تيودور أرغيزي (١٨٨٠)
يُعتبر تيودور أرغيزي أكبر شاعر روماني بعد إيمينسكو، وقد دفعه القلق الأصيل في طبيعته وسط ظروف المجتمع الروماني في سنة ١٩٠٠ إلى أن يحيا حياةً متنوِّعةً متناقضةً خصبةَ التجارب، فعمل تبَّاعًا راهبًا وصحفيًّا وحِرفيًّا في رومانيا، أو في سويسرا حيث أقام زمنًا طويلًا.
وقد كرَّس أرغيزي جهده — في حماسة حارَّة لا تخبو — للشعر، كلَّما فرَغ من تحرير تحقيقاته الصحفية الهادرة ضد مظالم وفساد الحكم البرجوازي، ومجموعة أشعاره الأولى «أقوال متجانسة» سنة ١٩٢٧، تبعتها مجموعات أخرى مثل: «أزهار العفونة»، و«أشعار المساء»، و«سبع أغانٍ»، و«الفم المغلق»، و«الأعشاب السيئة» … إلخ.
وأخيرًا الحلقتان الكبيرتان: «أغنية الإنسان» التي يحدِّد فيها أرغيزي وضْعه التقدُّمي في معركة ازدهار المجتمع الاشتراكي، و«حلقة ١٩٠٧» التي يرسم فيها صورةً درامية لثورات الفلاحين سنة ١٩٠٧، ويهاجم في عنفٍ القمعَ الدموي الذي قوبلت به من الطبقات المسيطرة، ولنذكر من بين مؤلَّفاته النثرية: «أيقونات من الخشب»، و«الباب الأسود»، و«لوحات من مقاطعة كوتي»، و«كتاب اللعب» الذي يضم: «صور جديدة» و«ميداليات»، ثمَّ روايات «عيون العذراء»، و«جبانة البشرى»، و«لينا.»
وفي الشعر والنثر على السواء قلب أرغيزي التعبيرَ الأدبيَّ رأسًا على عقِب بأنَّه أضفى عليه المعاني الجديدة النابعة من عبقريته الغنائية والساخرة، تشبيهاته الخام غير المسبوقة، ووضع كلَّ ذلك في خدمة نزعة إنسانية مكافحة مُحِبَّة للبشر والطبيعة والزهور والحيوانات.
وإلى جوار ميخائيل سادوفيانو — الذي تُوفِّي أخيرًا — لا يزال الأكاديمي تيودور أرغيزي الدائم النشاط، الكاتب الكلاسيكي الكبير في الأدب الروماني رغم تجاوزه الثمانين من عمره.
(١) ميلا
كنت أُدير مكتبةً في مصيف تائهٍ وسط البحيرات، وهناك كنت أقضي إجازات الدراسة حيث أُعيدُ بيعَ الكتب التي أكون قد اشتريتها أثناء العام مضافًا إليها عددٌ آخر أحصل عليه بالتخفيض، وكان كلُّ ما أملك من الكتب لا يعدو ملء أربعة صناديق، وكانت مرصوصة على رفَّين يضفي عليهما شيئًا من الحيوية تمثالٌ من الخزف، وفي هذا العام كنت قد اشتريت أيضًا نسرًا رماديًّا ووعلًا.
كانت ميلا ترتدي ثوبًا طويلًا من قطعة واحدة يلفها كأنَّه القُفَّاز، وكان ثوبًا أسود مُحلًّى بأزرار من الصَّدَف وينزل من عنقها إلى حذائها الذي يمسه، وكانت تأتي منذ أربع سنوات كل أسبوع لتختار كتابًا تقرأه، ثمَّ تردُّه، وقد اعتادت كتبي لمس أصابعها الشقراء الحانية وراحة يدها الوردية، وذات أصيل تأخرت وخبا الضوء وانتشر الظلام.
وتهافتت الأحاديث متباطئةً كأنَّها العربات المُحمَّلة بأعشاب من الظلال تجرُّها ثيران هادئة، وأضاء مصباح في أحد الأدوار من الناحية الأخرى للطريق ثمَّ مصباح آخر، وأخذت واجهات المحلات تتلألأ، وأمواج من خيوط الذهب ترتسم على مسافة أبعد في واجهات أخرى.
وخرجتُ من صمت لأستيقظ في قلب صمت آخر.
وفي مواجهة المكتبة، رَفَعَ جزَّار سكِّينًا طويلة فوق فخذةِ خنزير مجفَّفة لكي يبدأ في تقطيعها بمجرَّد أن تصدر له التعليمات من سيدة ذات عوينات بمقبض، بينما شاربه الأحمر يصفر في أذنيه.
ومثله كنت أتساءل: كيف أقطع الصمت المظلم في مكتبي؟ فقطْعه يستثير الفكر، والفكر يجلب الصمت، صمتًا عميقًا كالنوم، وتحت مصباحٍ مجاورٍ عكس فجأةً شعاعه في زُرْقَةِ عينيها، لمحْتُ دموع ميلا التي كانت تتساقط منذ وقت طويل دون أن أفطِن إليها، وقد دَفَنَتْ وجهها بين يديها، وكأنَّها تمثال نافورة في بستان، وهي تبكي في هدوء.
كانت دموعها بالنسبة إليَّ كأنين الزمن عندما يقترب الظلام، وكتنهُّدات الألفاظ المرصَّعة في أشعَّة تمزِّقها الأظافر، وكأنَّها العصافير الجريحة التي تخلَّت عنها روح معذَّبة.
لقد كانت الزهور والحقول والغابات هي التي تبكي، بل وربَّما أيضًا مطر الخريف الرمادي، وكأنَّ جوقة من القيثارات ترتعد في الفضاء، وزهرات أقحوان الغابات اللدنة تهتزُّ فوق سيقانها الرهيفة، وكأنها لُباب الذهب، وأشجار وهميَّة تُلقي أوراقًا وهميَّة على مخمل الطريق الذي تجوبه رعشةُ صدى يتيم.
