باربي ديلا فرانسيا (١٨٥٢–١٩١٨)
ينحدر ديلا فرانسيا من أسرة ريفية من البرجوازية الصغيرة؛ ولذلك احتفظ دائمًا بالحنين إلى الحياة الريفية، يوجه به ما تثيره في نفسه ضجَّة العاصمة من مضاضة، وبالرغم من أنَّه كان محاميًا وخطيبًا كبيرًا ونائبًا في البرلمان ووزيرًا، إلا أنَّه يدين بشهرته لعمله الأدبي، فقصصه وحكاياته التي ابتدأها في سنة ١٨٨٣ بقصة «سلطانيكا» تبعث الحياة في القرية الرومانية بكل ما فيها من شعر وصراعات درامية، وأمَّا عندما يصوِّر أخلاق المدينة، فإنَّه يستهدف الكشف عمَّا فيها من فساد ورذائل على نحو ما فعل في قصص «لانكوموروا» و«الطفيليون» و«السيد موكيا»، و«الحاج تودوز»، و«اليوم السابق على الانتخاب» … إلخ، وأحيانًا يتحوَّل ديلا فرانسيا إلى شاعر مرْهَف في حكاية الذكريات على نحو ما فَعَلَ عندما قصَّ — في رشاقة وعاطفية — ذكريات طفولته في «الجد» و«الجدة».
وإذا كان نشاطه العامُّ والسياسي قد استغرقه، فإنَّه قد عاد إلى الأدب حوالي سنة ١٩٠٩؛ لكي يقدِّم إليه «أغنية البجع» والثلاثية المسرحية «الغروب» و«العاصفة» و«إبريون»، وهي مسرحيات تاريخية استوحاها من أحداث حكم إيتيين الكبير وخلفائه، وهذه الثلاثية لا تزال تُعتَبر من روائع الأدب الدرامي الروماني.
(١) الحاج تودوز
١
عندما تعبُر حيَّ الصليب الحجري تجد نفسك في شارع فيتان، حيث تنهض على يساره كنيسة سانت ترينيتيه، وهي كنيسة بالغة الجمال من الداخل ومن الخارج على السواء، ولا يمكن أن تتمتَّع بمثل هذا الجمال إلا في الكنائس القديمة، وعندما تُلقِي السمع إلى ما يقوله القُسُس، وبخاصةٍ المتقدِّمون منهم في السن، وعندما ينزل بك الدوار مما يقولون من عبارات الإعجاب، وهم يزعمون أنَّ أصابع أيديهم لا تكفي لكي يعدُّوا العجائب التي يزخر بها هذا المكان المقدس، وعندما يتوه عجائز «السانت ترينيتيه» في حسابهم يحتدم بهم الغضب، بل ويعضُّون أصابعهم من الغيظ؛ وذلك لأنَّهم يستخدمون طريقة خاصة في عدِّ عجائب كنيستهم، إذ يبدءون برفع أيديهم إلى مستوى عيونهم، ثمَّ يضعون أصابعهم المنفرجة تحت أنفك، ويقولون عند كل عبارة إعجاب: «وهذه واحدة»، ويبلُّون أصبعًا في فمهم، وعندما تحتدم المناقشة ينسون أنَّها أصابعهم فيعضُّونها، ثمَّ تتحوَّل المناقشة إلى مشاحنة، والمشاحنة إلى شجار، والشجار إلى قطيعة! وكيف يستطيعون أن يتفقوا وكلٌّ منهم يذكر ويمتدح ما يروقه هو لا ما يروق الآخرين؟
وإذا لم تكن من أبناء المدينة تشمَّمك — ككلاب الصيد — ثلاثة أو أربعة شيوخ ممن يقضون وقتهم في الاستماع إلى غناء تلاميذ معلِّم المدرسة الشهير نيكوتزا، فاغِرِي الأفواه، وقلنسواتهم على قفاهم، وما أن يحسُّوا بأنَّك غريب وأنَّك لم تزُرْ كنيستهم، حتَّى يأخذوا في فرْكِ أيديهم، ويأخذوا في السعال لتسليك أصواتهم، وفي غير عجلة وبخُطًى وقورة يتقدَّمون إلى لقائك، ويستقبلونك جميعًا بنفس الألفاظ في نغمة ممطوطة، والرأس محنية إلى الخلف: «إنَّك لست من هنا أيُّها الشاب … أليس كذلك؟ لعلك أَتَيْتَ في مهمة سارَّة؟ ولعلك تبقى حينًا طويلًا؟ لا شك أنَّك أتيت لبعض الأعمال؟ ولكن ما رأيك في كنيستنا؟ نعم … قل رأيك بإخلاص فلن يَقْطَعَ أحدٌ رأسك.»
وإذا ساقك الحظُّ السيئ إلى الإدلاء بملاحظات عن تماثيل القدِّيسين الهيكلية المتصلة، وبعضها يحمل الرمح والبعض الحربة، ويمتطي البعض الحصان، بينما يقف البعض الآخر على قدميه، وقد ربَّع ذراعيه على صدره حتَّى برزت الأيدي على جانبي الصدر — لرأيت العجائز وقد رفعوا ذيول قفاطينهم؛ ليدسوها تحت أحزمتهم الحمراء، ويقطعون عليك الحديث الذي ابتدأ يجري على لسانك قائلين: «نعم أيُّها الشاب … يوجد في العالم مصوِّرون كبار للأيقونات، ولقد رأينا نحن — أيضًا — أمثالهم، ولكنَّنا رأيناهم — أيضًا — يَجْنَحون نحو الوثنية، فيصوِّرون القدِّيسين بعيون كعيون البشر وأيدٍ وأقدامٍ كأيدينا وأقدامنا، بينَّما القدِّيسون الحقيقيون هم هؤلاء الذين ألِفنا رؤيتَهم منذ نعومة أظفارنا، وأمَّا أنتم يا شباب اليوم فإنَّكم تسخرون من التقاليد ومن الكتب المقدسة بل ومن القدِّيسين أيضًا.»
٢
ذلك كان رأيهم فيَّ ولن تنساهم قط، وسأذكر خاصةً عينَي ناظر أملاك الكنيسة المجعدتين، وهو يشرح لي لوحات الحوائط، ويضغط بسبابته على صور القدِّيسين، ويُصَعِّد التنهُّدات الكبيرة وكأنَّه يريد أن يبكي على العصور التي خلت وعلى إيمان الماضي.
كانوا أربعة: ثلاثة منهم كانوا يرتدون معاطف طويلة، وقلنسوات ذات ظلال مصقولة، ولكن كابيه ومجعدة، وأمَّا الآخر الذي كان يسمونه الحاج المعلم، فكان يرتدي معطفًا قصيرًا من قماش أصفر ناصل ملوَّث بالزيت، ومُبَرْقَش ببقع من الشمع.
أما ناظر الأملاك فلم يتوقَّف عن الحديث، بينما كان الثلاثة الأُخَر يسخرون مني وكأنَّهم يقولون: ماذا تنتظر لكي تعترف بهزيمتك! إنَّ أحدًا لا يستطيع أن يقاومَ ناظرنا الذي كم رأى من أصناف الناس، وكم مرَّت به من أحداث.
