بنايت إستراتي (١٨٨٤–١٩٣٥)
بالرغم من أنَّ بنايت إستراتي قد كتب مؤلَّفاته أول الأمر بالفرنسية، إلا أنَّ جوركي البلقان — كما عرَّفه في روعة رومان رولان — ينتمي إلى رومانيا بالمادَّة وروح الخلق، وهو قد وُلِد في برايلا على شاطئ الدانوب، وقد عاش إستراتي شبابه كما وَصَفَهُ في قصصه الطريفة المؤثِّرة، واضطرَّ إلى أن يزاول كافَّة المهن، وأن يمرَّ بكافة التجارب، وبعد سنوات شاقَّة طويلة عَرَف في فرنسا — بعد سنة ١٩٢٠ — النجاحَ الذي ضمنه له إنتاجٌ أدبيٌّ فريد في نوعه، يضمُّ الشعر، والواقعية الحادَّة، والاعترافات، والحوار الدسم، وتصوير الفلاحين المُرْهَقين بالبؤس، وتمرُّد الفقراء وسحر المواني، والدعارة في الطبقات الدُّنيا، وسحر الشرق الأوسط، والحنين إلى سهول الوطن.
فكلُّ هذا وَجَدَهُ القارئ الغربيُّ في كتب إستراتي، مع ما نثره فيها من اصطلاحات وأمثلة رومانيَّة نقلها كما هي إلى الفرنسية لكي يزيد من إشراق أسلوبه، ولنذكر من إنتاجه القوي الأصالة قصص: «أدريان زغرافي»، و«كيراكيرالينا»، و«العم إنجيل»، و«الهيدوكيون»، و«أشواك باراجان».
(١) كيراكيرالينا
يقصُّ إستاورو — بائع الليمونادة في قرية برايلا برومانيا — على صديقٍ له تاريخَ حياتِه الغريبة المحزِنة.
منذ طفولته شاهد حياة اللذَّة التي عاشَتْها أمُّه وأختُه كيرا، وهما معًا تجمعان بين الاستهتار والجمال.
كما شهد تأديب الأب — وهو نجَّار متيسر — والأخ الأكبر للمرأتين، لمحاولة ردِّهما إلى حياةٍ أكثر وقارًا، فأم ستاورو — الذي كان يسمَّى عندئذٍ دراجومير — أُنهِكَتْ ضربًا وفَقَدَتْ إحدى عينيها، وذات يوم هربت ومعها طفلاها اللذان انفصلت عنهما سريعًا، ولم يَرَيَاهَا بعد ذلك قط.
وعاد دراجومير وكيرا إلى قرية برايلا، حيث عاشا في نزل، حتَّى كان يوم استطاع فيه تركيٌّ عجوز اسمه ناظم أفندي أن يغريَهما ويقتادهما إلى مركبه الشراعي الفخم، وسُجِنَتْ كيرا في حريم القسطنطينية، وأَتْلَفَ الغاصب الحقير أخلاق الأخ إتلافًا نهائيًّا.
وبعد أشهر طويلة في السجن الفخم، استطاع دراجومير أن يفلت، وكان عندئذٍ في الخامسة عشرة من عمره، جميلًا فخم الثياب، ولكن في سذاجة لا تُصدَّق، وأخذ يتسكَّع في المدينة إلى أن التقطه مصطفى بك، الذي وفَّر له حياةً أكثر بذخًا من حياته عند ناظم أفندي، ولكنَّه أضاف الكُحُولَّ إلى الانحرافات الأخرى التي كان اليافع قد عرفها.
ومع ذلك فبرغم الرقابة الشديدة استطاع دراجومير أن يهرب مرَّةً أخرى، والكمر — أي حزام النقود المشدود على وسطه — مليء بالقطع الذهبية والحُليِّ.
واستطاع أن ينتقلَ إلى بيروت، حيث استغلَّته أسرة من الفنَّانين، ثمَّ انتقل إلى دمشق حيث سُرق منه — في أحد الفنادق — الحزام الذي يضم ثروته كلها، وها هو يرى كيرا في عربة تدخل إلى فيلا فاخرة، فأراد أن يدخل هو الآخر، ولكنَّه ضُرب ضربًا مبرحًا بعصب ثور، وتُرِك على حافَّة الطريق في شبه إغماء من الألم.