وخطر لي أن أُدير محول الكهرباء الموجود إلى جانبي، ولكنَّني شعرت بيدي يغزوها خدر عذب، وأحسست كأنَّني قد انغمست في ماءٍ عميقٍ فاترٍ هادئٍ لم تجرؤ ذراعاي أن تبرزا منه، وكثف الظل وكأنَّ كتبي وجميع أشيائي قد نُشر فوقها بساط من الزغب والعشب والحشائش.
وقالت أزهار النباتات المُشعَّة للضوء: إنَّ القمر سيظهر قريبًا.
وقال الجراد الخفيُّ: ستبرز أمام أبصارنا أبهاء ذات قباب، وبيوت على السفوح بأسقف من القرميد، وستنشقُّ لنا بحيرة زرقاء مغطَّاة بالأزهار، وستخترق الوعولُ المستنقعَ؛ لكي تعود إلى مأواها.
ثمَّ انظر … ها هي الغزلان تقفز في الموج، وتتسقط بأذنيها همسات النسيم، ثمَّ أنصت إلى هذه الأغنية العميقة التي تُشبه النواقيس الغرقى، والضفادع ذات الظهر التركوازي تظهر في ضوء القمر فوق رعشة الموج.
وعن بُعدٍ علا صوتُ بوقٍ في مكانٍ مُحاط بجدران صخرية، وطُرُقات مزدانة بالزهور، وحاول رجلٌ يشدُّ حزامًا ذا مفاتيح أن يفتحَ في رفْقٍ الأبوابَ الحديدية الصامتة، وخطت قدمه فوق الدرجات المخملية، وكنت هناك خاليَ النفْس وسط كتبي كلها، وميلا إلى جواري ساكنة متَّكئة على الأرفف، وقد توقَّف لساني كإبرة البندول، وكنت أخشى أن أُحرِّكه، وكيف تستطيع ساعة توقَّفَتْ أن تُحدِّد الزمن وسط الليل، فالإنسان ينظر فيه دون أن يرى، وكان وجه ميلا أبيض كالقماش وباردًا، ومددت ذراعي لكي أضيء النور، فاصْطَدَمَتْ يدي بكتفها إلى جِواري، بينما امتدَّت يدها لتتحسَّس رأسي، وكأنها تبحث عن قبسٍ، وعندما تصبح الألفاظ عبثًا تعرف الأيدي كيف تجد الألفاظ والأفكار المناسبة.
– وسألت ميلا: لماذا تبكي؟ لماذا؟!
– أنا لا أعرف البكاء.
– ولكنَّنا نبكي على غير وعيٍ منَّا كالغرقى فوق جزيرة مظلمة.
ودخل زبون ضعيف البصر يتعثَّر في خطاه إلى الدكَّان فأعادنا إلى الواقع، وهو يقول: «عفوًا … هل هنا أحد؟ … إنَّني أريد مرجعًا حسنًا في الفلسفة العامة.»
(٢) القط
لقد دخل المنزل منذ شهرين في انطلاقٍ وبساطة، وبالرغم من أنَّها كانت أول مرَّة يدخل فيها، فقد لاح كأنَّه يعرف الأماكن، وأنَّه قد امتلك يومًا شيئًا في هذا المنزل، بدليل الأُلْفة المتناهية التي كانت تلوح في نظرات عينيه الصفراوين، وثبات خطوته المخملية المنسابة التي أخذَ يجوب بها الحجرات وبفروته المخملية، وملكة الملوك نفسها لا يمكن أن يكون لها مثل أقدامه الرقيقة، وخطوه الأرستقراطي الطلق، والمشية العذْبة التي يسير بها قطنا الضال.
من أين أتيت أيُّها القطُّ الأسود كسواد الظلام، واللدن كالبخار المتصاعد من الهوات الداكنة؟ وكيف اخترْتَ مَسْكَنَنَا مأوًى؟ وهل كنت عندنا من قبل أثناء غيابنا أو نومنا أو رحلاتنا إلى البحيرات المكسوَّة بقصب الأعشاب؟ كيف هبطت إلى هنا؟
هل أرسلك أحدٌ لا نعرفه يُعنى بنا؟
نياو! هكذا أجاب القط، وقد رَفَعَ نظراته المشعَّة من عينيه القمريتين نحونا واثقًا من أنَّها ستلتقي بنظراتنا، فالله قد منح جميع الكائنات التي خلقها وسيلةً للتفاهم، والأعين هدية السماء، وقد خُلِقَت خارج إطار الدم واللحم، وكأنَّ كلَّ عين زهرة تحمل في جوفها فتاتًا من نجمة.
ما دمت قد أتيتنا فجأةً؛ فأهلًا بك يا مينو، انظر إلى هذه الأريكة، سأعطيها لك هدية! وانظر إلى هذه المرآة التي ستتجمد أمامها! وفي هذا الإناء الفخاري المطلي بالميناء، ستجد نبع ماء لفمك الصغير الشبيه بورقة القرنفل الوردية الشاحبة، وسيملؤه لك الأطفال كلَّ يوم بدلوِهم البلوري، وها هم الأطفال.
وأجاب القط: مياو مياو!
وفراؤه المخملي يمتدُّ على طول جسمه من الصدغ إلى الذَنَب، وهو يروح ويغدو حاكًّا دفئه بسيقان الأطفال العارية.
والولد الذي لم يَرَ القط من قبل في قمَّة الانفعال، بينما الطفلة مأخوذة بفرائه الأسود كالليل، وبقفَّازات مخالبه الناعمة كريشة فنَّان، والجدَّة الأكثر خبرة في كثيرٍ من الأشياء تُضْفِي علي القط وفرائه فضيلة جلب السعادة.