وقال هذا الأخير مهتاجًا: «ماذا تريد أكثر من ذلك؟ أَوَمَا يروقك هذا القدِّيس بطرس ومنظره الشجاع فوق الحصان؟ وكيف يقتل هذا التنين الملعون وكأنه لا يبذل مجهودًا أكثر مما يُبذل في سحق دودة؟ وها هو الشهيد مينا الذي يهزَأ من الماكر الشرير، وانظر إلى نيقولا الأسقف القديس وهامته المرفوعة في نُبْل.
ألا ما أجمل وَجْه هذا الشيخ وأصفاه! آه يا بني! ستعيش بلا ريب زمنًا آخر طويلًا، ولكن لن تُتاح لك كثيرًا فرصة رؤية مثل هذه الروائع! وأما ما تراه اليوم، فالحرس الوطني بريش الدجاج المغموس في اللون الأحمر، وتن تن تن … إلى اليمين … إلى اليسار … انتباه … مكانك سر! وأما الأماكن المقدسة … يا للخجل!»
وكان الناظر تلهَث أنفاسُه ووَجْهُه محتقن؛ فاستسلمت إلى الصمت، والآن ها هو دهيلز الكنيسة وها هي الشياطين التي تبلغ أظافرها ثلاثة أضعاف أصابعها طولًا، والرجال ذوو الشعر الأشعث، والملائكة النحاف الطوال، وفوق الجميع الرب نفسه وسط السحب محاطًا بقوس قزح.
ولم يَعُد الناظر يسيطر على نفسه، ووضع يديه فارتدت أكمامه حتَّى كتفيه، واستأنف بصوتٍ حادٍّ: «انظر كيف تتشبَّث الشياطين بكفَّة الميزان التي وُضِعَ فيها الأتقياء ولكن عبثًا؛ لأنَّ هذه الكفَّة سترتفع دائمًا إلى أعلى، فالعمل الطيب يستطيع أن يُرَجِّح شيطانين بل أكثر، وأنت تدرك أن هؤلاء — وأشار بأصبعه إلى صفٍّ من الرجال العراة البيض كالجليد الذين اتخذوا سبيلهم نحو الجنة — إنَّ هؤلاء كانوا الطيِّبين المحسنين الذين لم يطمعوا في مال غيرهم، ولم يتمرَّدوا ولم يسرقوا، ولم يتفوَّهوا عبثًا باسم الرب، ولم يشدُّوا وثاقًا غليظًا على كيس نقودهم لكي يحكموا تاجه كما يحدث اليوم.»
وخفض الحاج رأسه وجمع ذيل معطفه، بينما ابتسم الآخران من جديد، وكأنَّ ابتسامتهما الماكرة تريد أن تقول هذه المرَّة أيضًا: إنَّ ناظرنا يجيد الحديث هيا! … استسلم، لا تحاول أن تقاومه إذا كنت لا تريد أن تسحق ترابًا.
واسترسل الناظر يقول: «وها هم الأغنياء الأشرار الذين سيُشوَوْن في نار جهنم، وأكياسهم على أكتافهم، وقد ناءوا تحت ثقل ذهبهم وفضتهم.
وسعل الحاج وشدَّ ظلة قلنسوته فوق عينيه، وأدار ظهره إلى لوحة يوم الحساب، وهو يصيح مهدِّدًا بقبضة يده الأغنياءَ الأشرارَ السائرين في سكونٍ إلى الجحيم: «اجمعوا كنوزًا في السماء! … اجمعوا كنوزًا في السماء، فإنَّه لَمِنَ السهل أن يمرَّ جبلٌ من سَمِّ الخِياط عن أن يدخلَ غنيٌّ في ملكوت السموات.»
وظل الناظر هكذا موجِّهًا قبضته نحو الحائط، بينما عرَّى الآخران رأسيهما، ورسما علامة الصليب، وهما يُتَمْتِمان: «أيُّها الرب! … إنَّ قدرتك ورحمتك لا حدود لهما.»
وانسحب المُعلِّم الحاج متسلِّلًا في هدوء وبطء واختفى، واستأنف الناظر قائلًا: «لقد انسحب الحاج … انسحب ناجيًا بنفسه، فهو لا يحب أن يسمع مثل هذا الحديث، وهو لا يضع قط درهمًا في صندوق الكنيسة «الناظر لديه منها الكثير في الصندوق»، وذلك بالرغم من أنَّ لديه في بيته أكوامًا من القطع الذهبية ذات الرنين، وهو يدفن في كلِّ حينٍ تحت الأرض قدورًا مليئة بالأصفر الرنان، ومع ذلك فليس له في دنياه إلا بنت أخت آواها عندما سافر للحج لكي تحرس بيته الحقير، وهو لا يساهم قط في زواج فتاة أو تطهير بئر، ولا يدفع شيئًا لتجميل المذبَح الذي يتلقَّى أمامه الزيت المقدس، آه … يا له من شقي!»
واشتعلت المناقشة بعد ذلك فورًا كأنَّها اللهب.
– الحاج يدفع … هذا مُحال؟ وتساءل الناظر: لكأنَّكم لم تَرَوْهُ قط، وهو يستلَّل إلى الحانات ومحالِّ البقالة! فهو يدخل ويلتقط خلسة زيتونة يحملها إلى فمه، ويدسُّها بين أضراسه، ويمضغها في هدوء، ما ثمن هذا الزيتون يا سيدي العزيز فلان؟
– كذا.
– هذا ثمنٌ غالٍ … غالٍ جدًّا في الوقت الحاضر، فالحياة صعبة، ثمَّ ينصرف ويدخل إلى الدكان المواجه، حيث يختلس قليلًا من الكفيار، ويدسه بسرعة في فمه، ثمَّ … هَمْ … هَمْ … ويمضغه في أناة.
– كم ثمن هذه البويضات السمكية؟
– كذا …
– هذا الثمن غالٍ … غالٍ جدًّا … والحياة صعبة … ثمَّ ينصرف ويدخل عند تاجر اللحوم المملَّحة في الناصية.
– أَرِنِي قليلًا من بضاعتك يا أخي … وأنت تعرف أنَّني لم أَعُد أَضَع قدمي في دكَّان فلان.
ويأخذ شريحة من اللحم ويزدردها.
– كم الثمن؟
– بالنقود.
– كم؟
– كذا.
– لقد أصبحت أثمانك لا تطاق والحياة صعبة.
وينصرف ويُحسُّ بالعطش؛ فيدخل عند تاجر المشروبات الروحية.
– أَذِقْني قليلًا من شرابك … أيَّ نوع منه لديك؟
ويشفط ما تبقى في قاع زجاجة: جلو … جلو … جلو!
– إنَّه أردأ من الطافيا! … من يستطيع أن يشرب هذا؟! ومن يدفع له ثمنًا؟! … آه … يا له من عصير!
ثمَّ ينصرف، وهكذا يأكل الرجل ويروي ظمأه بينما بيته يطفح ثراءً.