•••
هنا تصل رحل عذابي إلى قمتها، وهنا تنتهي أحزان ثلاث سنوات من الطفولة المعذَّبة؛ وذلك لأنَّه إذا كان الله قد قسا عليَّ وحرمني من كيرا، فإنَّه لم يحرمني من لُطْفِه، إذ أرسل لي صديقًا.
جَمَعْتُ جسميَ الجريح، وبمشقَّةٍ استطعت أن أسحب نفسي إلى الناحية الأخرى من الطريق، وانْطَرَحْتُ على الأرض منهكًا، وفي تلك اللحظة اقترب منِّي رجل بين الأربعين والخمسين من عمره، فقير الثياب، في زيٍّ يونانيٍّ، حاملًا في يدٍ وعاءَ السحلب، وفي الأخرى سلةً بها الكوبات، ووضع أدواته وربَّع أذرعه، وتفوَّه بعلامة تعجب صادرة من أحشائه قائلًا باليونانية: «آه يا غلامي المسكين! لقد شَهِدْتُ ضَرْبَكَ ووَقَفْتُ عاجزًا، أيَّةَ إساءة ارْتَكَبْتَها في حقِّ هؤلاء المتوحشين لكي يعذِّبوك على هذا النحو؟!»
وتطلَّعت إلى وجهه المشرَّب بالإخلاص، وذقنه الشعثاء التي خطَّها الشيب، وعينيه الطيبتين الناضحتين بالألم تحت جبهته المجعَّدة، وتملَّكني الغضب وتمرَّدت على مشاعري الخاصَّة قائلًا: «اذهب إلى الشيطان، اغرب عني.»
وانفجرْتُ باكيًا، فتوثبت طِيبَتَهُ، قال: «لماذا ترسلني إلى الشيطان يا بني؟ … إنَّني أشعر حقًّا بالشفقة نحوك، وأريد عونك في محنتك.»
– دعوني لحالي، أنتم جميع الرجال بشفقتكم وقلبكم، لقد قاسيت منهما الكثير وأريد أن أموت وحدي.
– أوه! البائس … في هذه السن الصغيرة، وقد تقزَّز من الحياة! ولكن اشرب مع ذلك هذا الكوب من السحلب الدافئ، فإنَّه سيردُّ إليك شيئًا من القوة.
وقلبْتُ كأسَ السحلب، ولكنِّي لم أستطع تكوين رأي، فأيَّة قاعدة أو أي فهم يمكن أن أَسْتَخْلِصَه من هذه التجربة القصيرة، عندما أذكر أنَّ كثيرًا من الرجال الذين بدءوا بالتظاهر بالطيبة والكرم، قد تكشَّفوا في النهاية عن أنذال مجرمين؟ نعم، في سن السادسة عشرة كنت قد عرفت حقارة النفس البشرية، وإن لم أعرف كلَّ شيء.
لم أَعْرِف بوجهٍ خاصٍّ أنَّ أعمال الخليقة بالغة التعقيد والتنوُّع، وأنَّ ألْف دناءة نعانيها لا تعطينا الحق في أن نبصقَ على الإنسانية كلها، واللهُ نفسه قد أدرك ذلك عندما غضب من الإنسانية المخطئة؛ فقرر أن يعاقبها دون أن يستأصلها، ما دام قد أنقذ من الكارثة نبيًّا عادلًا وأسرته، وإذا كانت الإنسانية التي عاشت بعد الطوفان لم تكن خيرًا من الإنسانية السابقة، فإنَّها لا تتحمَّل مسئولية ذلك، إذ إنَّ الله «مثلي في السادسة عشرة» لم يُحسن فهمَ العالم، ولم يعرف ماذا يفعل.
ولقد عرفت أنا منذ اليوم الذي أَرْسَلَ لي فيه القدر بربايني بائعَ السحلب ذا النفس القدسيَّة، أنَّ الرجل الذي تُتاح له فرصة الالتقاء في حياته بمثل بربايني يجب أن يَعْتَبِر نفسه سعيدًا، وإن كنت لم ألتقِ قطُّ من هذا النوع إلا به وحده، ولكن كان فيه الكفاية لتحمُّل الحياة، بل ومباركتها أحيانًا كثيرة، والتغنِّي بالثناء عليها؛ وذلك لأنَّ طيبةَ رجلٍ واحدٍ أقوى من شرورِ ألْفٍ، فالشرُّ يموت في نفس الوقت الذي يموت فيه فاعِلُه، بينما يظلُّ الخير يُشرقُ بعد اختفاء الرجل العادل الذي فعله.
