ال. ساهيا (١٩٠٨–١٩٣٧)
بالرغم من موت ساهيا المبكر، فإنَّه يُعتبر رائدَ هذا الجيل الشاب من الكُتَّاب التقدميين الذي يزدهر اليوم في رومانيا.
لقد عمل صحفيًّا مكافحًا في سبيل الأفكار اليسارية في «العهد الجديد» و«القمصان الزرقاء»، وترك ساهيا إنتاجًا صغيرًا منعه الموت وحده من أن يُثريَه ويُتمَّه، وفي قصصه وحكاياته كان أول من حقَّق الطريقة البسيطة المباشرة في وضْع المشكلات وتصوير الناس في مثل: «ثورة الميناء»، و«المصنع الحي» أو «أمطار يونيو» التي تُعتبر اليوم من القطع الكلاسيكية في الأدب المستوحى من حياة العمال.
ونزاهته العقلية وشجاعته، وروحه الديمقراطية الصامدة لا تزال تعتبر مثلًا حيًّا لكُتَّاب اليوم الشبَّان، الذين يواصلون اتجاهه في الكتابة والكفاح وسط الظروف الجديدة التي تَلَت التحرير.
(١) أمطار يونيو
كانت شمس يونيو تُصوِّب أشعَّتها الحارقة إلى السهول، وقد جفَّ العشب جفافًا تامًّا وغاض عصير الحقول، فالقمح نادر والسنابل ضامرة، وشواشي الأزهار البرية الزرقاء ونبات ذيل القط تنتثر على جوانب الدروب الصلبة.
وكانت بعض بخَّات من المطر قد سقطت حول منتصف مايو، ثم لم تسقط بعدها قطرة ماء واحدة.
واتخذ سهل برجان منظرًا جهمًا، ونهر إيالو منزا ينساب في هدوءٍ بين شواطئه المحروقة ليتجه نحو الدانوب.
ومن وقتٍ إلى آخر يخترق الهواء الخانق صهيل مكتوم لأحد الخيول، والسماء صافية زرقاء، وفي الأفق من ناحية المستنقعات على حدود برجان أخذت ترتسم سحابة واحدة وهي تتقدَّم نحو حاصدي القمح.
وقطع بيتر ماجون عمله ونهض وهو يُقرقع عظامه، وهبَّ نسيمٌ خفيف من الشرق على ظهره فنفخ قميصه المبلَّل بالعرق، وقد نصل طلاء مقبض منجله الأزرق على راحة يده اليمنى؛ فرشق آلته في حزمة من القمح، وانتزع بيده حزمة من اللبلاب ودعكها بقوة بين راحتيه، ولكنَّ الطلاء الأخضر كان قد تسرَّب إلى المسام فلم يستطِعْ مَحْوَهُ، وأخذ العرق يتصبَّب من جبهته على خدَّيه زاحفًا إلى ذقنه؛ لكي يسقط فوق صدر قميصه.
كان بيتر ماجون طويلًا ضامرًا طويل الرقبة كالنعامة، وحزمة من البوص تلف خصره، وكان يعمل عارِيَ القدمين مرفوع السراويل إلى ركبتيه، وبذلك يكشف عن نُدبة كبيرة في ساقه اليمنى التي كانت قذيفة قنبلة قد أطاحت بسمَّانتها أثناء الحرب؛ مما أعطى ساقه شكْلَ قطعة الخشب المنخوبة.
وإلى جواره كانت تعمل أنَّا وبطنها المستديرة تكاد تمس ذقنها، وكانت تجد مشقة في أن تتحرَّك، ومشيتها تشبه مشية البطة المُسَمَّنة أكثر مما ينبغي، فهي تسير منفرجة الساقين، وترسل من وقتٍ إلى آخر أنَّات خافتة.
وكانت بلا حذاء هي أيضًا، ويداها كبيرتان يعلوهما القشف، وكانت تُمسك بيدها اليسرى في عناية بحزمة من القمح، وباليمنى تقطع السيقان في بطء لكي تتجنَّب الهزَّات.
وكانت تلبس على رأسها منديلًا أصفر عقدت أطرافه على فمها لكي لا يضايقها التراب الذي يتصاعد من القش عندما تُحرِّكه، ومن الأرض الجافَّة ومن وقتٍ إلى آخر، كانت تذهب لتتمدَّد فوق القش كحيوان أَنْهَكَهُ التَّعَبُ، وعندئذٍ كانت الدموع تتصاعد إلى عينيها، وبطنها تتخذ شكل تَلٍّ مشوَّه.