ويضحك العجائز: هي هي … هو هو … هي هي … يضحكون حتَّى الدموع، وينطلقون في الحديث بحماسة، وأحدُهم أكثر دهاءً من الآخر بغمزات عينه، وهما يلويان طرف شاربيهما الواقفين كخُطَّافين بيضاوين يهدِّدان أنفهما.
– إنَّ عنقَ حذائه يرجع عمره إلى أيام شبابه، وكعب حذائه عندما يتآكل يصلحه بنفسه بواسطة قطعة من الجلد.
– في كل مرَّة يلقاني تتكرر نفس الحكاية: «أعطني سيجارة … لقد نسيت صندوق سجائري في البيت.»
تصوَّر! إنَّه لم ينسَ شيئًا على الإطلاق … إنَّه يشرب العرق الذي يعدُّه بنفسه، إنَّه يجمعه في الصيف، ويجفِّفه ويسحقه بين كفَّيه، ويحتفظ به في خِزَانة، ثمَّ يشرب طوال الشتاء ويسعل حتَّى تكاد روحه أن تُزْهَق.
وسأل الناظر — وهو يضحك ويشد في شاربه: هل رأيتم قط ما تحت معطف الحاج؟ طبعًا لا، وسأحدثكم عنه، ففي أحد الأيام بعد انتهاء القدَّاس جرى حديث، وكان هناك عددٌ من الرجال وبعض السيدات، وظلَّ الحاج صامتًا على مقعد منعزل وكان يتربَّص القطعة من الخبز المقدَّس، وأشار شماس ماكر؛ ليريه على الأرض وعند أقدامنا قطعة صغيرة من النقود، ويقول له: «يُخيَّل إليَّ يا سيدي الحاج أنَّها قد سقطت منك، وأنت ذاهب إلى التناول»، ويقفز الحاج فورًا ويقترب من القطعة، ويحدجها بنظرة حادَّة تُثبتها في مكانها حتَّى لتصعب زَحْزَحَتُها ولو بالقدم، وأخيرًا يمد يده ولكن في لحظة انحنائه ليتناولها انفجرنا كلنا رجالًا وسيدات ضاحكين ونحن نقف من خلفه، فالحاج كان قد نسي في المنزل سرواله الداخلي، وبلغ ضحكنا حدًّا لم يجرؤ معه أن ينحني ليلتقط قطعة النقود، فاكتفى بالنظر إليها طويلًا والدموع في عينيه، ثمَّ غادر الكنيسة وهو يُتمْتِم: «إنها نقودي! … إنها نقودي!»
واستنتج الشمَّاس من بنت أخت الحاج أنَّه كان يأخذ منذ عشر سنوات قطعًا من قاع سرواله الداخلي لكي يرقِّعه بها عند الركبتين، وأنَّ المعطف الذي كان طويلًا قد أخذ يَقْصُر باستمرار؛ لأنَّه يجزُّ منه قطعًا يرقعه بها عند الأكمام!
٣
لم يَرَ أحدٌ قطُّ مدخنة الحاج يتصاعد منها الدخان، فأثناء العاصف يتجمَّع الجليد أكوامًا حتَّى يصل إلى ارتفاع السقف، ومياه الأنهار تتجمَّد كما تشاء، وكل هذا لا يعنيه، كما لا يعنيه أن يسقطَ البرد كالحجارة في قلب الشتاء، أو أن تصلَ الحرارة في شهر يوليو إلى الحدِّ الذي تصاب منها الكلاب بالسعار، فهو يكتفي في الشتاء بأن يرتعدَ من البرد، وفي الصيف بأن يختنقَ من الحرارة!
وفي كل عامٍ عندما يأتي عيد الميلاد وتقترح عليه بنت أخته التي أواها أن يذبح خنزيرًا كما يفعل كل المسيحيين الطيبين، يرد عليها العجوز قائلًا: «إنَّني أشعر بكثير من الألم يا بنت أختي عندما أسمعه يطلق الصرخات، إنَّ قلبي لينفطر له حقًّا ولا حيلة لي في ذلك، فأنا شديد الحساسية.»
– إذن فلتَشْتَرِهِ جاهزًا.
وعندما كانت ليانا توجِّه إليه مثل هذا الحديث، وريقها يجري وهي تفكر في شحم الخنزير، كان العجوز يرد في هدوء: خنزير … إنَّ لحمه كثير … ويمكن أن يَتْلَف ونحن لسنا غير اثنين لنأكل منه.
وعندما يقترب عيد الفصح كانت تسأله: «هل سيكون لدينا نحن أيضًا يا عَمِّي بيض أحمر من أجل العيد؟»
– يا للحماقة! … بيض أحمر؟! أَوَلَيْسَ من الأفضل أكله طازجًا؟ … بيض أحمر نحتفظ به عدَّة أيام؟!
– فلنَكْتَفِ بتلوين عدد قليل.
– إذَا لم نلوِّنْ إلا عددًا قليلًا، فإنَّنا سنوقد النار عبثًا، ونُبَذِّر في اللون، أي سنرمي النقود! الزمان صعب يا ابنة أختي.
– إذن … فقطعة مشوية من حَمَل.
– حمل؟! أيُّ نوع من الحملان؟! ثمَّ كيف؟ وللحَمَل رائحة النعاج … وعيد الفصح يقع هذا العام قريبًا من الصيف.
– أتُسمِّي هذا صيفًا يا عم تيدوز؟ أوَما ترى المطر والجليد؟
– الجليد؟! كيف؟ … إنَّه ليس جليدًا، فهو يذوب بسرعة وأنا أختنق من الحر … أُف …
– وأنا أموت من البرد!
– تموتين من البرد؟ … موتي … وهكذا عرفتك دائمًا نهمة … ناكرة للجميل.
وتصمت لينا وتعلج لجامها، وهي فقيرة ليس لها أحدٌ في العالم.
تصمت لأنَّه عندما يغضب العجوز يصيح ويصكُّ الباب، ثمَّ يرتمي على السرير، ويئنُّ حتَّى منتصف الليل، ناسيًا حتَّى أن يعطيها شيئًا من الخبز.
ومنذ شبابه المبكر كان الحاج طفلًا عاقلًا «واعيًا»، ولم يكن أحدٌ يسمع مناغاته، ولا صوت خطواته … ولم يكن يستخدم حذاءه أو يمزِّق ثوبه، وعندما يُمسك بشيء يُحْكِم قبضته عليه.