ولم يتركنا القط، وفوق وِسادة من الحرير الخفيف التي تُشبه الظلال مطرَّزة بخيوطٍ من الذهب أخذ ينام ليلًا ونهارًا، وكأنَّه سيستريح طوال حياته من مشاقٍّ ثقيلة أنهكَتْه في حياته السابقة، ولمَّا كُنَّا نعمل بلا راحة، فقد سعِدنا بأن نُؤْوي في بيتنا عاشقَ الراحة والكسل الباسم، وقد زيَّنَّا الحجرة التي ينام فيها قطُّنا بأثمن ما نملك من مقدَّسات: الذبالة والكتب والأيقونات، وما احتفظنا به من مخلَّفات الأجداد كساعة الحائط التي تدقُّ الساعات في بطء كأنها ناقوس البرج، والأبسطة الصوفية المخططة كأنَّها الطرق عندما تستحم بضوء الشمس، وشرابة حرير من المفرش تُداعب أذن القط، وكأنَّها فراشة سوداء نُسِيَتْ على صدغه ذي الشوارب.
إنَّه يغزل كالمغزل، ويوشوش كالبحر، ويغنِّي كالريح، ويُصفِّر كسيقان القمح، على نحو ما تنتحب الغابة، والماء ينساب منها، ويئنُّ الصفصاف وتزمجر العاصفة، وهو في نومه يضع أذنه على الأرض ليسمع مزهر العالم، وصوته يغنِّي في كل شيء في السماء وفوق الأرض، وفي الهاوية، وفوق القمم الضاربة في الفضاء، وحلمه يُسمَع كصدى قيثارات المياه!
(٣) شجرة العرائس١
ما دمتم قد كنتم عقلاء، وما دمتم لم تدقُّوا اليوم الطبل بالعصي فوق الطست، وما دمتم لم ترموا الأطباق من النافذة، وما دمتم لم تكسروا أسنان الأقلام التي أشحذها بعناية كلَّ يوم، وما دمتم لم تتركوا الصنابير مفتوحة تُغرِق البيتَ كلَّه، وما دمتم لم تُلطِّخوا مقابض الأبواب بالمربَّى، وما دمتم لم ترموا في النار كيس طباقي، وما دمتم لم تحاولوا إصلاح ساعتي بالشاكوش ولم تشووها بعد، ما دمتم لم تصنعوا من حذائي حساء، وما دمتم لم تُحدِثوا خروقًا وفتحات جديدة في ملابسي، فإنَّني سأصحبكم معي! نعم … هيَّا يا صغارِيَ الأعزاء! البنت مع بابا، والولد مع ماما لنتنزَّه في الحقول بصحبة كلبنا جريفي!
سنخترق أولًا ستائر الأعشاب المجنونة، ونسير عبر غابات الشيح، وعبر دانتيللا براعم الأقحوان الصفراء.
وبمجرد أن نخرجَ من هذه الجنَّة الوحشية، ستُحِسُّ أقدامُكم بعشِّ القدِّيس جان ندوس على بساطِه: أنا بأرجلي الكبيرة، وأنتم بكعوبكم الصغيرة التي تُشبه قطع الخبز المجمرة الوردية، ولا تلقوا عليَّ أسئلة كثيرة في وقتٍ واحد حتَّى لا أَرْتَبِكَ، ولا تكونوا طلعة فتسألوا لماذا الأرض سوداء والعشب أخضر والسماء زرقاء؛ وذلك لأنَّني لا أعرف شيئًا عن ذلك إطلاقًا! وستنطلق أمامنا عصافير، وقطا مستحيل الجسد، وغربانٌ كبيرة، فلا تسألوني كيف ولماذا تطير لأنَّني لا أعرف، ولا ترموني بالحجارة، وإلا اختفيت في العشب، ورفضت أن أستمرَّ في السير ما لم يُعْطِنِي كلٌّ منكم عشر قبلات صغيرة؛ واحدة على خدي، والثانية على الخد الآخر، وعلى الذقن، وعلى طول أذني، وعلى عيني مغلقة.
ماذا كنت أقول؟ … آه نعم … تذكَّرت … ما دمتم قد كنتم عقلاء، فسأريكم شيئًا على الناحية الأخرى من القناة، وهو الطاحونة، حيث ترون رجلًا عجوزًا ذا لحية من الكِتَّان وحواجب كالفرشة يطحن طوال النهارِ الدقيقَ الجيد لصنع الحلوى، ولن تأخذوا في الصياح عندما نمرُّ إلى جوار الطاحونة؛ لأنَّ العجوز سيخرج إلى العتبة ويهدِّدنا بإصبعه الطويل كالعصا، وعندئذٍ سأرفع ساقي إلى عنقي! وإذا أمسك بكم العجوز فإنَّه سيضطركم إلى صنع كرات صغيرة من دقيق الذرة لفئران الطاحونة، ولديه منها ما يقرب من الثمانمائة!
وعند عبور القناة سأحملكما أنتما الاثنين على ظهري: أحدهما على الكتف الأيمن، والآخر على الكتف الأيسر؛ لكي لا تُمسك الكابوريا بأرجلكم، وتنغمس في صفحة أقدامكما، وسترون في الماء بهيمة كبيرة وطفليها فوق ظهرها، مُنْحَنِيَيْن فوق القناة، فلا تسألاني عنهم، ولا تسخرا مني، وإلا انحنيت في الماء على أربع، وعبرت في هذا الوضع بِكُمُ القناة، وأنا أصيح «كواك كواك» مثل هذه الضفدعة التي أخرجت من الماء خيطومها الأخضر لكي تضلِّلنا وتخيفنا.
ثمَّ إنَّني سأريكم شجرة تنمو فوقها العرائس؛ ولذلك سمَّاها الناس «أبو العرائس»، وليس لتلك العرائس أمٌّ، بل لهم أبٌ فقط، ولكنَّكم لا تستطيعون أن تتصوَّروا أي أبٍ هو، بشواربه الاثني عشر، وذقونه الاثني عشر الشبيهة بذقون الجَدْي، وفي لون الجزر، وعرائس الأسرة كلها في هيئة واحدة، فقد احمرُّوا لطول بقائهم في الشمس!
وسأريكم غابةً تصنع العرائس مكسوَّة بملابسها، مكسوَّة بسبعة قمصان بيضاء، ومن فوقها شدَّ الأب عباءة ذات لون أخضر فاتح، وسترون هذه العرائس واقفةً على الشجرة ملفوفة بملابسها «المكشكشة.»