اضْطُرِرْتُ إلى التسليم، وعَلِمَ بائعُ السحلب رسولُ العناية الإلهية المأساةَ كلها، وكان علاجُه سريعًا كالبرق.
قال لي — مستخدمًا في حَذَرٍ اسميَ المنتحَلَ بعد أن صاغ منه تصغيرًا: «ستاوراكي! يجب أولًا أن تُقلعَ عن البحث عن أختِك بهذه الطريقة غير الحكيمة، واعلم أنَّه من الأسهل أن تنتزعَ ظبية من فم النمر، عن أن تنتزع امرأةً محبوسةً في الحريم، وإذا استطعت أن تتغلَّب على هذا الضعف العاطفي، فإنَّ ما عدا ذلك يُعتبر في منتهى السهولة، فأنت تملك ثلاثة جنيهات مجيدية، فهذا المبلغ من المال يكفي لكي تشتري إبريقًا للسحلب وأكوابًا، أي ما تراه بين يدي، وهو الذي يمكِّنني من أن أعيشَ حرًّا َمنذ عشرين سنة، وبعد ذلك تحمِل الإبريق على ذراعٍ والسلَّةَ على الآخر، وباربايني إلى جوارك، وسنذهب في مرحٍ نَجُوب الطُّرُقَات والميادين والأعياد والأسواق، ونَصِيح — في بهجة: «سحلب! … سحلب! … سحلب! … ها هو السحلب اللذيذ! وستُفْتَح أمامك أرضُ المشرق واسعة حرة! نعم حرَّة؛ لأنَّهم مهما قيل عن الاستبداد في الأرض التركية، فإنَّه ليست هناك أرض يستطيع أن يعيش فيها الإنسان بحرِّية أكبر، ولكن على شرط: هو أن تمحوَ نفسك وأن تختفيَ بين الجموع، ولا تلفت إليك الأنظار بأيِّ شيءٍ، وأن تكونَ أصمَّ أبكم، وعندئذٍ فقط تستطيع أن تدخل في كل مكان غير مرئيٍّ، والأبواب المغلَقة لا تُفتَح إلا لمن يقتحمهما.»
ولم يكد يأتي اليومُ التالي حتَّى كنت أحمل بين ذراعي الإبريق وسلَّة الأكواب، وأصيح في شجاعةٍ إلى جوار باربايني: «سحلب … سحلب لذيذ»، وعَرَفْتُ عندئذٍ الطريقة التي يمكن أن يدخل بها في الكمر، ذلك الصديق الخائن، الذي لا قلب له، والذي تركه من قبل.
فالنقود تتساقط من كل ناحية، ودخلت الحرية في كيسي، وعند هبوط المساء تذوَّقت سعادة الرجل الذي يستطيع أن يعيش دون أن تمتلئ جيوبه بالذهب، وعند تدخين نرجيلتنا في إحدى الشرفات، أخَذْتُ أتشرَّب الطِّيبَة التي تُشع من شخص باربايني كله، لقد كنت معترفًا له بالجميل وأحببته كما يُحبُّ الإنسان أبًا طيِّبًا وصديقًا، وأقمت عنده وعملت معه، وكنا نتناول طعامنا معًا، وأوقات تسكُّعنا نتذوَّقها معًا، وهكذا أصبحنا لا نفترق، ولم تلبث صداقة قوية أن ربطتنا بأن غرست الغصنَ الصغيرَ في جذعِ الشجرةِ الناضجة.
بل وسبق باربايني حبٌّ استطلاعي بأن كشف لي عن ماضيه الذي لم يكن خاليًا من الهنَّات، بل من المرارة.
كان يعمل مدرِّسًا في مدينة صغيرة ببلاد اليونان، وارتكب غلطةً عاطفيةً حُكِم عليه بسببها بسنتين من السجن وفقدَ وظيفته، وعند خروجه من السجن ترك المدينة لكي يجوب عدة مدن أخرى، اشتغل فيها بالتجارة، وقاسى محنًا وعَقَدَ صداقات، ودُمي قلبه، وكادت مغامرة غرامية أخرى أن تقضي على حياته، وعندئذٍ عَبَرَ إلى آسيا الصغرى وعاشَ في الوحدة والاستقلال، بل وفي الحكمة تقريبًا.