وبعد ذلك عمل صبيًّا في ورشة للأشرطة المطرزة، وكان يتحدَّث برشاقة وحرارة مع رفاقه في العمل، ويقول: «منذ أن كان طولي لا يتجاوز طول حذاء وأنا أفهم كيف يسير العالم، وقد أدركت أنَّ خِرقةً من القماش يعثر عليها الإنسان في صندوق زبالة تُمثِّل عملًا إنسانيًّا، ويمكن أن يمتلكها الإنسان إذا احتفظ بها في عناية، وعندما كانت أمي تعطيني فِلسًا لكي أشتري فطيرًا، كنت أبحث أولًا في حقيبة كتبي، فإذا وجدْتُ فيها قطعةً من الخبز اكتفيت بها، وهلَّا يُشبع الخبزُ الجوعَ، وإذَنْ فلماذا الفطيرة؟ وكنت أدَّخر قطعة النقود … قطعة من هنا، وقطعة من هناك، وها أنا أجمع بسرعةٍ عددًا منها … يمكنكم أن تضحكوا، ومع ذلك فمن الممكن أن تجروا بين أيديكم قطعًا من النقود، وسترون كيف ترطِّبكم في الحر وتُدفئكم في البرد، ويكفي أن تفكِّروا فيما يمكن أن تُستخدمَ فيه النقود؛ لكي تستشعروا نفس المتعة التي يمكن أن تستشعروها عندما تشترون بها فعلًا شيئًا ما، وعندما يستشعر الإنسان المتعة، فما الداعي لتملُّك الشيء المُشترى؟
يمكنكم أن تضحكوا كما تشاءون، وأي شيء أكثر إشراقًا من حفنة من القطع الذهبية المبسوطة فوق مائدة؟ نعم يمكنكم أن تضحكوا … يمكنكم أن تضحكوا حتَّى القهقهة، فما أنتم إلا مبذِّرين لن تتذوَّقوا في حياتكم كلها المتعة الحقيقية.
وذات يوم لَمَحَه صبيٌّ آخر ويداه ترتعشان، وعيناه تبرقان كلَّما تحدَّث عن النقود، فقال له — ممازحًا: «إنك يا رفيقي تجمع وتدَّخر، ثمَّ يأتي يومٌ تطير فيه مدخراتك، وعندئذٍ تستطيع أن تجري وراءها.»
وعندما سمع تيودوز هذه العبارات الآثمة، نهض واقفًا على طَرَفَي قدميه، وجمع قبضة يده وحملها إلى فمه، وصاح مغلق العينين: «عندما تستطيع أن تدُسَّ الأرض كلها في جيوبك … عندئذٍ فقط ستستطيع أن تسرقَ نقودي! تأكَّدْ من ذلك! نعم تأكدْ من ذلك! ثمَّ إنَّني ليس لديَّ فِلس واحد، وفي وقتنا الحاضر لا يستطيع أحدٌ أن يدَّخر شيئًا على الإطلاق.»
كان تيودوز يعمل كثيرًا ويجمع النقود، ولا يشرب ولا ينظر إلى بنات الحي، ولا يأكل إلا الخبز مبلَّلًا بالنبيذ الرخيص، وبعد عشر سنوات كان قد استثمر جزءًا من ماله مع صاحب الورشة، وبعد ذلك بخمس سنوات أخرى أصبح شريكًا معه مناصفةً.
وفي أثناء السنوات الأولى من تلك الشركة، كان قد نَحِفَ كثيرًا وشَحُبَ لونه، وفي سن الثلاثين كان يبدو شيخًا والخوف والهموم أصابته بالمرض، ولكنَّه لم يقرِّر التزام الفراش، وكان شريكه ومعلِّمه السابق يدعوه إلى مائدته لكي يمكِّنه من استرداد قواه، وعندما كان يأكل لم يكن يترك إلا العظام بعد أن ينظِّفها تمامًا.
وبهذا النظام في الأكل استردَّ صحته بسرعة، وذات يوم وبينما كانوا يتناولون الإفطار على العشب؛ لكي يحتفلوا بعيد أول مايو، ويحتسون فيه العرق، سأله معلمه عرضًا: «قل لي يا تيودوز … أَوَمَا تريد أن أبحثَ عن فتاة لطيفة مناسبة ومعها بائنة محترمة؟ وذلك لأنَّ الإنسان يعرف لماذا يعيش عندما يكون له طفل أو طفلان.»
– مستحيل يا معلمي، مستحيل امرأة وأطفال يتطلَّبون غذاءً وكساءً وتعليمًا! … ليست لديَّ القدرة على ذلك، والقليل الذي أمتلكه مُستَثْمر في العمل، والمال الذي يُستَثْمر في التجارة إنَّما يملكه جميع أولئك الذين يريدون أن يخاتلوك!
– تيودوز يا بني! لا تقل هذا … إنَّه خطيئة … واحذر أن تجلب على نفسك الفأل السيئ!
ولفَّ معطفه حول صدره، وتمتم بنغمة الغارق في التفكير: الفأل السيئ! … مستحيل يا معلمي! الأطفال يتطلبون خبزًا وملابس وتعليمًا، والمرأة ثيابًا ونزهات ومعطفًا من الفرو، وجونلات محبوكة … مستحيل يا معلمي! … صدِّقني … مستحيل!
٤
أيُّ سعادةٍ استشعرها الحاج يوم أن بقي السيد الوحيد في المشغل! ولقد أحسَّ أول الأمر بما يشبه الحمى، فوجنتاه مشتعلتان وكذلك رأسه، وهو يشعر بنمنمة في عينيه، وفي كلِّ لحظة كان يخرج إلى باب المشغل لكي يتأمله مِن الخارج ويتفحَّصه من جميع جوانبه، ويقيس الحجرات، ويتأمَّل الجدران في عناية، وأحيانًا كان يقف على أطراف قدميه لكي يُلقِي نظرة فوق السقف، وكان المشغل بالنسبة إليه كطفلٍ جميلٍ ورديِّ الخدين، وكأبٍ سعيد لديه ما يُغدِق عليه حنانه أو كامرأة فاتنة، وهو المجنون الذي يرتمي تحت قدميها مغلَق العينين خافق القلب.
لقد تحقَّق حلمه، الحلم الوحيد الذي راوده طوال حياته، فهو السيد الوحيد للدكَّان، وجميع بكرات الخيط ولفائفه وربطاته ملك له، وكذلك الأنوال والفكاكات، وأكوام الصوف، وهو وحده القائم على الخزينة، كما أنَّه هو وحده الذي يساوم ويحدِّد السعر، ويده هو وحده هي التي تلمس قطع النقود.
وفي أول مساء، بينما كان يُغلق الأبواب والمتاريس، كانت عيناه تَسْبَحان في كلِّ ناحية، ولا يكف عن زجْر صبيانه.
– بِرِفْق! بِرِفْق انتبه! إنَّ الأبواب ليست من حديد.
لا تَصُكَّ المصاريع إنَّها ليست من حديد.
حاسِبْ على الأقفال أيُّها الأخرق! إنَّها … ثمَّ حتَّى لو كانت … هناك يايات ومفاتيح وهي تتكلَّف المال.
وعادَ أدْرَاجَهُ عشر مرَّات لكي يمعن في فحص حانوته، وأخيرًا ألقى عليه نظرةً طويلة وابتسم له، وامتلأت عيناه بالدموع، ثمَّ قرَّر أن ينصرفَ وهو يُتَمْتِم: «حانوتي المسكين! … إنَّه حزين هو أيضًا بستائره المسدَلَة وبابه المغلق، وكأنَّه رجل أغلق عينيه، ولكن عند الفجر فُتِحت عيناه ونوافذه أيضًا، ولاح الحانوت وكأنه يتكلَّم؛ لكي يجذبَ الزبائن ويرجو لهم صباحًا طيبًا، ويدعوهم لكي يشتروا منه شيئًا … يا له من فاتن!»