سترون العرائس بشعورها الحمراء المجعَّدة وسنأخذها معنا، ونقصُّ شعرها لنعطيها ملابس أخرى؛ وذلك لأنَّ شجرة العرائس شجرة ذكية، فهي تصنع أيضًا لآلئ من العنبر الأصفر التي تأكلها الأرانب بالليل في ضوء القمر.
ليس هذا إلا جزءًا صغيرًا جدًّا مما سأريه لكم، وإذا أراد بابا — ويجب أن يريد وإلا ضربناه بجوارب ماما — فسأريكم أشياءَ أخرى كثيرة خلف النهر وخلف التل، وخلف الأماكن التي يطنُّ فيها النحل ويجأر الدبُّ.
(٤) سن سعيدة
على المائدة
الملعقة لا تُمسَك باليد اليسرى … حاسِبْ على الفوطة … ستوسِّخها! ولست أدري ما العمل؟ فالأطفال يوسِّخون خمسة أطقم من المفارش كل يوم! لقد قلت لك: إنَّك ستصيب ملابسك بالبقع.
هيَّا … ارفع كوعك فسينغمس في الصلصة، والخبز لا يُقْضَم قضم الفئران، بل تُؤخَذ منه كسرة، يؤكل اللباب مع القشرة! حاسب … تمخَّط … لقد فقدت منديلك مرَّةً أخرى … هيَّا … مخِّط أنفك بقوة … مخِّطه مرَّةً أخرى … ألم تسمع؟ … تمخَّط بكلِّ قواك أيُّها القذر الصغير … هيَّا … غيِّروا له طبقه! انظروا إلى هذا الخنزير … ستأكل ما قلتُ لك أن تأكله لا ما تريده، إنَّ من يريد أن يُصبح جميلًا يجب أن يأكل الشعرية، شدُّوا أذنه! يا إلهي … لم أرَ قطُّ أطفالًا عصاة إلى هذا الحدِّ، من الذي علَّمك أيُّها الأبله أن تضعَ الصلصة البيضاء في «الكومبوت»! امسح فمك! لا ليس بكمِّك أيُّها القذر بل بالفوطة! لقد لوَّثْتَ وجهك حتَّى العينين، وبقيت الشعرية على أنفك! لا! لا! اشرب ماءً فالنبيذ ليس للأطفال، وستشرب منه في مقتبل العمر!
هل لك أن تسرَّني بأن تُقلعَ عن «التكشير»، وإلا أخذتَ علقة على عجُزك بدلًا من الكمثرى، فالكمثرى تُقشَّر قبل أن تُؤكل!
لا تُمْسِك السكِّين هكذا، فستجرح نفسك … هه! … أخيرًا … لقد تعلَّمت كيف تُقشِّر الكمثرى، الْفِظِ النفاية في الطبق … هه! لقد أوشكت أن تختنق، وفي المرة القادمة لن تستمع إليَّ فتكون الطامة.
لقد أكلت جيدًا؟ … قبِّل يدي وقل شكرًا … هيَّا … قبِّل! … لا بطرف شفتيك بل من كلِّ قلبك … لا بونون الآن بل بعد فترة.
والآن اجلس هناك والعب في لُطفٍ أثناء تناوُلنا للغداء، إذا أردت أن أصحبك معي للنزهة! اجلس هناك … هل سمعت؟ ولا تتحرَّك، فسوف نقوم بنزهة جميلة … أليس كذلك؟
في النزهة
ستجنني … أين ومتى وسَّختِ ثوبكِ؟ ألم أقل لكِ أن تظلِّي عاقلة أثناء ارتدائي لملابسي؟ بأيِّ حائطٍ احتككتِ؟ وأنتَ … ما هذا البنطلون المفكوك الأزرار؟ هل رأى أحدٌ مثل هذا؟ تعالَ هنا كي أنظِّف حذاءكَ! ما هذا الحذاء «المزيكاتي»؟ أَوَمَا تخجل؟ لقد أَضَعْتَ زرك «زرارك»! أعطني يدك كي نَعْبُر الطريق، ولكن لا … فأنت تريد أن تدوسك العربات! لقد قلت لك ألف مرَّة أن تنظرَ إلى اليمين وإلى اليسار قبل أن تعبر الطريق، وأن تعطيني يدك! هيَّا! تماسكوا بالأذرع وسيروا بلطف … كيف؟ أَوَمَا تريد أن تُعطي ذراعك لأختك؟ أين أنت فيما تظن؟ أعطها ذراعك وفورًا ولا تُزْعِجْنِي بزَمْجَرَتِك! ماذا قلت لك في أذنك؟ لماذا شَتَمْتَها أيُّها الوقح؟ اترك يدَها كي أضعك في هذا الركن، وستسرني بألا تتحرَّك من هنا حتَّى يأتي جندي المرور ليأخذك منه! … وأنفك ملصق بالزجاج … يا للعجب! هذا الغلام الشقي يجب أن يُترك وحيدًا، وها هو قد أخذ يتسلَّق السياج وسيمزق ثيابه، تعالَ هنا! أتسمعني! لا تضطرَّني إلى أن أصيح! تعالَ هنا فورًا وإلا أتيت أنا يا رأس البغل، خُذْ هذه فستعلِّمك أن تكون أكثر طاعة!
لا لا! إنَّها ليست لك … اغرب عنِّي، بل لهذا الكلب، وإلا قفز عليك ووسَّخك! هيا! اذهب أَوَمَا ترى كيف أنَّ الكلب أعقل منك! لقد فهم وابتعد!
