صوت حُر من العالم الحُر
لا أحد سيصدقني على الفور عندما أقول: إني قاتل؛ لذلك لا بُدَّ من الرجوع قليلًا إلى الوراء، فالمِدْفأة والكعك هما أيضًا جزء من سلسلة القرائن والأدلة، وما دمتُ لا أستطيع أن أستبعد أن كعك «الأدفنت» قد أثار عندي شهوة القتل، فإنني لن أتجاهله في اعترافي المكتوب. التحقيق لا بُدَّ من أن أُجرِيَه أنا مع نفسي، هذا هو سوء حظ مَن لا يُقبض عليه متلبسًا، ومثلما هو الحال في كل رواية بوليسية جيِّدة فإن الدوافع والملابَسات والخجل من الجريمة لا يمكن الكشف عنها إلا تدريجيًّا.
تتابعَت الأنباء من الراديو. جمل عادية مُصاغة بلغة الأخبار المعتادة. لم أكن أصغي لما يُقال، كنت أشعر بالتعب الذي تَراكَم خلال شهر ديسمبر الرمادي المَطير، ولا تزال الغرفة باردة، فالمدفأة الحَجرية تحتاج إلى بعض الوقت، وهكذا تركْت نفسي أتدفأ بصوت المذيع، هذا الصوت الأليف من طبقة «الباص»، الذي كان يتحوَّل كل ساعة إلى الصوت الحُر من العالم الحُر. قِطع الكعك كانت قاسية ولها حلاوة بائسة. أخذْتُ أنتظر النشرة الجوية، ثم موتسارت أو بيتهوفن قبل أن أغلق الجهاز.
لم يكن في النبأ ما يثير الاهتمام، كما أنه لم يكن مفاجئًا، ولا حتى في تلك الفترة؛ أي حكم آخر كان سيمثل مفاجأة؛ فرجال القانون لن يُدينوا أبدًا رجال قانون، حتى لو كانوا من النازيِّين الذين أصدروا ما يزيد على مائتي حكم بالإعدام، وبهذا أكَّدت المحكمة رأيًا شائعًا. رغم ذلك كان هذا النبأ يخفي خبرًا آخر هامسًا، كأنني سمعت بأذن ثالثة، بأذني الباطنية حيث تظل المتناقِضات عالِقة، سمعتُ عبْر الأثير واستشْفَفتُ من مقاطع الحروف التي تناهت إليَّ ذبذبات رسالة سرية تُطالب في وضوح: لا بُدَّ من أن يقوم أحد بعمل رمزي، لا بُدَّ من أن يقتل شخص هذا القاتل، وستكون أنت هذا الشخص.
كلا، لم أشرب خمرًا، ولم أكن تحت تأثير المخدِّرات، ولم أترنح من سكرة الحب في فِراش صديقة. كنت في منتهى الوعي والانتباه عندما وصلتني الجملة، متعبًا قليلًا فحسب: لا بُدَّ من أن يقوم أحد بعمل رمزي، لا بُدَّ من أن يقتل شخص هذا القاتل، وستكون أنت هذا الشخص!
وبينما كان المُذيع يقرأ توقُّعات الأرصاد الجوية لطقس نهاية الأسبوع، كان خيالي قد انطلق من عقاله: أنا ومعي مسدس، طلقة، رجل يسقط بلا حراك، هذا هو الأمر ببساطة، هذه هي التكملة المنطقية لنشرة الأخبار. لم يكن ليثير استغرابي لو سمعت من الراديو النبأ العاجل التالي: علمنا لتَوِّنا أن طالبًا بِرلينِيًّا اتخذ قرارًا باغتيال القاضي «ر».
أنت تُخرِّف! أنت بالذات! انس الأمر! هكذا حاولتُ أن ألجم خيالي، لم يكن الأمر مضحكًا، كلا، بل مثيرًا للسخرية فحسب، سخيفًا، لا يستحق مجرَّد التفكير فيه. خلاص، انتهينا!
إن الشجاعة تعوزني كي أمسك حجرًا بيدي، ناهيك عن أن أرميه. أنا جانيًا، قاتلًا، هذا التصور لم يكن متهورًا فحسب، بل مستحيلًا ومجنونًا وأحمق، ولكنني أُخمِّن اليوم أن هذا التصوُّر أطلق الشرارة داخلي بسبب عُبثِيَّته تحديدًا، فألهب خيالي المُرهَف الذي راح يُقدِّم الصور المناسبة. وجدت نفسي أُمثِّلُ الدور الرئيسي، فأقف متكئًا إلى مدخل أحد المنازل في «فيتسليبن-شتراسه» أمام محكمة الاستئناف في انتظار الذي قُتِل باسم العدالة، لم أنتظر طويلًا حتى رأيتُه خارجًا من البوابة الرئيسية، رجلًا طاعنًا في العمر لا يلفِت النظر، هبط درجات عدة، ثم سار في اتجاه سيارته، ولحظتُها، وبعد أن أحكمتُ التصويب، أردَيْتُه قتيلًا برصاصات ثلاث، وبخطوات هادئة ولَّيْتُ الفرار في اتجاه بحيرة ليتسن حيث رآني العابرون جميعًا، ورغم ذلك لم يوقف أحد مشيتي الواثقة المختالة: شاب، بين العشرين والخامسة والعشرين، نحو ١٨٠سم، رشيق، أشقر، يرتدي جاكتة زرقاء غامقة واقية من الريح وبنطلون جينز أزرق، إلى أن أعلنَت أبواق سيارات الشرطة من اتجاه الكاتدرائية اعتقالي على نحو احتفالي مُنهيةً دوري في الفيلم.
فيلم قصير بسيط: نذل وشاب وطلقة. فيلم «مسلوق»، هذا واضح، إلا أني شعرتُ على الفور بالتأثير المدغدغ للحواس: سعادة أن تكون — للحظات قليلة — بطلًا ومنتقِمًا للعدالة.