وعاد الرجل إلى بيته مطأطئ الرأس أشعث الشوارب، وهو يُجفِّف العرق الذي يغطِّي جبهته، ويُسرع في مِشيته ثمَّ يبطئ ويتلمَّظ ويسعل، وأخذ يتحدَّث وحده، فهو يرى نفسه يُجَابِه الجميع — الصبيان والعمال والحرفيين الصغار وتجَّار الجملة — ويبتسم للبعض ويشدُّ على يده، بينما يتشاجر مع آخرين، وفي النهاية يتفق مع الجميع، فهو يقنعهم ويغريهم ويخدعهم، وها هو يصل إلى بيته منهَكًا.
وعند مفترَق طُرُقٍ؛ حيث يتفرَّع طريقٌ يتجه نحو جاليا فرجيلوي، يقبع منزل الحاج في أقصى حديقة ملتفَّة، ويفتح باب الردهة ثمَّ يُغلقه، ويدير في سرعة المفتاح مرَّتين، ثمَّ يدخل حجرةً صغيرةً مظلمةً، ويوقد شمعة ويجلس على الفراش ورأسه بين يديه ومرفقاه على ركبتيه.
الجدران مشقَّقة وصفراء، وكُتَل خشب السقف سوداء ومغطَّاة بطبقة من التراب، وفوق الأيقونات صورة للقديسين، تكاد تكون مَمْحُوَّة، والسرير مغطًّى بنوعٍ من السجَّاد الطويل الوبر، والمخطَّط بخطوط بيضاء وحمراء، وإلى الحائط، أُسْنِدَتْ وسادتان مليئتان بالقش، وعند مكان الرأس وِسادة ثالثة مغطَّاة بكيس قذر، والأرض مرصوفة بحجارة عارية وباردة، والحجرة حزينة مظلمة وكأنَّها قبر، ومن الخارج لا يجرؤ الإنسان أن يُلقي نظرة من خلال الزجاج الذي لا يتجاوز ربع صفحة من الورق خوفًا من أن يرى في الداخل جثثًا ممدَّة على ظهرها.
وقفز الحاج وأطفأ الشمعة، قائلًا: «لا داعي للتبذير، ولست في حاجة إلى الضوء لكي أفكِّر! آه يا إلهي! يا إلهي! كم أنت طيب وحكيم، لو أنَّ الشمس لم تكن موجودة، فكم من الشموع كان يلزمني لكي أضيء الحانوت بالنهار! يا لها من تكلفة!» ولم يكد يقِرُّ في الفراش حتَّى أَخَذَتْ أنواع من الأفكار تغزوه لذيذة ولطيفة أولًا ثمَّ قلِقة وداكنة.
أيُّ سعادة في أن أكون وحدي يا سيِّدَ الدكَّان! لقد كان المعلِّم رجلًا طيبًا، ولكن مع ذلك مفتاحان للخزينة الواحدة، ويدان تتعاملان مع النقود، عشرون إصبعًا تتجوَّل فوق قطع النقود، أربعة جيوش وحسابان مختلفان، من يُدْرِينا! قد يقع خطأ بسرعة، وقِطَع النقود بالغة الصِّغَر، من الممكن أن تنزلقَ من بين الأصابع، وتسقط في الجيب … في الكيس … في حشو الملابس … لقد كان معلِّمه رجلًا طيبًا شريفًا، ولكنه كثيرًا ما كان يتسامح مع العمال والموظفين والصبيان عندما يكسرون، أو يُتلفون شيئًا في الحانوت، وإذا جاء شحَّاذ أو اثنان أو عشرون، تكرَّرت نفس الحكاية: «يجب إعطاؤهم شيئًا ففي هذا بركة لأطفالنا، حسن جدًّا، ولكنَّ الحاج ليس له أطفال، ونصف المال المبذول كان ثمرة عمله، والنقود ملكه ومتعته وسعادته، ثمَّ إنَّ المعلم كان يضطر إلى شراء ملابس وشمع لعيد الفصح، كما أنَّه كان مضطرًّا أن يدفع للإحسان والأعياد الدينية عندما كان المعلِّم يسحبه مرغَمًا إلى الكنيسة ثمَّ الصندوق!
أيُّ فزعٍ كان يوحى به للحاج! وكان الحساب واضحًا، فوجبات الطعام يقدِّمها المعلِّم، ومكانته عند الناس وسمعته لا تعوِّض إسرافه في الكرم، والملابس الضرورية لتلبية دعوات الزيارة … ونفقات الإحسان الباهظة، وفوق كل شيء عدم خبرته في تجارة الأشرطة المطرَّزة.
ويتململ الحاج في فراشه، فسعادته أكبر من أن يتحمَّلها، وهو لا يستطيع النوم، فيضحك ويتنهَّد ويظل مستيقظًا، ومع ذلك يحلم، ويا له من حلم رائع! … آه! يا ليته يدوم دائمًا! وفي هذا الجو الخانق وهذه الظلمة، كم يكون رائعًا أن ينتصبَ ليرى إلى جواره كومة من الذهب آخذة في الازدياد، وكأنَّها نهرٌ يفيض على شاطئيه، ويرتفع من القدمين حتَّى قمة الرأس … آه! كم سيكون الحاج إذن مثلوج الصدر؛ لأنَّه سيكون عندئذٍ قد رأى وجه الرب وخلوده قبل أن يُسلم الروح، وإذا جاءه الموت ممسكًا منجلًا من الذهب فإنَّه سيمسك شباته بكلتا يديه!
قطرات المطر تدقُّ الزجاج والحاج ينتفض وليس هناك أحد، ويجفِّف العَرَق الذي يتفصَّد من جبينه، وتلهث أنفاسه وكأنَّه يصعد تلًّا حاملًا ثقلًا على كتفيه وقلبه يدق، فحلم الموت السعيد الذي رآه قد تحوَّل فجأةً إلى حياة مليئة بالفزع، وتتساقط قطرات ثقيلة مجلجلة على الزجاج … وفكرة أنَّه من الممكن أن يسطوَ عليه أحد تجعله يقفز من الفراش ويوقد الشمع، وهو شاحب كقطعة من القماش الأبيض، وشعره الطويل المشعث يتدلَّى في خصلات متناثرة فوق قفاه وفوق جبهته، ويُلقي نظرة إلى الأيقونات، ويرسم علامة الصليب ويتذكَّر الرب، نعم يتذكر الرب، ويقول لنفسه: إنَّه إنَّما يُشْقَى على الأرض بسبب الكُسالى واللصوص، وإذا سرقوه فإنَّهم لن يسرقوا الحقيبة ذات المائة ألف دينار المدسوسة تحت الفراش فحسب، بل سيسرقون روحه، ويسرقونها عشرة آلاف مرة؛ لأنها منصهرة في كلٍّ من القطع الذهبية، وهو لم يعرف قط معنى الأرقام عشرة ومائة وألف، فليست إلا ألفاظًا وأرقامًا مرسومة على الورق أو محفورة، وفي العشرة آلاف قطعة ذهبية كان قد وضع قلبه عشر مرات، فالمائة قطعة تحتوي على قلبه مائة مرة، والألفُ ألفَ مرة، والمائة ألفٍ لا تمثِّل بالنسبة له كومةً من الذهب، بل مائة ألفٍ من أطفاله، وكل منهم يجسِّد ملامحه وجزءًا من ذاته، وهذا هو السبب في توجُّه أفكاره في تلك اللحظة نحو الرب.