لا، لا بالونات تنفجر فورًا، ولديك من المطَّاط كل ما تريد في البيت! لا لا! لا داعي للطبلة، فقد أَصَبْتَ أذني بالصمم! هيا! ارفع رأسك إلى أعلى! ما هذه الأكتاف المحنية؟ أتريد أن تصبح أحدبًا؟ لا … اترك هذه القمامة يا قذر … مستحيل! هذه الزهور ملكٌ للبلدية، ولا تمشِ على العشب وإلا جاءك أبو الشوارب «وهبشك»، لا … الإنسان لا يشرب ماء المدينة! كيف ستأكل هذه الفطائر الملوَّثة، والملبن لديك في البيت خيرٌ من هذا! واللعَب لديك منها ما يكفي … لا تلمَسْها فالملك يقيم هنا، أنت ثانية؟! ألا أستطيع أن أنظر في واجهة دكَّان، الشيكولاتة تسبِّب ألمًا في المعدة! لا … هذا ليس للأطفال! لماذا تحكُّ ساقيك هكذا؟ … لا تستند على لوح الزجاج فستكسره … ماذا تفعل هناك؟ أخرِج إصبعك من فمك!
إذا كنتم عقلاء وسرتم في لطف؛ فسنذهب إلى المنزل وسأقصُّ عليكم حكاية الدب والقنفد.
في المنزل
لا … اغتسل أولًا وسنرى بعد ذلك، اخلعوا ملابسهم وأَلْبِسُوهم قميص النوم وأعِدُّوا الحمام بماءٍ فاتر … وتتكرَّر نفسُ الحكاية عندما تأتي عملية الاغتسال … هل رأى أحدٌ قطُّ إنسانًا يأكل أو ينام قبل أن يبتسم؟ … ما هذا بغير صابون؟ ماذا في الصابون؟ هكذا بالصابون والماء الساخن! لا تبكي وإلا أصبحتِ قبيحة! فأنتِ ملحوسة كالفأر الذي رأيته منذ أيام، اسكتي ستقلبين المائدة وتكسرين كلَّ شيء! انتبهي إلى المرآة، خذوها من يديها، لا تشدِّي المفرش، إنَّها الساعة السابعة والنصف ولم تذهبي بعدُ إلى الفراش! في الساعة الثامنة يجب أن يكون الأطفال وسط الأحلام … لا لا! نامي سريعًا! ليست هناك صور، ولقد قلت لكِ مع ذلك إنَّني سأعود إليكِ وأنتِ نائمة، ما هذه الوسائد الملقاة على الأرض؟ أَوَمَا تخجلين من الضحك عليَّ؟ إلى النوم فورًا، لماذا هذه الشقاوة؟ … آه! وإنَّك ستتسلين بذلك … هه … خلاص! فأنا أنام.
أيُّها الشقي! انتظر قليلًا حتَّى أنادي بابا! هيَّا يا بابا تعالَ ومعك حقيبتك، وخذ هؤلاء الملاعين الذين لا يريدون أن يناموا! ماذا تقولين؟ ليس هنا ملاعين، أَوَمَا تخجل من هذا؟ لا لا لا! سننام أولًا، وسنُقرِّر غدًا متى نذهب للنزهة، نام الولد الصغير وبين ذراعيه عروس عجوز من الخشب، والبنت تحتضن على صدرها قسِّيسًا في ثوب أحمر وقلنسوة ونظَّارات.
وقالت الأم: آه، كم أَتْعَبُونِي … هؤلاء العفاريت الصغار، وقال الأب: قبِّليهم برفق لكيلا توقظيهم.
قال ذلك وهو يدخل غرفة النوم بمعطفه وطاقيته المبطَّنة وعصاه، ولنذهب سريعًا إلى المائدة فالساعة الآن التاسعة والنصف.
(٥) خطاب عائلي
كان لدينا قديمًا في صندوق قبَّعات قديم دبٌّ من القطيفة لو لم يكن أصفرَ في لون عباد الشمس لأصبح مخيفًا، ولارتعد منه المخزن كله، وكان تحت أخشاب السقف أيضًا خروفان مجزوزان، وثلاثة أبقار كسيحة ومُهر سكن هناك؛ لأنَّه من الخشب!
وكان دبُّنا إذن أصفر، وهذا اللون يجرِّد الأشياء من صرامتها ولا يخيف أحدًا؛ ولهذا اختارته الأزهار، وكان للدب فوق ذلك عينان من الزجاج تتجهان بنظراتهما مباشرةً إلى السقف، وأعتقد أنَّ الآنسة الخيَّاطة بعد أن كست الدب بستِّ قطع من القطيفة — التي فصَّلتها بمهارة — أخطأت في اختيار الصندوق، وعندما همَّت بتركيب العينين، فبدلًا من أن تأخذ عينَي دبٍّ أخذت عيني حمامة! والدبُّ فيما يبدو لي يجب أن تكون نظرته شريرة، ومع ذلك فنظرة دبِّنا كانت مليئة بالطيبة.
كان الدبُّ قد أقام هنا في المنزل عامين كاملين قبل أن يصعد إلى المخزن، ولكنَّه كان يُحدِث من الأضرار ما اضطرَّني إلى أن أعزلَه، وهكذا استيقظ ذات صباح ليجد نفسه في صندوق القبَّعات، بعد أن حاوَلْتُ عبثًا وبكل الطرق أن أردَّه إلى الاستقامة.
فالخيَّاطة عندما كست دبَّنا بقطيفة جاكتة مبطَّنة من مخلَّفات الجدة، لم يخطر ببالها أنها بحَبْك هذا الكساء قد خلعت عليه دون أن تدري عيوبًا لم تكن في الجاكتة، ولا في القطيفة في الزمن الخالي، وأبو جميع الدببة الذي يتجوَّل في الخفاء عَبْر العالم، ويسهر على صغاره هناك بأعلى الجبل، حافرًا لها كهوفًا، ومدحرِجًا في الشتاء كتلًا من الصخر؛ ليوصد بها أبواب تلك الجحور، والذي يقلق صغاره أثناء نومها ويمشطها، ويقصُّ أظافرها بمنشار من الفضة يحتال لكي يمر بالدببة الصغيرة ذات القطيفة المحاكة للأطفال، وبالفتيات الصغيرات الرقيقات الأنامل، ويخدشهم هنا وهناك.
