُّع، وتُوهِمُك بأنَّها من صميم الواقع الممكن الحدوث في الحياة التلقائية ومصادفاتها العجيبة ومعتقداتها الساذجة.
وإلى جوار القِصص التاريخية والفولكلورية، سيلتقي القارئ بالتيار الواقعي الفني المحبوك الذي يرسم صورًا أخلاقية دقيقة مكتملةَ القسمات، مجسَّدة في شخصية نموذجية، مثل: شخصية «الحاج ديدوز» للكاتب «باربودي لافرانكيا» التي يجسِّد البخل على نحوٍ لا يقلُّ دقة وشمولًا وثراءً في التفاصيل عن شخصية «هارباجون» عند «موليير»، و«إيوجين جراندين» عند «بلزاك».
حتَّى إذا انْتَقَلْتَ إلى الكاتب «تيودور أرغيزي» التقيت بالمُنَمْنَمات؛ أي: اللوحات الفنية الصغيرة الشاعرية الروح والأسلوب في مثل لوحاته عن «القط» و«شجرة العرائس» و«سن سعيد» و«خطاب عائلي» و«رجل مسكين» و«ماريا نيكيفور»، وهي لوحات تتفاوت بين المثالية العاطفية المرهَفَة في تصويره الشعري للقِط، ولحياته في المنزل وللأطفال، وبين الواقعية النقدية الحادَّة في مثل لوحات «الرجل المسكين» و«ماريا نيكيفور»، وهذه اللوحات لا نعتبرها قصصًا إلا تجاوزًا؛ لأنها في الواقع وكما قلنا منمنمات؛ أي: ميداليات فنية صغيرة مطرَّزة في دقة وشاعرية ساحرتين.
ولمَّا كانت البيئة الزراعية أسبق إلى الوجود في رومانيا — التي كانت أولَ الأمر تعتمد في حياتها على الزراعة قبل كلِّ شيء — فقد كان من الطبيعي أن ينصرفَ اهتمامُ الأدباء والفنانين أولَ الأمر إلى هذه البيئة ومشاكلها وويلاتها، عندما أدرَكوا أنَّ واقع حياتهم هو المنبع الثريُّ الذي ينبغي أن يُمْنَحوا منه، ومن هنا جاءت قصص مثل: «أمطار يونيو» للكاتب «ساهيا» التي تُصوِّر كفاح الفلَّاحين الرومانيين، وشجاعة المرأة الرومانية التي تلد في الحقول في تجلُّد، وهي تعمل كادحةً مع زوجها في سبيل لقمة العيش وسط الطبيعة المتجهمة وضغط السلطات الحاكمة وقسوتها، بل وتلد توأمين؛ فيبلغ عددُ أطفالِها التسعةَ، وزوجُها لا يملك إلا قطعةً صغيرةً من الأرض لا يدري كيف يُشبِع بها أحدَ عشر فمًا جائعًا، وهي قصة بالغة القوة والإثارة ورائعة البنان الفني والتعبير الموحي.
ولمَّا كانت رومانيا قد أخذت تتصنَّع — وبخاصةٍ في القرن العشرين — بعد اكتشاف ثروتها المعدنية الضخمة — وبخاصةٍ آبار البترول الغنية — فقد كان من الطبيعي أن يمتدَّ اهتمامُ أدبائها وفنَّانِيها إلى البيئة العمالية الصناعية الجديدة، ومن هنا أخذ يظهر هذا النوع من القصص في مثل الفصل الذي ترجمناه من رواية «الذهب الأسود» للكاتب «سيزار بترسكو»، وهو كاتب تقدُّميٌّ مناضِلٌ صوَّر في روايته الصراع العنيف بين الشعب الروماني ورأس المال الأجنبي المستغلِّ الذي وفد إلى رومانيا للسيطرة على ذهبها الأسود؛ أي على ينابيع بترولها الغزيرة.