كان رجلًا يجيد الكلام ويجيد الصمت، يصدر عن طيبة لا تتحوَّل إلى بَلَهٍ، وعندما لا يَرُوقُه أحدٌ كان يرى أن لا جدوى من الإلحاح، وكان يعرف كلَّ لهجات الشرق الأدنى، ويوزِّع فراغه بين القراءة والتسكُّع وغسل ملابسه، ولم يكن يدفعني إلى شيء، بل كان يريني فقط ما هو خير ونافع ومن الذكاء أن أفعله، قد تعلَّمت كتابة وقراءة اللغة اليونانية، ولمَّا رآني متعلِّقًا بحياته — في أمانة — لم يساومني في محبته.
وفي البدء أناديه بلقب «يا سيد»، ولكنه طلب مني أن أناديَه ببربا، وبعد قليل أخذت أنسى فقدي لكمري وكنزه الثمين، وأخذت أتحوَّل إلى تلميذ له وصديق وحيد، وعزاء لأيام شيخوخته.
ولكن بقي لي قبل ذلك سفحٌ شاقٌّ لأتسلَّقه، وقد تسلَّقناه معًا.
كنت قد نسيت فَقْد كمري، ولكنني لم أَسْتَطِع أن أنسى فقْد أختي، وكنت أحب باربايني، ولكني أعبد كيرا، ولمَّا كنت متأكِّدًا من وجودها خلف الباب الذي ضُرِبْتُ عنده فَقَدْ وَسْوَسَ لِيَ الشيطان أن أعود إليه.
كنا في قلب الصيف، وبعد ثلاثة أشهر من النزهة الحزينة في باب توما، وفي غفلةٍ من برباياني قمت بعدة زيارات للفيلا الملعونة، وحوَّمت من بعيد، وتربَّصت وتجسَّست، ولكن بلا جدوى، فنساء أخريات كنَّ يخرجن في العربة، وأما كيرا فلا، وشجَّعني الحذر الذي استخدمته في أن أُقرِّر ذات مساء أن أكون أكثر جرأة، وحصلت على سُلَّم مستقيم، واستعنت بالليل المظلم، وذهبت لأسند السُّلَّم إلى جدار مرتفع يحيط بالفناء، وكنت أبحث عن وسيلة أستطيع بها أن أرى داخل الحريم، حيث كنت أعلم أنَّ النساء يرُحْن ويغدون دون نقاب.
ولكنني لم أجد غير شبابيك مغلقة، وثابَرْتُ ودُرْتُ حول الحائط، وانتهيت بأنْ وجدت نافذةً مضيئةً، ولم تكن غير غرفة كبيرة مؤسَّسة بأثاث فاخر لا أحد فيها، وانتظرت خافِقَ القلب بأعلى السُّلَّم، آملًا دائمًا أن أرى النساء يمررن تحت بصري.
وفجأةً فرقعت خشبة السلَّم التي كنت جالسًا فوقها، وأَوْشَكْتُ أن أسقط، وتجمَّدتُ من الخوف، وظللت معلَّقًا على نحوٍ ما عندما جاءت هزَّة مفاجِئة عنيفة أراحتني، فقد انْتُزِعَ مني السلَّم، وسَقَطْتُ بين ذراعي جندي البوليس الذي كال لي اللكمات دون أن يتفوَّه بكلمة واحدة، وشدَّ وثاقي ووُضِعْتُ في عربة يجرها حمار اقْتِيدَتْ فورًا إلى دمشق، حيث أُلقِيتُ في الحجز الاحتياطي.
والحجز الاحتياطي في تركيا ذلك العهد كان جحر النسيان بالنسبة للرعايا العثمانيين، فالشقيُّ الذي يدخله — وبخاصة بسبب الجرائم الكبيرة كجريمتي — لم يكن يعرف قط متى سيُحَاكَم ما لم يجرِ شخصٌ ذو نفوذ حاملًا الهدايا؛ ليضرع إلى أحد الحكام، ولم يكن أقسى ما يعانيه عندئذٍ فقدان الحرية، بل الحياة الفظيعة التي يعيشها في داخل هذا الحجز، وبخاصةٍ عندما يكون السجَّان رجلًا شابًّا.