ودبُّنا قد اكتسب عادةَ السرقة الرديئة، ولم يكن يسرق إلا البونبون والشيكولاتة والمربَّى والفواكه والملبن! وبمجرد أن يأتي بابا إلى المنزل، ومعه صندوق من الحلوى كان يتشمَّمه ويُسرع في الإجهاز عليه دون أن يراه أحد.
من أكل الشيكولاتة؟
فتصيح البنت والغلام معًا في جوقة صائحين: إنَّه الدبُّ!
لقد رآه الاثنان معًا، وقبضا عليه مرَّات كثيرة وهو يحاول الهرب تحت الأريكة ممسكًا الصناديق بين ذراعيه، وذات يوم مزَّقا أذنه المحشوَّة بالقطن، وخلال عامين كاملين الْتَهَمَ الدبُّ بهذه الطريقة جميع المربَّى والحلوى والمشمش الأخضر والبندق والليمون الحلو والفالوذج، ولكن من الواجب أن نقول: إنَّه لم يكن يأكل السلطانية دفعة واحد، بل يأخذ منها قليلًا كل مرة، وكان يتناول بضع ملاعق من المربى، وحفنة بونبون يتلمَّظ بها قليلًا قليلًا.
وهكذا تقرَّر عزلُ اللص في المخزن كعقاب له، وللمحافظة بعد ذلك على المربَّى وبونبون الأطفال، ولكنه استمرَّ في السرقة التي ينزل لأجلها من المخزن، حقًّا إنَّنا لم نقابله قط على درج السلم؛ لأنَّه يَحْذَرنا، وأمَّا الأطفال فقد رأوه هم ولعدة مرات، فهو يقترب مختلسًا الخطى، ويفتح الدولاب وينزِع الأغطية ويُفرغ السلاطين والصناديق، ثمَّ يعود سريعًا إلى جحره؛ وذلك لأنَّ الدب لا يفكِّر في الاختفاء من الأطفال، وكان نفيه إلى المخزن ضرورة حتمية بعد أن تبين أنَّ الجمل الصغير المجعَّد قد انتقلت إليه العدوى من الدبِّ، فأخذ هو الآخر يأكل السكر.
والكرة حذت حذو الجمل، فأخذت تتذوَّق هي الأخرى المربَّى المسروقة والبونبون والفطائر، بل يلوح أنَّ الدب لم يأكل قط قدر ما أخذت تأكل جميع الكرات التي تهجم الآن على السلاطين والصناديق وتفرِّغها بسرعة.
وبابا لم يعاقب الدبَّ أو الجمل أو الكرات؛ لأنَّه يعلم أنها لا بدَّ أن تنموَ كما أنَّ الدواليب لا تُغلَق بالمفتاح، بل وغطاء صناديق البونبون مرفوع قليلًا، وورق السلفان الذي يغطِّي سلاطين المربَّى غير مربوط؛ وذلك لأنَّ الكرات ليس لها أصابع تَحُلُّ بها الخيط وتفتح الدواليب، ومع ذلك فبابا سيتربَّص أحد الأيام في الدولاب نفسه، وعندما يأتي الدبُّ والجمل في هدوء لكي يتمتَّعا وبين مخالبهما ملعقة صغيرة، سيجدون بابا مختفيًا بين سلاطين المربَّى، ولست أدري من الذي سيتملَّكه الخوف أكثر من الآخرين عندئذٍ ويولِّي الأدبار: الجمل أم الدب أم بابا؟
سأكتب لكم بما يتم.
(٦) الرجل المسكين
كنا نعرفه شقيًّا بائسًا، وقد اعتدنا حالته الاجتماعية الثابتة إلى الأبد، كأحد حروف الأبجدية، فهو مثقَلٌ بالهموم، ويستنشق حزنًا عميقًا.
ولم يكن يعرف كلَّما التقينا به حديثًا غير حديث الظلم الأبديِّ الذي وقع فريسةً له، والمضايقات العديدة التي لا بدَّ أن يخوضَ فيها كل يوم وكأنَّها البرك أثناء غدوه ورواحه، والرجل المسكين كان يعمل مُدَرِّسًا أو موظفًا أو صحفيًّا أو بغير مهنة محددة، وكان الرجل المسكين مشتَّتًا ومُجمَّعًا، وكثيرًا ما نلتقي في كافَّة الطرقات وكافة الأيام بمثل هذا الرجل المسكين المسحوق بين العربات التي خرجت عن شريط الحياة.
وذات يوم بينما كنا نكدح مع عائلتنا في نزهة يوم أحد على الأقدام بعيدًا عن المدينة، مرَّ الرجل المسكين إلى جوارنا في سيارة فخمة، وكلٌّ من أفراد أسرته يحمل مخلاة محشوَّة بالمأكولات، وقد أغرق أشباحنا في تراب الطريق، وأوشك أن يدوسنا، وعند عبوره بنا لمَحَنا ولاح متأثِّرًا، من كان بالسيارة؟! يُلوِّح أنَّه قد حيَّانا!
وبعد أيامٍ قليلة قابلنا الرجل المسكين سائرًا على قدميه في المدينة مقوَّسًا ممزَّق الثياب خابي النظرة، وكان يحمل تحت ذراعه حقيبة مليئة بالكتب، وقد أوضح لنا — دون أن نطلبَ منه شيئًا — كيف ولماذا كان يوم الأحد الماضي في سيارة فخمة، وقد شلَّ معارضتنا بإلحاح، فأكَّد أنَّها كانت عربة أحد أصدقائه، وهو رجل ثريٌّ يضعها أحيانًا تحت تصرُّفه لكي يمكِّنه هو وأسرته من الذهاب إلى الجبل؛ لاستنشاق قليلٍ من الهواء، وقد انتهز الفرصة لكي يصل إلى مصيف بوستيلي في الجبل، وعاد في نفس المساء إلى بوخارست، والخوف يسيطر عليه من وقوع حادثة، لا بالنسبة له ولا بالنسبة لقبيلته العائلية، بل بالنسبة للسيارة، وكان قد تعلَّم القيادة لحسن الحظ، وكان مثالًا للحذر، فعند انحناءات الطريق كان يُهدِّئ إلى أقلِّ سرعة ممكنة، وكذلك عند ملتقى الطرق، وكان مالك العربة رجلًا ثريًّا وكريمًا، فكان يعطيه البنزين نفسه مجانًا؛ لكي يجعلَ النزهة أقل ما تكون كُلفة عليه، وأمَّا فيما عدا ذلك، فالأمور تأخذ مجراها العام، ولمَّا كان الرجل المسكين لا بدَّ له من أن يأكلَ في بيته، فقد نَقَلَ ببساطةٍ وَجْبَتَهُ من العاصمة إلى الجبل.