«سأُشعل المسرجة بالقرب من الأيقونات، وإن يكن الربُّ الرحيمُ يرى بالتأكيدِ بوضوحٍ حتَّى في الظلام»، قال ذلك الحاج وهو ينهض لكي يتجه بخُطًى تهزه نحو الصور المقدسة.
وأَخَذَ في عنايةٍ الزجاجةَ التي تُستخدَم كمسرجة، ووضعها على الفراش، وضغط بأصابعه لكي يقيم الذبالة، وصبَّ في الوعاءِ القذرِ محتوى الزياتة، وقاس بنظره سُمْك طبقة الزيت قائلًا: «إصبع من الزيت! إصبع! هذا كثير! … هذا تبذير … النهار سيبزغ قريبًا … وجلالة الرب لن يستطيع أن يرى هذه الذبالة الصفراء، عندما تغمر الشمسُ العالمَ بالضوء.
ووضع الزجاجة في طاسة من الفخار وسكب فيها ماء، فتسرَّب الزيت إلى قاع الطاسة، ولم يَبْقَ منه في الزجاجة إلا طبقة في سُمْك شفرة السكين.
واندسَّ الحاج تحت الغطاء وأخذت ذبالة المسرجة تُقرقع وتئزُّ، فاضطرب الحاج وأخذ يطنُّ بين شاربيه قائلًا: «لماذا تُقرقِع؟» إنَّه سيئ، ومع ذلك فقد وَضَعْتُ ما يكفي من الزيت، لماذا تئزُّ هذه الذبالة؟ … المهم ألا تشتعلَ النارُ في الدكَّان.
٥
هكذا وصل الحاج إلى الشيخوخة، وكانت حياته سلسلة متصلة من العذاب، فهو لم يكن يأكل أو يلبس تقريبًا، وكان يعيش بغير نار وبغير وجبات ساخنة وبغير حبٍّ لأحد، يرتعد عندما يمسُّ شبح ساقيه ويرتج بابه في النهار، ويقوم بكافَّة الأعمال، ويلوح بالليل في حجرته وفي ضوء الشمعة كشبح عَظْمِيٍّ.
وفي أيام شيخوخته لَاحَظَ أنَّ تجارته في الأشرطة تتدهور؛ فصفَّى الدكَّان وباع كلَّ شيء.
«لقد كسبت مع ذلك لقمة العيش بالعمل المضنِي من سنِّ الثامنة إلى سن الستين.»
ولكن هذا الشيخ الذي لم يكن له من أصدقاء وأطفال وزوجة غير النقود المدَّخرة والمُخبَّأة بعناية، كانت تطارده فكرة وحيدة تسيطر على كافَّة أفكاره الأخرى، وتُنزل الاضطراب بسعادته.
«إنَّ الرب يرى كل شيء، ويعطي كلَّ إنسانٍ جزاءه … نعم! يرى كلَّ شيء … ولكن ماذا يرى في الحقيقة؟ إنَّني لم أَسْرِق أحدًا، ولم آخذ مال الآخرين، إنَّه يرى كل شيء، ويُعطي كلَّ إنسانٍ وفق ما يستحق.»
وتذكَّر الحاج الأيقونات والعبارات التي سمعها في الكنيسة، فلماذا يُعتبر الغنيُّ آثمًا ما دام لم يسرق ولم يضرب أحدًا؟ وإذا أعطى الأغنياء كل يومٍ للفقراء، فإنَّ الفقراء سيغتنون والأغنياء سيفتقرون، وماذا يمكن أن يكسب الربُّ من ذلك؟ وجِسْم الحاج لم يطلب قطُّ المرأة، وشفتاه لم تلامِسا قط طفلًا، ومعدته لم تشتهِ أطباقًا شهيَّة، ومع ذلك فإنَّه مقضيٌّ عليه ألا يرى في الأبدية وجه الرب المشرق.»
وذات يوم لم يعد الشيخ يستطيع مقاومة أفكاره، فاتخذ قرارًا خطيرًا «نعم … نعم، سأستجلب محبَّة الرب … سأذهب إلى الحج في الأماكن المقدَّسة! أيَّة تضحية بعد هذه؟ … الأماكن المقدَّسة؟ … حيث توجد غابة الصليب المقدَّس … ويستطيع الإنسان أن «يسرح» بمن لم يحجُّوا باسم هذه الغابة المقدَّسة … ولا بدَّ أنَّ جميع الغابات هناك مقدَّسة.»
وسافر العجوز للحج وعاد بلقب حاج، ولكن أكثر قذارة منه عندما سافر، وفي كلِّ مرَّة طُلِب إليه أن يصفَ الأماكن التي زارها، كان يردُّ بالحديث عن المعجزات التي تجري في غابة الصليب المقدَّس، فقد رأى بعينه مرضى بالجذام تشفيهم الغابة المقدَّسة، فيكفي أن تمسَّ جروحهم قطعة صغيرة، بل صغيرة جدًّا من خشبها لكي تندمل الجراح، ويعود الجلد أملسًا في المواضع التي لم تكن من قبل غير هبر دامية، وراهب معتزل عاش عشر سنوات دون أن يأكل شيئًا مكتفيًا بأن يشمَّ رائحةَ الخشب المقدَّس، كما أن مجنونًا استردَّ عقله عندما مسَّت جبهته قطعة من الخشب المقدَّس.
وبينما كان الحاج يقصُّ تلك المعجزات، ويرسم الصليب باستمرار، كان يبيع قطعًا من الخشب المقدَّس للعجائز والأرامل.
ومع أنَّه قد سعِد سعادةً غامرةً بعودته إلى كنف الرب، وغبطته باسترداده المال الذي أنفقه في الحج، بل وتحقيق بعض الأرباح، فإنَّه مع ذلك كان يُزمجر ويدور ببصره في كل ناحية قائلًا: «يا لها من تجارة رابحة وعمل مُجْزٍ وثروة يمكن جمعها! فخشب غابة الصليب يباع خيرًا من الأشرطة! ومنذ أربعين عامًا لو أنَّ دكَّانًا اتخذ بيعها تجارةً؛ لجرى الذهب إلى خزينته كالطوفان، وأما الآن فالعالم يسوء يومًا بعد يوم … والإيمان يندر … آه يا إلهي! يا إلهي!»
ورسم الحاج علامة الصليب مؤمنًا بأنَّ العالم يسير نحو الضياع!
ملعونة أيَّتها الشيخوخة! كم حملك ثقيل، فالسعال يأخذه مرَّات أكثر ويمكث معه وقتًا أطول، ودمه لم يعد يحتمل البرد، وذاكرته أخذت تهبط، وفي مرَّات كثيرة كان يتشاجر مع نفسه: هناك ثمانية آلاف.