وفي زنزانتي كنا دستة على سرير مشترك مكوَّن من صفٍّ طويلٍ من ألواح الخشب العارية يملأ ثلاثة أرباع الحجرة، وفي أحد الأركان جردل من الخشب بغطاء يذهب إليه كلٌّ منا لقضاء حاجته، وتنبعث منه رائحةً كريهةً خانقة، وقمل الجسم وقمل الرأس والبق الذي لا حصر له، والفئران تمرح في فرق، ولم يعد أحدٌ يهتم بقتلها؛ لأنَّ قتلها يستغرق عمرًا كاملًا!
وأنواع التعذيب البشعة كانت تُرتكب تحت أبصار الجميع، فالترك واليونانيُّون والأرمن والعرب لم يعودوا رجالًا، والحقارة الإنسانية كانت على نحوٍ لا تنعقد المقارنة إلا بينها وبين نفسها؛ وذلك لأن الجنس البشري هو وحده الذي يستطيع أن ينحدرَ إلى مثل هذا المستوى من بين كائنات الأرض كلها!
في جهنم الأرض هذه ووسط هؤلاء الوحوش وَقَعْتُ، وكنت غنيمة طيبة بالنسبة إليهم.
لم يقم أحدٌ بالدفاع عني أو حمايتي، لا من بين المسلمين ولا من المسيحيين، وأسوأ من ذلك أنهم تقاتلوا بسبب الفريسة الطازجة، وانتزعوا لِحَى بعضهم بعضًا، وهكذا خلال شهر عَرَفْتُ أفظع الإهانات التي يمكن أن يتصوَّرها الإنسان!
واليوم لست نادمًا على الوقوع في هذه المحنة، فبفضلها عرفت أعماق الكائن البشري، وإذا كنت قد ظَلَلْتُ خيِّرًا رغم كلِّ ما رأيتُهُ وكل ما عانيتُهُ؛ فإنما ذلك احترامًا مني لمن خَلَقَ الطِّيبَة وجعلها نادرةً، ووضعها بين الوحوش كمبرر وحيد للحياة.
كنت أعتبر نفسي مدفونًا حيًّا وأُفكِّر في الموت، ولقد حَدَثَ لمسجونَيْن لم يستطيعوا تحمُّل التعذيب أن شنقوا أنفسهم في قضبان منافذ الهواء الصغيرة بواسطة الأشرطة التي مزَّقوها من ملابسهم، بينما كان الجميع ينامون في الليل، وكنت مصمِّمًا على أن أفعل مثل هؤلاء الشهداء.
ومع ذلك أخذ صوتٌ داخليٌّ يدفعني نحو الأمل، فقد كنت أعرف أنني لم أَعُدْ وحيدًا في العالم كما كنت من قبل، فهناك في الخارج رجل ذو قلبٍ صديق نادر، وبالرغم من أنه فقير وبغير حماة، فإنه طيِّب وذكيٌّ ولا بدَّ أنه يُفكِّر فيَّ ويعمل على إطلاق سراحي.
وكنت على حقٍّ؛ فذات يومٍ فُتِحَ باب الزنزانة ودخل الحارس ومن خلفه باربايني، يا لها من سعادة غامرة! وظهور كيرا وحده هو الذي يمكن أن يُضفي عليَّ تلك السعادة، ولكن في نفس الوقت أي حزن، فالشر قد أشعل الشيب في رأس الرجل المسكين، وألقيت نفسي على صدره باكيًا، وكل ما ظهر من شفقةٍ أمام هذا المشهد المؤلم هو أن صاح رجلٌ يوناني ممدَّد على سرير: «آه! أيها الشيخ العزيز أهذا ولدك؟ إنه بضاعة جيدة بالنسبة لهذا المكان! فقد تمتَّعنا به، وها أنت تأتي لتختطفه!»
إنها أخفُّ عقوبة استطعت أن أحصل عليها، فخطؤك جسيم؛ إذ أردت أن تدخل بالليل إلى الحريم، ومع ذلك لا تحزن فسأصحبك، والعالم كبير وسنكون أحرارًا، وإذا استمعت إليَّ في المستقبل ستكون سعيدًا على الأرض التركية … هيا إلى اللقاء استعد لفجر الغد.
لم أستطع أن أنام طوال الليل، وعند بزوغ الفجر أَخْرَجُوني.