وفي يومٍ آخر أخذ الرجل المسكين يبني بيتًا، ووجدناه يصيح بالأوامر وسط الجرادل والحُفَر المملوءة بالجير على حافَّة رصيف، ويقسم كالوثني، وعند رؤيته لنا تحوَّل إلى رجلٍ ودود لطيف، ولاح خجولًا، ولكن في غير اضطراب، ورأى أن يقدِّم لنا تفسيرات مؤصَّلة، فامرأته قد ورثت من عمٍّ بعيد مات بغير وارث مباشر، ولو كانت التركة متواضعة، لما منع ذلك الأسرةَ من أن تتشجَّع، فتذكَّر أنَّ لها صديقًا بالغ الغنى كان قد وعدها بقطعة أرض صغيرة للبناء عن طريق القرض، على أن تردَّه عندما تستطيع دون أن يضعَ أحدٌ السكِّين على عُنُقها، وأمَّا الطوب فقد استعاره من صاحب مصنع كانت أحواله على غير ما يُرام، وقد حصل منه أيضًا على الخشب والجير، وعندئذٍ لم يرَ ضيرًا في أن يبدأ العمل، وأن يسير في المهمة، فالنجاح يصل إليه الإنسان دائمًا بقوَّة الإرادة والنشاط؛ وخاصةً مع الإيمان بالله، وكوخ يملكه الإنسان في نهاية حياة كادحة، أَوَمَا يستحقه رجلٌ مسكين؟ وما دام قد أخذ في بنائه فليجعله أكبر اتساعًا حتَّى ينجزه في وقتٍ أسرع، وكان يضم سبع شُقَق، وأضاف الرجل المسكين: لا بأس! شيء قد بُني باقتصاد شديد وبأقلِّ قدرٍ من المواد.
الرجل المسكين هنا والرجل المسكين هُناك، وفي كل مكان يحاول الرجل المسكين أن يُخفِّف ولو قليلًا من بؤسه في فترةِ أزمة لم يُرَ لها مثيل من قبل، وبطريق غير محسوس لم يعد رجلًا مسكينًا وأصبح رجلًا وقحًا ثرثارًا، يمتدح الشرف والاقتصاد وروح التنظيم والعمل والمثابرة، وجميع الفضائل التي يستخدمها رجل مسكين لكي يمتلك منزلًا كبيرًا وعربةً كبيرةً وأرضًا واسعةً وثروةً ضخمةً، بريئًا عندما يسرق، وجريئًا عندما يصل إلى هدفه.
الرجل المسكين! ماذا تريدون؟ إنَّه يفعل ما يستطيع.
(٧) ماريا نيكيفور
اتُّهمت بالسرقة من أسيادها ماريا نيكيفور الأبيَّة، المنتمية إلى مقاطعة أولكينيا، ذات المظهر الذي يشبه مظهر سيدات المجتمع، وأُلقِيَت في السجن وهي حاملٌ دون دليل يدينها، غير القرائن التي ساقتها ضدها طبيعتها الصامتة وفمها المغلق في عناد، واقْتِيدَتْ ماريا إلى عنبر النساء، كالمُهر الضال وسط قطيع من الجاموس الغارق في الأوحال.
وعند العتبة ارتدَّت خطوة وشدَّت قبضة يدها كأنَّها ستضرب، فدفعها الحارس برفق في عنبر النساء، ولكنَّها دخلت في تردُّد متسلِّلة حتَّى نهاية العنبر، وكأنَّها على حافَّة معجنة الوحل، لا ينبغي أن توضع القدم على حافَّتها إلا في حذَر.
ودَّعتها القديمات في المهنة قائلات: «هيَّا يا منافقة! إذا كنتِ لم تخجلي من السرقة، فلا ينبغي أن تتحرَّجي منها! هيَّا! أقدِمي، وحدِّثينا كيف ضربت الضربة!»
وحاصَرَتْها تلك الطُّغمة من النساء ذوات الأوجه الكريهة التي تتفاوت بين الانحلال والحيوانية، وقد جَلَسْنَ في حلقة داخل العنبر يُقشِّرن البسلة، ورأت ماريا نفسها مضطرَّة إلى أن تودع لفَّة ملابسها عند الحارسة، وقد وَضَعَتْ فيها رداءها الجميل الخاص بجبال جورج ومنديلها الهفَّاف، الذي كان يعطيها يوم الأحد هيئة ملكة منحدرة من مملكة الغزلان والوعول بين خادمات بوخارست، وأخذت أصابعها تسرد حبَّات البسلَّة وكأنَّها المِسْبَحَة، وانتهى الموسم وجاء دور الكرنب والطماطم والخيار، وأخذت ماريا تقشِّر خضروات الشتاء في غير تململ، وكان صوتٌ يصيح من وقتٍ إلى آخر: «إذن يا ماريا، هل سرقت أم لا؟ … يلوح أنَّكِ قد سَرَقْتِ مفارش من أسيادك.»
وردَّت ماريا — وهي ترسم علامة الصليب: أنا أسرق مفارش؟! لعنكنَّ الله.
