دليوس الكاتب الذي لا يُهادِن، المهموم دومًا بتاريخ بلده
عندما حصل فريدريش كريستيان دليوس في عام ٢٠١١م على جائزة بوشنر، أهم الجوائز الأدبية في ألمانيا، مثَّلَ الأمر مفاجأة لكثيرين؛ ليس لأن دليوس مجهول لدى القُرَّاء أو النُّقاد، على العكس إنه يحظى باحترام النُّقاد وإعجاب جمهور القراء معًا، لكن دليوس ليس بالكاتب النجم، وجائزة بوشنر تذهب في كثير من الأحيان إلى كُتَّاب نجوم راسخِين، كما أنه ليس بالكاتب الطليعي المجدِّد مِمَّن تَتزيَّن بهم الجائزة أحيانًا، إنه بالأحرى كاتِب ملتزم في عصر فَقَد فيه الالتزام بَريقه وأَلَقه، كاتِب لا يعرف المهادَنة، ما زال يؤمن بالكلمة وبدور الأدب في إصلاح المجتمع.
يمكن اعتبار الروائي الألماني فريدريش كريستيان دليوس (من مواليد ١٩٤٣م) «صنع الله إبراهيم الأدب الألماني»؛ مثل الروائي المصري اشتُهر دليوس برواياته التوثيقية والتسجيلية النقدية التي لا تَتصالَح مع المؤسَّسة السياسية الحاكمة، ومثله هو كاتب يساري يرى للأدب — أيضًا — دورًا سياسيًّا، ومَن يُطالع عمل دليوس الوحيد المنقول إلى العربية حتى الآن — رواية «قاتل لمدة عام» — يعرف كيف يضفر هذا الروائي الأحداث التاريخية بكل تفاصيلها المُمِلَّة أحيانًا (الفترة النازية وما أعقبها من انشطار ألمانيا إلى نصفين، ثم الحرب الباردة والثورة الطلابية) مع سيرته الذاتية ناسجًا منها رواية شيقة تمزج الواقع بالمُتَخيَّل، هذه الرواية اعتبرها الروائي جميل عطية إبراهيم «درسًا لمن يريد أن يكتب رواية تاريخية»، مثلما قال لي على هامش معرض القاهرة للكتاب في عام ٢٠٠٨م، أما الروائية منصورة عز الدين فقد غيَّرت هذه الروايةُ من ذائقتها الأدبية، مثلما كتبَتْ في مقالتها بأخبار الأدب عقب صدور الطبعة الأولى من الترجمة العربية: «الرواية الجيدة هي — بصورة من الصور — تلك التي تُربِك قناعات قارئها وتُغيِّر من رؤيته لذوقه في القراءة، ورواية دليوس نجحت في هذا لحد كبير (على الأقل معي)؛ إذ لا أميل كثيرًا للروايات الوثائقية التي تستند بقوة إلى أحداث ووقائع تاريخية مجرَّدة، غير أني نسيت هذا مع الجملة الأُولى المزلزلة التي افتتح بها دليوس روايته: «كُلِّفتُ بالقتل في ساعة الغسق، مساء عيد القديس نيقولاوس.»
التاريخ الألماني هو شُغْل دليوس الشاغل وهمُّه المُقِيم، ربما منذ أن بدأ الوعي بما حوله بعد مولده في غمار الحرب العالمية الثانية، كان مولده في روما، حيث كان أبوه، القس البروتستانتي، يعظ الجنود الألمان الذين يحاربون على الجبهة الإيطالية، ونشأ في منطقة هسن في قلب ألمانيا، وتلقَّى تعليمه هناك في الفترة التي حاوَل فيها الألمان أن ينسوا الماضي النازي قليلًا، وأن يتركوا الماضي يمضي، وأن يبنوا دولتهم بعد أن حوَّلتْها حرب هتلر إلى أنقاض.