وكان على الباب فارسان من الجند مسلَّحان بالبنادق والخناجر ومعهما عربة، ورأيت عندئذٍ أننا كنا ثلاثة محكومًا علينا بالاستبعاد، وكان باربايني هناك ومعه أمتعتنا، ووضع الكل على العربة وابتدأَتِ الرحلة إلى ديار بكير.
إن حياة الإنسان لا تُقصُّ ولا تُكتب، وحياة الإنسان الذي أحبَّ الأرض وجاس خلالها أكثر استعصاء على القصص، وعندما يكون هذا الرجل عاطفيًّا حارًّا عرف جميع درجات السعادة والبؤس وهو يجوب العالم، فإنَّ محاولة رسْم صورة حية لحياته يصبح عملًا مستحيلًا تقريبًا، مستحيلًا عليه هو نفسه، ثم مستحيلًا بالنسبة لمن يسمعونه، والسحر والطرافة والمتعة في حياة رجل قوي النفس صاخبًا ومغامرًا في نفس الوقت، ليست دائمًا في الأحداث البارزة في تلك الحياة، بل في التفاصيل حيث الجمال عادةً، ولكن مَنْ يُنْصِت للتفاصيل؟ ومَنْ يتذوَّقها؟ ثم بنوعٍ خاصٍّ مَنْ يفهمها؟
ولهذا كنت دائمًا عدوًّا لعبارة: «قُصَّ علينا طرفًا من حياتك!»
وهنا أيضًا صعوبة … عندما يحب الإنسان لا يعيش وحده، والإنسان لا يعيش وحده حتى عندما يريد ألا يحب — كما هي حالي اليوم — وهذا حقٌّ على الأقل بالنسبة للعاطفيين الذين لم يكفُّوا عن أن يحيَوا على الذكريات؛ وذلك لأنه ليست هناك ذكريات بغير حاضر.
ولقد يرغب الإنسان في الموت كما رَغِبْتُ بإخلاصٍ عدةَ مرات في حياتي، ولكن الوجوه الجميلة التي عَرَفْتُها في الماضي كانت تتقدَّم إليَّ حيَّة وتُلِين قلبي، وتُحِلُّ البهجة محل المرارة، وتضطرني مرةً أخرى ومن جديد إلى البحث عن البلسم الخالد في وجوه الناس، ومن بين تلك الوجوه الجميلة كان باربايني.
لا أستطيع تقريبًا أن أقصَّ شيئًا عنه، فقد عشت ثماني سنوات ملتحمًا بحياته، وقد جاب شبحانا ديار بكير، وحلب وأنقرة وسيواس وإيرزروم ومائة مدينة أخرى صغيرة وقرية، ولم نبِعْ شيئًا غير السحلب، ولقد مرَّت السجاجيد والمناديل والسكاكين والعطور والعقاقير والخيول والكلاب والقطط جميعها بأيدينا، ولكن السحلب المبروك هو الذي كان ينقذنا دائمًا من البؤس، وعندما كانت تطرحنا إحدى العمليات التجارية أرضًا كنا نجري عَدْوًا لإحضار الأباريق المسكينة التي علاها الصدأ، ثم «سحلب … سحلب … ها هو السحلب اللذيذ» ونحن نتبادل النظرات ونضحك.
كنا نضحك؛ لأن باربايني كان صديقًا لا نظير له، وكنت أنا سبب الكارثة دائمًا بسوء تصرُّفي الخارق، ومن بين حماقاتي أذكر واحدة كانت عاتية: كنا قد وضعنا نقودنا كلها في حصانَيْن جميلين اشتريناهما من سوقٍ كبير على بُعد خمسة عشر كيلومترًا تقريبًا من أنقرة، وكنا سعداء؛ لأن الصفقة كانت طيِّبة في رأينا، وفي طريق العودة، بسبب الانشراح وبسبب التعب أيضًا، ثارت بي رغبةٌ في أن نتوقَّف أمام حانة منعزلة.
وكنا في الليل، وعارضني باربايني قائلًا: دَعْ هذا يا ستاوراكي، ولنواصِل السير إلى المنزل حيث يتناول كلٌّ منا كأسًا.
لا يا باربايني! هنا … دقيقة واحدة فقط؛ لكي نحتفي بحظِّنا.