ومر الخريف ثمَّ الشتاء كله، وفي الربيع وَضَعَتْ ماريا طفلًا كان أوَّلَ طفل يُولَد في هذا السجن، وكانت محجوزة منذ سبعة أشهر دون أن تُسْتَدْعَى للتحقيق، وقد حرَّك نبأ ميلاد كائن إنساني في السجن انفعالًا جديدًا في قلب ثمانمائة سجين، وقد كان هناك لصوص عتاة مكبلو الأيدي والأرجل يجرُّون قيودهم منذ سنوات متعثِّرين فيها، وكأنَّهم بروميتيوس الهارب من صخرة عذاب، والقتلة الخطِرون، والنشَّالون النصَّابون، والمحتالون الخبثاء بقلنسواتهم المخطَّطة، وطاقيات المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، وجميعهم عندما وصل إلى العالم، هذا الكائن الغريب، ونزل في وسطهم، أحسُّوا بموجة من الحرارة تغمرُهم، وبخَدَر باسِم يدبُّ في طبيعتهم الوحشية، ورأوا في هذا الكائن الرهيف يدًا تمتدُّ إليهم من الله.
وتم التعميد بعد القُدَّاس في كنيسة السجن في حضور جميع المجرمين الذين ردَّدوا الترانيم، وغنَّوْا النشيد للرب، وترنَّموا بصوتٍ ناعم كالقطيفة: «أيَّتها العذراء المقدَّسة، يا أم الرب، امنحينا رحمتك»، وكان القسيس الذي قدم من القرية ليباشر الشعائر هو المواطن الوحيد الحر، وأمَّا بقية الجوقة من مغنِّين وشمَّاسين ومؤمنين فكانوا من المحكوم عليهم بعقوبات تمتدُّ من سنة حبس إلى الأشغال الشاقة المؤبَّدة، فهم يمثِّلون جميع مواد قانون العقوبات.
وتلقَّى الطفل هدايا عديدة، فقُدِّمت له ملاعق من الخشب مصنوعة في السجن، وحمَّالات بيض جميلة النقش، ومسبحات مصنوعة من شعر أشقر، ولآلئ من لُبَاب الخبز حمراء اللون ملوَّنة بالماء المنساب من ميازيب السقف، المطلية باللون الأحمر!
وأعطاه ميتيتا صانع القيثارات قيثارة جديدة صَنَعَها له خصِّيصًا، واللص ماراكينيانو مبسمًا وشمعدانًا، بينما أهداه مزوِّر نقودٍ فلسًا من الفضة الحقيقية، معلَّقًا في خيط من الحرير كبركة.
وحوالي عيد الفصح أخذت ماريا تستفيد من بعض المزايا، والإدارة ابتدأت تشكُّ في إدانتها، فمنحَتْها حق التنزُّه في فناء السجن، حيث كانت تخرج وطِفْلُها بين ذراعيها وكأنَّها العذراء، وكانت إدارة السجن تحترم وَضْعَها كأمٍّ احترامًا مشوبًا بالقلق، وما كان المسجونون يرونها تظهر تحت الأشجار حتَّى يتملَّكَهم خوف غريزي.
ومرَّ عام ونصف على هذا النحو، وكان من الممكن أن تمرَّ الحياة كلها، لو أن إدارة السجن لم تَنْهَ من خلال الروتين المعقد، إلى كتبة النيابة أنَّهم قد نسوا أنَّ هناك امرأة ومعها طفل ما زالت موجودة بالسجن ولم تُقدَّم للمحاكمة، ولعدم وجود أدلة في الملف حُكِم عليها بالحبس خمسة عشر يومًا، وفي الواقع أنَّه كان من الصعب الإفراج ببساطة عن امرأة متَّهمة بالسرقة، وبعد المحاكمة عُرِفَ أنَّ أسيادها السابقين قد وجدوا المفارش المذكورة في دولاب كانوا قد دسُّوها فيه عند عودتهم من المرقص.
واستمعت ماريا إلى الحكم دون أن ترفعَ بصرها عن ثديِها الذي كان يَرْضَع منه طفل متورِّد يُقرقِع بشفتيه، أزرق العينين عميقهما.
وكانت سعيدةً بفكرة أنَّها ستستطيع بعد خمسة عشر يومًا، أن تحملَ طفلَها الحبيب خارج تلك الأقبية والأبواب المغلقة في السجن.
وفي اليوم السادس عشر ودَّعت اللصوص نساءً ورجالًا، وأَسْنَدَتْ رأس طفلها على كتفها المطرَّز بحرير قميصها، وأخذت لفافة ملابسها، وتوجَّهت نحو مكاتب الإدارة حيث قال لها الموظف المختص: «إنَّ أَمْرَ الإفراج لم يصل بَعْدُ، وليس لكِ إلا أن تنتظري، فهو لن يتأخر»، وانْتظرَت ماريا ساعة وأخرى، ثمَّ جاء وقت الغداء.
– ألم يصل ذلك الذي تحدثت عنه.
– لم يصل بعد.
وهكذا انتظرت حتَّى وقت العشاء، ثمَّ يومًا آخر … ثمَّ اثني عشر يومًا! ومات الطفل الذي كان قد سقط مريضًا في تلك الأثناء، وفي اليوم الثالث عشر ترك الطفلُ السجنَ وحده محمولًا إلى المقبرة في نعش يجرُّه حصانٌ واحد، وبقيت ماريا بلفافة ملابسها، والهدايا التي كانت قد قُدِّمت للطفل في السجن ذي الأقفال الثقيلة، وفي اليوم الخامس عشر وَصَلَ الأمر، فقد كانوا قد نسوها للمرة الثانية!
وعند عتبة باب السجن الكبير، ترنَّحت ماريا نيكيفور وانهار وجهها، وعجزت عن أن تُتمَّ الخطوة التي بدأتها، وتجمَّدت أمام الأسوار ذات المخابئ العالية التي يكمن فيها الحراس، ومن فوقها ترتفع قباب الكنيسة، وأكثر علوًّا قبَّة السماء البيضاء في الخريف.
وفي مواجهتها على مسافةٍ ما كانت تلوح المقبرة، وإلى اليمين الطريق الذي ينحدر إلى المدينة … إلى العاصمة.