لا بل عشرة آلاف!
كيف … عشرة؟
إذن، فلا بدَّ أنَّه يوجد ثمانية في الناحية الأخرى.
كيف؟ مستحيل! لقد أجدت العد ليلة الأمس.
وأخذ سمعُه يضعف أيضًا، وإذا رفع صوتَه أخذه الخوف، وأخذ ينظر فورًا في كل ناحية قائلًا: آه! أيُّها الحاج المغفَّل … الصغير العقل … إنَّك ترفع عقيرتك كأنَّك تمتلك ثروة طائلة، ولكن لا … إنَّك لا تملك شيئًا! إنك في فقرِ أيُّوب! وبينه وبين نفسه كان يُردِّد: «إنَّ لديَّ بعض المدَّخرات وهذا حق، ولكن من الأفضل أن أوهمَ بأنَّني لا أمتلك فِلسًا واحدًا.»
٦
وحتى سن الثمانين لم يحدث للحاج شيءٌ خطير، بل لم يُصِبْه حتَّى ألم في أسنانه، فإذا كان قد فقدها في الشيخوخة، فإنَّ فقدَه لها قد تم بغير ألمٍ إذ سقط بعضُها مع الخبز المقدد، والبعض الآخر مع لُبَاب الخبز.
ولكن شتاء هذه السنة كان قاسيًا، فالأشجار تُقرقع في الحديقة، وفوق زجاج الحاج ارتسم الجليد كأوراق الشجر العريضة الكثيفة، وعبثًا كانت بنت أخته تنظِّف بعض أجزاء هذا الزجاج، وعبثًا كانت تُكوِّر فمها وتنفخ بنشاط، فبُقَع الجليد كانت لا تلبث أن تتغطَّى بطبقة من الثلج.
ويصيح الحاج — وهو مُتَدَثِّر في ركن من الفراش: «انفخي بقوة أكثر»، وتردُّ البنت — وهي ترتعش رغم البطانية التي تلفها حول كتفيها: ها أنا أنفخ يا عمي الحاج … أنفخ … ولكنَّ البرد يخترقني وأنْفاسي تتقطَّع، أعطِني خشبًا إذا كنت لا تريد أن نتجمَّد قبل الغد.
ماذا؟ خشب؟ الآن؟ … في هذا الوقت عندما يصل البرد إلى هذا الحدِّ يتكلَّف موقد من الخشب على الأقل قطعة من الذهب … أتفهمين؟ قطعة من الذهب!
وتنسحب ليانا لتأكل في الغرفة المجاورة، ويبقى الحاج وحده، وكل ما حوله حزين مظلم وبارد، وريح ثلجيته تتدافع في المدخنة، ولكنها لا تجد فيها حجرًا ولا رمادًا.
ويرتعش الحاج ويمضغ قطعة الخبز، وتسري في ظهره رعشات من الثلج، ولا يعود يشعر بما بين القدمين والركبتين.
وترتفع أكوام الجليد إلى مستوى النوافذ، وفي القرية كلها لا يُسمع صوت ثانٍ ولا نباح كلب.
وينام الحاج على مرارة، وهو يقول لنفسه: إنَّ الشتاء لو استمرَّ بهذه القسوة لن يستطيع أن يَستغني عن الخشب، ولمَّا كان الخشب غاليًا، فإنَّه سيكون بلا شك طريح الفراش عند نهاية الشتاء، ولكنَّه مع ذلك نام في النهاية، وإن ظلَّ يتفزَّز في فراشه، ويتقلَّب يمنةً ويسرةً، ويحلُمُ طول الليل بأنَّه يتدفَّأ على ذهب نار كبيرة.
وفي الصباح تجده بنت أخته نصف متجمِّد، وبالكاد وجد القوة اللازمة ليقول: «ليانا ليانا … أوقِدي النار بسرعة، فسأموت من البرد»، ويمد لها يده بقطعة صغيرة من الذهب، وهو مغلَق العينين، والخجل يرادوه من أن القطعة الذهبية ستحس بالسهولة التي يلقيها بها إلى الأيدي التي لا ترحم، ثمَّ يُطلق زفرة ينشقُّ لها القلب!
وها هي النار تئزُّ في المدفئة، وترسل حرارةً حية وتلقي بظلالها على الحائط المواجه، والسقف يُقرقع والجدران يغطِّيها البخار، وليانا تكشف سيقانها حتَّى الركبتين التماسًا للدفء أمام النار، ويخرج العجوز من تحت الغطاء ويتدفَّأ، ولكنَّه مع ذلك يرتعش، وساقاه ترتجفان فهو مُنهَك، ولأول مرَّة في حياته يموت لهفةً لكوبٍ من الماء.
لماذا أتيتِ بكلِّ هذا الخشب؟ … إنَّه أكثر من اللازم! أكثر مما ينبغي! ستُضْرِمين النار في المنزل! آه … الخبز لم يَعُدْ يكفيني، ولا أستطيع الوقوف على قدمي.
وأجابت ليانا: «قد تكون مريضًا يا عمي … هل تودُّ أن أستدعي أحدًا؟ … هناك طبيب يسكن إلى جوار الصيدلي.»
وصاح الحاج: «لا يمكن أن يجرؤ أحدٌ على تخطِّي عتبة داري … وثمرة عملي طوال حياتي كلها لن تكفي لدفع ثمن ما يكتبه الطبيب على جذاذة ورق! إنَّني في صحة جيِّدة وقوي، ولم أشعر قطُّ بأنني في مثل هذه الصحة!»
ولكن عندما حاول أن يخطو بضع خطوات انهار على الفراش في نفس اللحظة التي قال فيها: «بالتأكيد! لم أشعر قطُّ بأنني في مثل هذه الصحة!»
وبعد ثلاث ساعات من الحمَّى غادَرَ الحاج الفراش، وقد ظهر عليه الهزال والشحوب وغارت عيناه في محجريهما وتَشَعَّثَ شعره، وسألَتْه ليانا في رفق عمَّا إذا كان في حاجةٍ إلى شيءٍ.
فأجاب في حزن: «أريد … أريد حساء دجاج … وعليه قليل من الليمون … لكن لا … الليمون غالٍ … وعليه بضع نقط من حامض الليمون! واحذري أن تكون الدجاجة كبيرة، فأنا أريدها صغيرة ولكن طرية.»
وفي المساء فرشت ليانا فوطة كبيرة فوق الفراش، ووضعت فوقها سلطانية مليئة بالحساء الساخن، ومن هذا الحساء الدسِم برز جناح دجاجة أصفر مذهبًا، وعلى حافَّة السلطانية وضع ملعقة من القصدير، وإلى جوارها وضع زجاجة بها قدر إصبعين من النبيذ مغلقة بلفافة من الورق، وألقى الحاج نحو الفراش نظرةً نهمة وجفَّف جبهته، وقال في ندم عميق: «يا لها من نزوة طفل!»