واستسلم الرجل المسكين وربطنا الحيوانين في عمود بالخارج، واحتفلنا بكأس وعيوننا على النافذة، ثم بآخر، وأخَذَ الجوع يفري بطوننا فأكلنا وشربنا دورقًا ثم آخر؛ لأن باربايني أو أنا لم نعد نبصق على الحياة الطيبة، وتحرَّكت القلوب فأخذْنا نُغنِّي:
ولكن وسط الأغنية وقف باربايني هادئًا ونظرته إلى ألواح الزجاج السوداء، وقال: أي نعم يا ستراوراكي … إنني أدرك أنك حيوانٌ سيئ؛ لأنَّ الحيوانين الجميلين اللذين كانا بالخارج لم يعودا هناك إن لم أكن سيئ الرؤية.
وفي قفزة خرجْتُ، ولكنني لم أَلْتَقِطْ غير ضوضاء عَدْو صاخب يتردَّد صداه في الليل.
وبعد ساعة ونحن نتعثَّر في الظلام، ونتردَّى في كافة الحفر صاح بي باربايني مؤنِّبًا: «لقد أردْتَ أن تحيي حظنا، والآن فلتَمْشِ على قدمك أيها الطفل الخائب العنيد، ولكي تُعزِّي نفسك غنِّ، لقد سكرت من جديد …»
ويلٌ لمن يجهل أنَّ السعادة هي أن يُحسَّ الإنسان بقلبه ينبض في أرض الإنسان الطيبة، تلك الأرض الرفيعة المستوى التي تمدك بعصيرها المنعش.
فخلال السنوات التي الْتحمَتْ فيها حياتي بحياة باربايني في كل موحد، كانت الطبيعة نفسها تبدو لي ودودة أخوية شاعرية، وكان كلُّ شيء يلوح لي جميلًا وجديرًا بأن يُحَبَّ، وفَقَدَ القبحُ ما يوحي به من تقزُّز، وكانت الحماقة تصطدم بسخريتنا، والاحتيال ينكشف، وعنف الأقوياء لاح لي محتملًا، وعندما كان الاحتكاك بالابتذال يأخذ بخناقنا كنا نهرب منه إلى الحياة في صمتٍ … إلى الحياة؛ حيث تتحدث الطبيعة وحدها بالعينين والقلب، كان باربايني قادرًا على أن يمشي يومًا بأكمله دون أن يتفوَّه بلفظ، وبالنظرة وحدها كان يريني ما يستحق الانتباه، وكان يُسمِّي هذا حَمَّامًا مطهِّرًا، وكان هذا حقًّا، فمشاهد الطبيعة الصامتة تُطهِّر وتَرُدُّ للإنسان — الذي تجرحه الحقارةُ — روحَه، وليس هناك — مهما بلغ من القوة — من يستطيع أن يمرَّ بالميكروب دون أن يحسَّ بالعدوى.
ولكن هذا الصديق الكبير لِسِنِّ يفاعتي، كان فوق ذلك عالمًا بالعصر القديم وفلسفاته، وبجميع أحاديثه عن الحياة، وهي الأحاديث التي كانت ممتعة في أوقات الراحة، وكان يؤدِّيها بأمثلة يستمدها من الحكمة، وهو لم يكن حكيمًا، ولكنه كان يحب سكينة القلب الواعية.
وقال لي: إنْ عاجلًا أو آجلًا، لا بدَّ أن ينتهي الرجل الذكي إلى فَهْمِ عَدَمِ جدوى الصخب العاطفي الذي يُنْزِل الاضطراب بالسلام ويحرق الحياة، وسعيدٌ من يصل إلى فَهْم ذلك سريعًا، فإن ذلك سيزيده متعةً بالحياة.
وفي يومٍ من أيام الخريف البارد وَجَدْنا أنفسنا في معسكر للمناورات بالقرب من حلب؛ فانقضَّ الجنود على شَرَابِنَا الساخن، وأسرع الضباط أنفسهم لينعموا به، ولمَّا كانت لدينا جمرات تحت الإبريقين فقد وَقَفُوا يستكتبون ويتحادثون، وقصَّ ضابطٌ كبير على مرءوسيه حماية الجنرال صديق الإسكندر الأكبر الذي أعطى رأيه إلى جانب اقتراح السلام الذي تقدَّم به دارا، قائلًا: «كنت مستعدًّا أن أقبل لو أنَّ الإسكندر الأول أو القاهر الأكبر كان قد رد.»