وألقى بيتر ماجون نظرةً قلِقة على امرأته فرآها منبعجة بشكلٍ مخيف، وعندما كانت تنحني كان يلوح أنَّ أنفها ووجهها كله يدخل في بطنها، وبعد كل حزمة تقطعها من القمح كانت تمسح عينيها بطرف منديلها، فتلوح لبيتر وكأنها تبكي.
فسألها: «ماذا يا أنَّا؟ هل تبكين؟»
لا جواب.
– قولي … هل تبكين؟
وأسندت أنَّا يديها فوق ركبتيها، ثم مرَّت بهما — في مشقة — فوق فخذيها وعجُزها، وكلٌّ من هذه الحركات تزيد بطنها انتفاخًا، وخلعت المنديل الذي يُغطِّي فمها لكي تربطه على قمَّة رأسها.
وأجابت — وهي تنفخ: «أبكي؟ … لماذا؟!»
– لقد اعتقدت أنكِ تبكين.
– لا … ولكنِّي أشعر فقط أنني ثقيلة جدًّا، ولا أدري لماذا أُحسُّ أنني ثقيلة اليوم وكأنني في أول حملٍ لي.
واقترب ثور ميزاندرو لوكيا وهو موثَّق القدمين، قافزًا من حافَّة الحقل، وهو يرسل نحوهما نظرات خبيثة، ويستعد للدخول في القمح.
فأسرع ماجون إليه وهو يُقسم، ويضرب بظهر منجله.
– يا لله! يا لك من حيوان! أتريد أن ترعى حقلي؟ أنا لا أملك مائة فدَّان من الأرض بل أملك هذه النتفة!
وارتفع صوت ليزاندرولوكيا الذي كان يحصد هو الآخر على مسافة قريبة قائلًا: «حيلك يا أب ماجون! لا تَضْرِبْ ثوري … بل سُقْهُ ناحيتي.»
ومرةً أخرى انتشر الصمت على السهل.
وبيتر ماجون يحصد بيده العريضة حزَمًا من القمح في حرارةٍ ونهم بَالِغَيْن، وأنَّا على العكس تتحرَّك في مشقة، فهي دائمًا متأخرة عن زوجها؛ ولذلك كان بيتر يعود أدراجه عندما يتقدَّمها بكثير.
وصمت الاثنان وأحيانًا كان منجله يتعثَّر في بعض الجذور فيصيح لاعنًا، بينما تُلوِّح أنَّا وكأنها لم تسمع شيئًا، مكتفية بأن تدير رأسها نحوه وتبتسم بشدة، وكأنها تبتسم رغمًا عنها، فعيناها حزينتان وقد اتسعتا مسرفًا.
وحوَّم صمتٌ مُرٌّ فوق سهل برجان، وكأنه يهتز في الهواء تحت وقدة الشمس، فالأرض تحترق، وسيقان القمح تتقصَّف، وأوراق الذرة تصفرُّ اصفرارًا مبكِّرًا وتنكمش في شكل أقماع.
ومع ذلك فالفلَّاحون يعملون، ولا يرى الإنسان غير ظهورهم وهم يتقدَّمون مُنْحَنِين عبر حقول القمح، فهم يحصدون وعندما ينهضون يفحصون السماء، والزنابير تضرب بأجنحتها السنابل المنحنية.
ومن ناحية المستنقعات ترتسم بقعة بيضاء هي سحابة خفيفة تكاد تشبه خيطًا من الدخان على وشك التبدُّد.
ويمتد الجفاف متسلِّلًا كالمرض …
ويُحسُّه الإنسان في زرقة السماء الكثيفة، وفي خوار الدواب، وفي كل ساق سنبلة فوق الأرض المنهكة، وهو يمتد أبكمًا ثقيلًا كالموت مبتلعًا المياه والحياة.
ومرةً أخرى تذهب أنَّا؛ لتتمدَّد على القش.
وينظر إليها بيتر مانجوم ويتابع بعينيه حركة بطنها وهي تصعد وتنتفض في إيقاع، ويقول: «يا لها من حياة! … هذه المسكينة أنَّا … تلد كالكلبة، وكيفما اتفق طفلًا بعد آخر، ويسألها: متى الوضع؟»
– في الحقيقة لا أذكر، وأظن أنَّه لم يحِن الوقت، ربما كان بعد أسبوع.