لقد خُيِّل إليه أنَّه قد صَهَرَ في يده سبيكة من الذهب، وسَبَكَها في السلطانية لكي يشفطها بعد ذلك بالملعقة! واقترب من الفراش وأخذ يأكل، وكان يُقرقع بلسانه وصدغاه يغوران، وحاجباه يتقطَّبان إلى حدٍّ يكاد يحجب عينيه، وفجأةً طرح الملعقة والْتَفَتَ نحو ليانا صائحًا: «أعطني ملعقة من الخشب … فلهذه طعم غريب.»
وخرجت ليانا لتحضر الملعقة المطلوبة والحساء يُسيل لعابها، فتكتفي بازدراد ريقها.
وأخذ الحاج يأكل في صخب، ولعدَّة مرَّات صهل وبصق، ثمَّ قال: «احملي هذا الحساء لم أَعُدْ أريده … فأنا أحسُّ له بطعم الصدأ في أعماق حلقي … إنَّه حامض … ملحي … إنَّ طعمه رديء بشكلٍ مخيف! احمليه … أسرعي … أَوَمَا ترين أنَّ ما آكله هو حياتي نفسها؟»
وتناولت ليانا السلطانية وحملتها.
وترك الحاج رأسه تسقُطُ على الوِسادة المحشوَّة بالقش، ولاح كأنَّ جسمه كله كريشة من لهب! … يا لها من حروق! لقد أخذ يشعر كأنَّ هوةً سحيقةً قد انفتحت تحته وأنَّه سيخرُّ فيها، وأنَّ سقوطه في جوفها يزداد عمقًا باستمرار، وفي حلقه أخذ يُحسُّ طعمَ الذهب ودم الذهب، وأنَّه كالأب البائس الذي يأكل لحم أطفاله.
وعندما عادت ليانا إلى الحجرة نهض على مرفقيه، وقال — بصوت هائج: «أطفئي النار، ورُدِّي الجمرَ والرمادَ إلى التاجر! ارمي الحساء، ولكن رُدِّي الريش وما تبقَّى من قطع اللحم إلى مكانها، فأنا أريد أن أستردَّ على الأقلِّ نصف نقودي إن لم يكن كلها.»
وأخذ يجهش بالبكاء قائلًا لنفسه: «أيُّها القاتل! … أيُّها المجنون! أيُّها الوغد! أَوَمَا تشبع أبدًا؟!» وتحجَّرت ليانا في موضعها دون أن ترفع عنه بصرها، وفي هذه اللحظة سمعت خلف الباب مواء قطتها، شريكتها في البؤس التي تقتسم معها الجوع والبرد، والكائن الوحيد الذي استطاعت أن تُدلِّله وأن يُعزِّيها.
وواربت ليانا الباب، فألقى الحاج نحوها نظرةً مذعورةً، وعندما رأى الحيوان ينزلق من فتحة الباب، صاح: «اقطعوا ذنَبَها! … اقطعوا ذنَبَها! هذا الذَنَب الطويل، فهو الذي يحتاج إلى وقتٍ طويل لكي يدخل الغرفة، فيدخل معه البرد، وفي وجودها نفقة أكثر! أين البلطة؟ أريد أن أقطعه لها بنفسي»! ونهض، فارتجفت ساقاه وانثنت ركبتاه، وأخذت جميع مفاصله تُقرقع، وانثنى على نفسه، وأخذ يرمش بعينيه الجاحظتين ويفغر فاه واسعًا، وسقط على ظهره، وذعرت ليانا وَعَدَت إلى خارج المنزل وهي ترسم علامة الصليب.
وعندما هبط الليل أخذت ليانا ترقب خلف الباب، وهي ترتعد وقلبها يدقُّ في قوة، وأرادت أن تدخلَ المنزل، ولكنَّ الخوف من أن تجدَه ميتًا أو مجنونًا شلَّها عن الحركة، والريح تصفر في المزاريق، والجليد قد سدَّ باب الدخول، والمدخل باردٌ مظلمٌ.
وحول منتصف الليل أحسَّت كأنَّ بحجرة الحاج شخصًا يسحب نفسه على أربع، فمدَّت أذنها سمعت في وضوح صوت قِطَع من النقود، فتمتمت قائلة: «إنَّه هو … إنَّه لم يمت! فالنقود تمدُّ في حياته … مسكين يا عمي الحاج!»
وبعد أن هدأت قليلًا أخذت تتحسَّس في الظلام حتَّى وجدت مِقبض الباب، وفتحت دون أن تُحدِث صوتًا وذهبت لتنام، وهي ترتفي في رف لعمها، قائلة: «آه المسكين! كم هو غني!»
وفي صباح اليوم التالي عندما دخلت حجرة الحاج وَجَدَتْه في قميص النوم … قميص بالٍ ممزَّق، ووجهه نحو الأرض، وقد تمدَّد مغلَق العينين فوق كومة من الذهب وهو مغطًّى بالذهب، واتخذ من كومةٍ أخرى من القطع الذهبية وِسادة.
وعندما رأته بنت أخته أخذت تبكي.
ولكن فيما يشبه المعجزة اهتزَّ الحاج مرتجفًا، فصلصلت قطع الذهب على طول جسمه من قدميه إلى جبهته، ورفع رأسه وفتح عينيه وأدار نحو ليانا نظرةً خايبة، ثمَّ تَمْتَمَ بعبارات غير مفهومة، وعضَّ الهواء بأضراسه العارية، واستطاع أن يقول: لا تنظري … اقفلي عينيك … فالعينان أيضًا تسرقان … اقفلي عينيك.»
فتح فمه فانهار لسانُه في حلقه، ومالت رأسه إلى ناحيةٍ وتصلَّبت ساقاه، وتشنَّجت يداه بين قطع الذهب، ونام إلى الأبد مفتوح العينين، ومحدقًا في ليانا، وعندما غسَّلوه رأوا على ركبتيه وصدره وجبهته خاتم القطع الذهبية! ولكنه كان من الشاق إسدال جفنيه دون خلعهما، فإغلاق عينيه المذعورتين كان أمرًا مستحيلًا.
وأقامت له ليانا جنازةً ضخمةً ضمَّت عشرة قسيسين ومطرانًا وعربة، وقربًانا وراية كنيسة الترينيتين وزهورًا وشموعًا وأقمشة حداد، حتَّى أخذ من شاهدوا تلك الجنازة يقولون: «يا للجمال! يستطيع أن يكون راضيًا.»
ومشت ليانا على رأس الموكب ومن خلفها عدد من الشيوخ، ومن بينهم ناظر أملاك الكنيسة الذي سأله أحد الشيوخ قائلًا: هل ترك ثروةً كبيرةً؟ فأجابه الناظر: مليونًا.
– كم؟ … مليونًا؟!
– مليون! أي عشرة من مئات الآلاف!
– مسكين أيُّها الحاج!
– لو أنَّه رأى كلَّ ما أُنْفِق على جنازته!
فقال أحد الشيوخ: «لمات.»
واخترقت العربة وهي تهزُّ جلاجلها الفضِّية فناءَ الكنيسة، بينما كانت أصوات خافتة تترنَّم بصلاة الموتى: «فلتخلد ذكراه … فلتخلد ذكراه.»