مقاوَمة تناسِي الماضي أو تجاهله سيصبح أحد الموضوعات المُهمة لأدباء اليسار في تلك الفترة، كما سيشغل دليوس في أعماله اللاحقة، وعندما نقرأ في «قاتل لمدة عام» مناجاة الشاب الذي يريد أن يقتل قاضيًا نازيًّا، نعرف أن الروائي إنما يَتحدَّث عنه نفسه: «لماذا لا أحْيَا حياة حُرَّة بدون أوساخ التاريخ وشياطينه؟ لماذا لا أواصل الكتابة بلا إزعاج من أحد؟ أن أُسطِّر جملًا طويلة جميلة، رشيقة وأنيقة، ثم يأتي الوقت، بعد عشرين أو ثلاثين عامًا، بعد أن يكون الألمان قد اندثروا، أو على الأقل تَخلَّوا عن فظاظتهم، وبعد أن يكون النازيون قد وأَدُوا الروح النازية، عندئذٍ يكتشفونني ويَحتَفُون بي، وعندئذٍ أجلس مثل إلياس كانيتي في إحدى مقاهي هامستيد هيث، وبنظرة باسمة أقرأ الصحف الألمانية.» ربما هذا ما خامر دليوس في شبابه، غير أنه اختار طريقًا آخر.
التحق دليوس عام ١٩٦٣م بجامعة برلين، ودَرَس هناك الأدب الألماني، واختتم دراسته عام ١٩٧٠م بالدكتوراه. وفي برلين عايَش دليوس فترة الانتفاضة الطلابية التي تَفجَّرت عام ١٩٦٨م بكل زخمها، وهي الفترة التي سيكتب عنها لاحقًا، كما سيكتب عن جماعة «بادر-ماينهوف» اليسارية الإرهابية التي تولَّدَت من رحم الاحتجاجات الشبابية. عمل دليوس محرِّرًا في إحدى أشهر دور النشر اليسارية (دار كلاوس فاجنباخ) من عام ١٩٧٠م حتى ١٩٧٨م. وفي تلك الفترة نشر كتابًا توثيقيًّا ساخرًا بعنوان «عالم سيمنس. كتاب احتفالي بمناسبة مرور ١٢٥ سنة على تأسيس شركة سيمنس» ١٩٧٢م، شَنَّ فيه هجومًا أخلاقيًّا عنيفًا على الشركة المشهورة؛ ما تسبَّب في رفع عدة قضايا عليه وعلى دار النشر، خرج منها الكاتب منتصرًا، ولكن بعد أن كادَت الدار تُشهِر إفلاسها. وفي عام ١٩٧٨م تفرَّغ للكتابة وراح يعيش متنقلًا بين برلين وروما، وابتداء من مطلع الثمانينيات بدأ دليوس يلفِت الأنظار برواياته الوثائقية التاريخية مثل «بطل الأمن الداخلي» ١٩٨١م، و«مقديشيو، مقعد بجانب الشباك» ١٩٨٧م، و«يوم الأحد الذي أصبحت فيه بطلَ العالم» ١٩٩٤م.
يقول دليوس: إن الكتابة هي التي حرَّرتْه من سطوة أبيه، كما عتَقتْه من التَّهْتَهة وإحساسه بالخَرَس في طفولته الريفية، وفي جملة دالَّة صرَّح بها إلى صحيفة «فرانكفورتر ألجمانيه» ذات مرة قال: إنه لجأ إلى الكتابة؛ لأنه فشل في إجادة السباحة، فهو شخص لا يستطيع أن يطفو على السطح. دليوس كاتب يغوص في العمق، يرسم بقلمه شخصيات روائية جذابة، لكنها ليست أُحادية البعد، يُهاجِم النازية، ولكنه يسلط الضوء أيضًا على المقاوِمين في تلك الفترة، يَشن حربًا شعواء على إحدى كبريات الشركات الرأسمالية في ألمانيا، ولكن دون أن يقع في الأيديولوجية اليسارية المُبسَّطة الساذجة، يكتب عن الثورة الشبابية التي شارك فيها، ولكن دون تمجيد، بل بسخرية هادئة من الشاب المتحمِّس الذي كانه يومًا.
في رواياته ينجح دليوس في إحياء الفترة التاريخية التي يتناولها بحيث يجد فيها القارئ كثيرًا من التشابهات والتقاطعات مع الحاضر، وخصوصًا مع حاضرنا العربي. في «قاتل لمدة عام» على سبيل المثال يلقي دليوس ضوءًا كاشفًا على حقبة النازية التي تُعَد من أشد فترات التاريخ الألماني ظلامًا، وسرعان ما يتبين القارئ أن النازيِّين الجناة ليسوا بالضرورة وحوشًا آدمية، بل إن الشرَّ عادي، مثلما قالت الفيلسوفة هنَّه آرنت، كما تبين الرواية أن الديمقراطية عملِيَّة طويلة وصعبة، وأن شعبًا سايَر الديكتاتور سنوات طويلة وآمَن به، لن ينقلب شعبًا حرًّا ديمقراطيًّا بمجرَّد إسقاط الطاغية.