وتبتسم وهي تنظر إلى المساء ممدة على ظهرها.
– انهضي إذن ولنُسرع!
وتنهض أنَّا وتعمل في صعوبة، وتتداخل سيقان القمح، وتترك خلفها صفًّا من السنابل التي يجمعها بيتر في صبر وهو يربط حزمه، وأخيرًا يقول: ربما كان من الأفضل أن تذهبي لتستريحي إلى جوار العربة قليلًا، فهناك ظل والحرارة أهدأ، وحملُكِ يُثقلكِ فيما أرى، ولا أباهي إذا ذكرت أنكِ تلدين في الحقول، والقرية كلها تتحدَّث عن ذلك.
– آه … القرية … ليس هناك غيري تلد في الحقول، وأنا أعلم أنَّ الرجال يضحكون … ولكننا نحن نلد أطفالنا في أي مكان يأتينا فيه أَلَمُ المخاض، واللهُ — لا الرجال — هو الذي يُنظِّم كلَّ هذا.
ومرَّت بطرف منديلها الأصفر فوق وجهها لكي تمسحه، وخلعت — في عنايةٍ — مريلَتَها من فوق بطنها، وذهبت والأرض تحرق صفحة قدميها، وكانت أنَّا في قوام ماجون تقريبًا، وأخذت تمشي بخطًى واسعة، ولكن حَمْلَها المتقدِّم كان يُفسد اتزان مِشْيَتِها، وظلُّها يتبعها — طويلًا مشوَّهًا — فوق القش المنتصب، ويعكس على قمة الذهبية فيصيبها بالدكنة.
وبسرعة تمدَّدَتْ أنَّا في ظل العربة رغم ندرة هذا الظل، فنِصْف جسمها ابتداءً من الخصر مُعرَّض للشمس، وقد أصابها بالتصلُّب ألمٌ حادٌّ، ولكن هل هو إشارة الخلاص؟ لقد وضعت مرةً على هذا النحو، وكان ذلك في الخريف وقْت جمْع الذرة تحت مطر خفيف.
ويقلقها هذا الألم الذي يتكرَّر، وتأمل ألَّا يَحْدُثَ الوضعُ الآن، وعرقٌ غزير بارد يُثلج كليتيها، فتفزع وتمسك بيدها اليسرى عجلة العربة، وباليمنى تتعلَّق بالقش الذي اقتلعته من الأرض.
وظلَّت ساكنة وعيناها إلى السماء وأنفاسُها متوقِّفة.
وفي أعلى — أي في أعماق زرقة السماء — تُتَابِعُ عصفوران وكأنَّهما نقطتان بالغتا الصِّغر وهما يغنيان، وعلى الأرض وسط أعواد الذرة تُغنِّي سمانة أيضًا، وخطر لأنَّا أنه كان من الواجب أن تتمدَّد على الحصير الموجود إلى جوارها، ولكنها لم تجرؤ على أن تتحرَّك، وبَقِيَتْ ممدة فوق الأرض العادية.
ودَنَتْ من وجْهِها ضفدعة مبلَّلة الظهر وهي تقفز، ثم وقفت وحدَّقت في أنَّا فاغرةً فاها، وعيناها جاحظتان، وحلقها المبرقش بالبياض ينبض.
وتقزَّزت أنَّا وودت لو طردَتْها، ولكنَّ الآلام ترهقها الآن، ولا تسكت عنها، فانطوت على نفسها وهي تَئِنُّ، واشتدت قبضة يدها على عجلة العربة، وارتعدت ركبتاها فجأة، وأحسَّت كأنَّ ساقيها تُنْزَعان من الفخذين.
وتلا تلك الهزة إحساس بالانتعاش، وغمرت النشوةُ قلبها وأشاعت البريقَ في عينيها المليئتين بالدموع، وتخلَّت عن عجلة العربة ومسحت التراب الذي كان لا يزال عالقًا براحة يدها اليسرى.
وعندما نهضت على ركبتيها كانت عيناها مضطربتين محاطتين بهالات سوداء، وبيديها المرتعدتين الهزيلتين انحنت؛ لتأخذ الطفل الذي كان يرفس بساقيه في القش.