وأنا أيضًا لو كنت … لو كنت …
وارتبك الضابط التركي وقال: «آه … ماذا كان اسم صديق الإسكندر هذا؟»
وردَّ باربايني الذي كان ينصت للمحادثة: «بارمنيون.»
فصاح الضابط: «برافو أيها العجوز، كيف عَرَفْتَ ذلك، والإنسان لا يلتقي بإسكندر الأكبر وهو يبيع السحلب؟»
فأجاب صديقي: «بل نعم، فجميع الناس في حاجةٍ إلى أن يستدفئوا كما ترى!»
وراق الضابط هذا التلميح المزدوِج المعنى، وترفَّق فتحدَّث معنا، ولكن في تلك اللحظة الْتَقَتْ نظرتي بنظرته فقال: «لقد رأيتُكَ في مكانٍ ما، ووجهُكَ معروف لي.»
فأجبت — وقد عَلَتِ الحُمْرَةُ وجهي: «لقد كنا في نفس العربة مع مصطفى بك في القسطنطينية منذ خمس سنوات.»
إي والله، هذا حقٌّ، أنت الغلام الذي كان يبحث عن أمه ذات العين المفقوءة أيها البائس، لا بدَّ أنك قاسَيْتَ الأمرَّيْن من هذا الشيطان اللعين.
قاسيت كثيرًا … لم أكن أعرفه.
ولكن هل يستطيع الإنسان أن يطمئنَّ على هذا النحو إلى أول من يلقاه عندما يأخذ في مداعبة خدود طفل؟
وظلَّ الضابط يتحدَّث إلينا وقتًا طويلًا، وكَشَفَ لي عن السوءات التي كان يرزح تحتها مصطفى بك، ثم اهتم بباربايني وتحمَّس لثقافته، وعند افتراقنا شدَّ على أيدينا في حرارةٍ ورجانا أن يقبل كلٌّ منا جنيهًا تركيًّا من الذهب قائلًا: «إنه ليس بقشيشًا، لكنه تقدير لحكمة العجوز ومحنة الشاب.»
وعند العودة إلى المنزل استخلص باربايني العبرة فقال: «انظر يا استاورو … في كلِّ مكانٍ مضلِّلون، ولكنَّ الذكاء يُسْقِط الحواجز حتى ولو كانت ترتدي حُلَّة عسكرية.»
وأخذ باربايني يدخل في الشيخوخة، ومَرَضُ القلب يجعله من عامٍ إلى عام غير صالحٍ لكسب قُوتِه، والتَّعَبُ يرهقه، وأصبحت السوداوية تعاوده مرات أكثر، وكنت أنا في الثانية والعشرين قويًّا شجاعًا واسع الحيلة، وبفضل المدَّخرات الصغيرة التي كانت لدينا استطعت أن أُقرِّر دعوته إلى الخلود إلى الراحة؛ ولكي تروقه تلك الراحة اخترت لإقامتنا مكانًا لم نستكشفه من قبل؛ هو جبل لبنان.
آهٍ … يا له من جبلٍ جميل وحزين، وكلَّما فكَّرت في العام الذي أقمناه فيه ثمل قلبي ودمي في نفس الوقت! … غزير غزير … وأنت يا دليتا! وأنت يا هرمون! وأنت يا ملمتين، وأنتِ يا شجرات السدر ذات الأذرع الطويلة الحانية التي كان يلوح أنها تريد أن تحتضن الأرض كلها، وأنتِ يا أشجار الرمَّان التي تكتفين بثلاث حفنات من الطحلب الذي ينمو في فجوات الصخور؛ لكي تَهَبِي المسافرَ الجوَّالَ فاكهتك الغزيرة العصير.
وأنتَ أيها البحر الأبيض الذي تستسلم في متعةٍ إلى لمسات إله الدفء، وتمد صفحتك الشاسعة الصافية إلى نوافذ البيوت اللبنانية الصغيرة المتدرِّجة أمام اللانهاية!
إلى كلِّ هذا أقول: وداعًا فلن أراك بعد ذلك، ولكن عيناي ستحتفظان إلى الأبد بضوئك الناعم الفريد، لقد خبا هذا النور في ذاكرتي، فالحياة لم تشأ أن تُتمَّ سعادتي، ولكن يا إلهي! أين ومتى تمنحنا الحياةُ المُتَعَ الكاملة؟