ولمَّا كانت حياة الإنسان العاطفية لا بدَّ من أن يكونَ لها نصيبها في كل إنتاجٍ أدبيٍّ فنيٍّ، وفي أيَّة صورة اتخذها هذا الإنتاج، فقد كان من الطبيعيِّ أن نلتقي في فنِّ القصص الروماني أيضًا بالقصص ذات الطابع العاطفي الخالص في مثل قصة «شجرة الليلا» التي تكوِّن فصلًا من رواية «الجذوع مُرَّة» للكاتب «زهاريا ستانكو» الذي عَرَفَ كيف يمزج في قصته بين المأساة العاطفية الخاصَّة لبطلها وبطلتها، وبين ويلات الحرب ومآسيها المُفْجِعة، وفي مثل قصة «كيراكيرالينا» الرائعة للكاتب بنيات إستراتي، التي مَزَجَ فيها المؤلف بين صورة عاطفة الصداقة البريئة المخلصة بين فتًى رومانيٍّ شريدٍ وبائع يوناني متجول التقى به في بلاد الشرق، وبين صورة حياة هذا الشريد الشقية المُعذَّبة؛ نتيجةً لظلمِ وانحلالِ كبار أثرياء الإمبراطورية العثمانية وتجارتهم بالرقيق الأبيض الذي وقعت بين براثنه «كيراكيرالينا» أخت هذا الشريد، وخرج المؤلِّف من المزج بين الصورتين المتقابلتين المتداخلتين بلوحة متكاملة موحَّدة تهزُّ أعماقَ العاطفة الإنسانية الشريفة.
(٢) الأشكال الفنية
أي اعتبروا كلَّ قصةٍ متوسطة الطول داخلةً فيه، مع أنَّه من الواجب فنيًّا ولتمييز هذا النوع من غيره من أنواع القصص أن يحتفظ له بطابعه الإخباري، وعندئذٍ كُنا نستطيع أن نُترجمَ هذا المصطلح إلى العربية بعبارة القصة الإخبارية متخذين لها نماذج من قصص «بروسبير ميرميه» التي كتبها في هذه الصورة، مثل: «كولومبا» و«ماتيو فالكوني» وغيرهما.
ومهما تكن الاختلافات الشكلية الاصطلاحية، فإنَّ هذه الصفحات من فنِّ القصص الروماني تُكوِّن نماذج رائعة للفنِّ القصصي كله مهما اختلفت صوره وأبعاده، وهي تعطي فكرةً واضحةً متكاملةً عن اتجاهات هذا الفنِّ ومنابعه وأهدافه ومواضع اهتماماته.
(٣) أوجه شبه
والقارئ العربي — فضلًا عن المتعة الثقافية والفنية التي سيجدها عند قراءة هذه الصفحات المختارة — فإنه لن يعدِم الوقوع على أوجه شبهٍ بين حياة شعبنا العربي وكفاحه واتساع اهتماماته وبحثه عن أصالته الخاصة، وبين حياة الشعب الروماني وكفاحه واتساع اهتماماته هو الآخر وبحثه عن أصالته الخاصة.
وإذا كُنْتُ لم أقرأ حتى اليوم لأحدِ أدبائنا تصويرًا لمذبحة المماليك في القلعة — مثلًا — على نحو ما قرأتُ هنا قصة الكاتب «نيجيرتسو» عن مذبحة «ألكسندرو لابونشيانو»؛ فإنَّني قد وجدت مع ذلك ما يشبه هذا الفنَّ القويَّ في مثل قصة «العسكري الأسود» للدكتور «يوسف إدريس»، كما أنني ألاحظ أنَّ فنَّنا القصصي يمر اليوم بنفس المراحل والتطورات والاهتمامات التي مرَّ بها الفنُّ القصصي الروماني عندما أخذ يعود إلى ماضيه في القصة التاريخية منذ «جورجي زيدان»، ثم عندما أخذ يتجه إلى حياتنا الريفية بأسلوب يجمع بين الرومانسية العاطفية والواقعية في قصة «زينب» «لمحمد حسين هيكل»، وأخيرًا اتجاه أدبائنا نحو مشكلات ومعارك الفلَّاحين في مثل قصة «الأرض» «لعبد الرحمن الشرقاوي»، وكفاحنا الوطني في «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، وفي الفترة الأخيرة اهتمامنا بالآداب الشعبية وجمعها وتسجيلها، ودراستها كأساس لاستيحائها في أدبنا الجديد الذي أَخَذَتْ طلائعه تظهر.
ويسرُّني أن ألاحظَ أيضًا أن حركة التصنيع القائمة الآن على قدمٍ وساقٍ في بلادنا لا بدَّ أن تخلقَ عما قريبٍ الأدبَ الذي يعالج حياة الطبقة العاملة وكفاحها الصناعي، ومشاكلها الخاصة على نحوِ ما حدث في الأدب الرومانيِّ سواءً بسواء.
وهكذا أرجو أن يُفِيدَ عملي المتواضع في ترجمةِ وتقديمِ هذه المختارات إلى قُرَّاء العربية فائدةً تجمع بين المتعة الفنية الخالصة وإبراز أوجه الشبه والالتقاء والتقارب بين كفاح الشعوب النامية وبحثها عن ذاتها.