وكانت شذرات من القش والتراب قد لصقت بلحم الطفل الأحمر، فنهضت الأم ورفعت الطفل إلى السماء وهزَّته عدَّة مرات، فانطلقَتْ منه صيحة، وفي لهفة أَدْنَتْ أنَّا الطفل من ثَدْيِها وقبَّلَتْ رأسه.
وانتزعت القش ومسحت التراب عن الطفل، وخلعت مريلتها وطوتها وجعلت منها لفَّة للطفل، ثم وضعته بسرعة في العربة التي مدَّت فوقها الحصيرة لتظلِّلها.
ثم أصلحت ملابسها واتجهت نحو زوجها؛ لتواصل العمل إلى جواره وكأن شيئًا لم يحدث.
كان بيتر ماجون يَسْبَحُ في العَرَق، وكأنه خارج من الاستحمام في النهر، ومن خلفه عشرات من حزم القمح ملقاة على غير نظام، وقد أصبح الجوُّ خانقًا، واتخذت الأرض لونًا بنفسجيًّا، وكأن حريقًا قد شبَّ في سهل براجان.
واقتربت أنَّا من بيتر، ولكنه ظلَّ منهمكًا في عمله، وظلَّت واقفة منتصبة، والمنجل في يدها تنتظر أن يتكلَّم، وماجون يستمر في الحصد متحمِّسًا بلا هوادة، وبضربة قوية يقصف أعواد القمح المنحنية على شبا منجله.
وقالت له أنَّا: «بيتر أنصِت إليَّ … بيتر … لقد وَضَعْتُ.»
ودون أن ينهض أدار ماجون عينيه نحوها.
وتكلَّمت المرأة بصوتٍ خافت، وهي تُحسُّ بطعم الرماد بين شفتيها: «نعم يا بيتر … لقد وَضَعْتُ.»
وسقط المنجل من يدي بيتر ونهض.
– وما حيلتنا في ذلك؟ لقد حدث لي ذلك مرةً أخرى في الخريف في يوم ضباب.
وأرد بيتر أن يقول شيئًا وأن يُقسم بأغلظ الإيمان، ولكنه استسلم بسرعة واستردَّ منجله، وبينما كان يحصد حزمًا جديدة من القمح سأل: «أهو غلام؟»
– نعم غلام.
فطالت عنقه أكثر من ذي قبل فهي أشبه بعنق النعامة.
وانشَقَّ فمه عن ضحكة عريضة صامتة، ثم قال: «ولماذا عُدْتِ إذن؟»
– لقد انتهى الأمر الآن، وأُحِسُّ أني خفيفة.
وها هي تحصد من جديد، ولكن متخلفة بكثير عن بيتر الذي يُسرع وكأنَّ الذئاب تطارده، والسنابل تحك ذقنه المبلَّلة بالعرق، وتعلَق بها بعض أعواد القش.
وأخذت ريح خفيفة حارَّة تهبُّ من ناحية الشرق وتحمل في دوَّاماتٍ المسكَ والأزهار البرية، ويختلس بيتر نظرة إلى أنَّا كلما وضع حزمة على الأرض، إنها بغير مريلة، وجونلتها منحرفة عن وضعها، وبصعوبة تستطيع أن تضمَّ السنابل في يدها، ومنجلها يهتز، وهي الآن توحي إليه بالحزن المثير، فهي لم تكد تضع طفلهما الثامن، ومع ذلك ها هي تعود إليه لتعمل!
وفجأةً انتصبت أنَّا زائغة العينين والمنجل في يدها وقالت: «أُحسُّ بالألم من جديد يا بيتر، سأذهب.»
– اذهبي ولا تعودي ثانيةً إلى هنا، ابقَيْ إلى جوار الطفل واحرسيه من أن يتسلَّق عليه النمل وهو نائم وغطِّه جيدًا.
ومرةً ثانيةً أصبح بيتر وحده، بينما اتجهت أنَّا ناصلة الشفتين بأسرع ما يمكن نحو حافَّة الحقل حيث تقع العربة وبها الطفل، ولكنها لم تكد تصل حتى أخذت نفْس الآلام وبصورة أكثر عنفًا تُمزِّق أحشاءها وأخذها الخوف، وتمدَّدت إلى جوار العجلة، واقترب منها طفلٌ حاملًا زجاجةً بين ذراعيه لكي يطلب إليها بلا ريب ماء، ولكنه لم يكد يراها بهذا الوضع حتى ولَّى جاريًا وهو يتعثَّر.
ودخل ثور ليزاندرو لوكيا إلى أرض بيتر ونطح بقرنه رحى القمح، وقالت أنَّا: «ألا ليت بيتر يعود ليراه.»
وقلَّص الألم جسمها، وتعلَّقت من جديد بعجلة العربة وأطلقت أنَّةً، ثم شعرت براحة نهائية لا حدَّ لها، وسمعت صرخة قصيرة فنهضت واقفة مبتسمة واستخلصت من بين القش الطفل الثاني، وفي جو يونيو المحترق أخذت وأْوَأَة الطفلين تتردَّد في الحقول، وأنَّا تُصغي إلى تنفُّس الطفل الثاني الذي لم ينتظم بعد.
وحوَّمت فراشتان حولها فضمَّت في خوفٍ الطفلَ إلى صدرها وهي تُلوِّح لتطردهما، ولفَّ خَبَرُ وَضْع أنَّا زوجةِ بيتر مانجون لغلامين الحقلَ بسرعة، فانبثقت تلقائيًّا قابلات عديدات فيما يشبه المعجزة، وأخذن يغسلن الطفلين بالماء الممتوح من البئر وينتزعن خيط قطن أحمر من ملابسهن؛ ليقمن بواجب ربط الحبل السُرِّي.
وقطع بيتر عمله؛ ليأتي إلى جوار زوجته، وأدهشه التجمُّع الذي تكوَّن حولها حتى أخذه قلق غامض، فاستند إلى نير العربة وترك نظراته تطفو فوق الحقول وكأنه غريب عما يجري حوله، وغير بعيد كانت خيوله المربوطة في أوتاد تلف دوائر وهي تضرب بألسنتها القش المسحوق تحت حوافرها، وتنفخ في ضجَّة فتثير مِنْ حَوْلِها سحبًا من التراب.
وقال أنتوني لانجو — وهو يتكئ بمرفقيه فوق العربة: «إن الإنسان يستطيع أن يعد ضلوع خيلك يا بترو، فإذا لم ينزل المطر فسوف تموت جوعًا.»
واقترب بيتر وهو يقول: «إنها لم تعد حياة، عندي سبعة أطفال وبالاثنين الجديدين يصلون إلى تسعة، وبإضافة شخصَيْنا يصبح المجموع أحد عشر فما تحتاج إلى الطعام، ولنفترض أن الاثنين الصغيرين لا يحتاجان بعد إلى كثير من الطعام، ولكن يبقى التسعة الآخرون، وأنا لا أملك غير هذه القطعة الصغيرة من الأرض، ولم أدفع بعدُ ضريبةَ العُشْر ولا بَدَلَ المرعى.»
أسرِعْ إلى الدفع وإلا جاءوك يومًا فأخذوا جميع حاجيَّاتك، وأنت تعلم ما حدث للآخرين الذين أخذوا منهم الأغطية نفسها.
– وماذا أفعل؟ … من السهل أن تقول: أسرِع.
– بِع شيئًا.
– أنا أبيع؟ … وهل لديَّ شيء أبيعه؟
وفجأةً تغطَّت السماء بسحب رمادية، آتية من المستنقعات ومن حوافِّ سهل برجان، وكانوا قد رأوا مثلها من قبل أكثر سوادًا، ولكن أقل ارتفاعًا تهبط على الدانوب.
وفقدت الشمس بريقها بعد أن حجبت السحب جزءًا منها.
وظلَّت الحرارة خانقة ثقيلة على امتداد الحقول.
ومع ذلك أخذت تسري — في هبَّاتٍ — تياراتٌ من النسيم المُنعش.
وزمجر الرعد وتدلَّت السحب إلى أسفل، ولكن الأرض ظلَّت حارقة تحت صفحة الأقدام.
وقال أنطوني: سأذهب، فلربما أَمْطَرَتْ.
وأصبحَتْ أنَّا الآن وحدها في العربة وطفلاها بين ذراعيها، وجلست على سرير من الحزم الذي أعدَّتْه الفلاحات لكي يخفف من اهتزاز العربة التي جَلَسَتْ فوقها على مستوًى أعلى من الحاجز، وفي هذا الوضع كانت تُشْبِه العذراء المقدَّسة.
وأخذ الرعد يقصف بسرعة متزايدة، وقطرات المطر الأولى تسقط كبيرة ثقيلة، وفك بيتر رباط الخيل وشدَّها إلى العربة بسرعة ووضع ملابسه في العربة، وألقى نظرةً أخيرةً؛ ليتأكد من أنه لم يَنْسَ شيئًا.
– أنتِ مستريحة عندكِ يا أنَّا؟
– نعم، لكن لا تسرع.
وأخذت الخيل تمشي وحدها، واطمأن بيتر إلى أنها قد أحسَّت قدوم العاصفة؛ ولذلك أَسْرَعَتْ.
وكان المطر أكثر كثافةً ناحية القرية، فهو يهطل مُثِيرًا التراب، ويمتد فوق السهل بسرعة وكأنه ستارة من اللؤلؤ، والخيل تصهل وتنصب آذانها، وبيتر يبسط الحصير وكأنه خيمة فوق أنَّا وطفليها.
وبعد أن كان المطر غير ملموس وكأنه زفرات الريح لهبوطه رذاذًا، أخذ يهطل في بخَّات قوية قصيرة، أشعثًا هائجًا فوق برجان، واحتمى بيتر أيضًا تحت الحصير، ولكن ساقاه ظَلَّتَا عاريتَين، وصنعَتْ أنَّا لطفليها من جسمها واقيًا آخر بأن انحنت فوقهما وهي تضعهما فوق ركبتيها وتحتضنهما بين ذراعيها، وعند كل هزَّة من العربة تصيح: «هدِّئْ يا بيتر، هدِّئْ»، وترفع — في رِفْقٍ — الطفلَيْن وتنظر إليهما في قَلَقٍ.
وأخذت الخيل تتقدَّم في ركضٍ عنيف، والمطر يُثِيرُ فوق الطريق رائحةَ الأرض المبلَّلة.
وأخذ الماء يَسِيل في الأخاديد التي تحفرها العجلات ليصبَّ في الحفر، والأعشاب والحسك والأزهار — وقد غُسِلَتْ ونَضِرَتْ — نَهَضَتْ على حافة الطريق، بل والقش الذاوي نفسه رَفَعَ — بعد جفافٍ — أشواكَه كالفرشاة.
ويخترق المطرُ الحصيرَ فيبلل الشوفان والقش، وتنطوي أنَّا في نصفين فوق طفليها، ومن وقتٍ إلى آخر تُدني شفتيها من أنفهما؛ لتتأكد من أنهما لا يزالان حيَّيْن، وتشعر بنسمات دافئة من الهواء تداعب شفتيها: إنهما يتنفَّسان!
وخرج بيتر من تحت الوقاء مفضِّلًا أن يجابه المطر، وألقى نظرةً على أنَّا؛ فرأى عينيها مبلَّلتين بالدموع، وقد أَلْصَقَ المطرُ منديلها برأسها وتقلَّص وَجْهُها وشَحُبَ.
وأحسَّ ماجون هو أيضًا بشيء رطْب دافئ يبلِّل عينيه، ولكنه لم يعرف هو نفسه ما إذا كان يبكي أو أنَّ المطر قد أخذ ينزلق فوق وجهه.
وعلى جانِبَي الطريق كانت الحقول المنتعشة السوداء تلوح وكأنها تجري تحت المطر الهادر المزبد، وكم لاحت له خيوله هزيلةً تحت الطاقم الثقيل الذي يضرب جنوبها المبلَّلة، ومع ذلك أَخَذَتْ تعدو ومانجون يضرب كفليها بمقبض سوطه، وكل ضربة تتبعها قفزة مفاجئة من العربة، وأخذه القلق فاستدار برأسه ناحية أنَّا لكي يتأكد أنها لا تشكو من شيء، ولكن أنَّا لم تعد تتلفَّظ بشيء منذ وقتٍ طويل.
وسقطت الصاعقة عن بُعد ممزِّقةً قبَّةَ السماء من ناحية الشرق.
وتحت سهام وابل المطر لاحت القرية ميتة، وأزَّت عجلات العربة المبللة وهي تستدير فجأة؛ لتعبر البوَّابة وتقف في الفناء.
وقفز ماجون إلى الأرض، وأمام المنزل خرج الأطفال ووقفوا صفًّا وهم يعلمون أن أمهم تحت الغطاء، ولكنهم لا يفهمون لماذا تأخرت في النزول، وانطلق بيتر نحو أقصى الفناء وصاح: إيه … يا أب فاسيل … يا ابنة العم ماريا … احضروا بسرعة، ساعِدَاني على إنزال أنَّا من العربة، فقد وَضَعَتْ في الحقول.» وأسرع الجيران عراةَ الأقدام وهم يَحْمُون رأسهم بقماش الجولات، واقتربتْ بِنْتَا أنَّا الكبيرتان، وبكتا دون أن تعلما ماذا حدث، وقفز بيتر من جديد داخل العربة، وسَحَبَ الطفلَيْن الواحدَ بعد الآخر من تحت الحصير وأعطاهما لابنة العم ماريا التي احتضنتهما فوق صدرها، وغطتهما بطرف شالِها، وأسرعت بهما إلى البيت، وأنَّا بحكم بقائها طوال الوقت منحنية فوق طفليها قد تخشَّبت وكأنها قد انكَسَرَتْ إلى نصفين.
ويستطيع الإنسان أن يسمعها إلى جوار الطفلين في السرير القائم عند النافذة.
والأطفال السبعة يبكون خائفين ولا يجرءون على دخول المنزل، وقد بقي بعضهم في الشرفة، والبعض الآخر في الردهة، وهم في قذارةٍ مُمَزَّقُو الثياب.
ويتركهم بيتر يجأرون دون أن يُلقي إليهم بالًا، ومن وقتٍ إلى آخر تتراءى أمامه صورة مُلحَّة، صورة وجبة كل يوم لتسعة أفواه جائعة دائمًا ويجب مع ذلك إطعامها، وعَمَّا قريبٍ ستصبح أحد عشر فمًا.
نعم كل المطر قد نزل، ولكن قطعة أرضه الصغيرة لن تزداد خصبًا، وأما من يملكون مائة هكتار يفلحونها بواسطة خُدَّامهم فالأمر مختلف.
وخرج تحت المطر وهو يلعن؛ لكي يفك خيوله التي تركها تمرح في الفناء.
وأخذت بطة ضالَّة تصيح في يأس، وبيتر يُحسُّ بوخزٍ في ساقه المجروحة.
ووصل جاراه فاسيل وماريا إلى عتبة البيت مغطِّيَيْن رأسيهما بالقماش.
– لا تقلق يا ماجون … إنهما غلامان، مبروك.
وأراد بيتر أن يردَّ وأن يشكرهما، ولكنهما لم يعطياه الوقت، فقد وصلا إلى الشارع، وهدأ المطر فلم تَعُدْ تسقط غير قطرات نادرة من الماء، وأوراق الطلح تهتز فتُقلق راحة العصافير في أوكارها.
واصطف أطفال ماجون من جديد أمام الباب، ووضعت أنَّا رأسها في النافذة وهي صفراء كالشمع، وظلَّ بيتر وحده في الفناء وقدماه الكبيرتان العاريتان مغروستان في طين أمطار يونيو، وليست لديه أيَّة رغبة في الدخول، وصهل أحد خيوله، وأحسَّ بأن صيحة الحيوان الجائع تتخذ شكلًا وإطارًا؛ لتبقى معلَّقة على طلح الطريق تحت بصر أطفاله.
وخرج ماجون من الفِناء؛ ليذهب إلى بيت أنطواني لونجو متشوِّقًا إلى أن يعرف عند مَنْ ذهب صيارفة الخزانة في ذلك اليوم، وهل وقَّعوا الحجز على حاجيَّات أحد؟
ولم يقل شيئًا لأنَّا ولا لأطفاله، وعبَرت أصوات الصهيل السور من جديد قادمةً من الفناء، وتقدَّم بيتر مبهوتًا إلى وسط الطريق وأصوات الصهيل تتبعه، ويراها معلَّقة على أشجار الطلح وهي تُلِحُّ عليه، ولكنه يحاول أن يفهم قائلًا: «هل حدث أن رأى إنسانٌ صيحات معلَّقة بأغصان الأشجار؟»
وهبط المساء — في هدوء — بخطًى ناعمة، وَصَفَتِ السماءُ، والشمس الغاربة ترسم أزهارًا بنفسجية فوق زجاج نوافذ المنازل الريفية.