أقوى المدافع
سار الحديث الثاني مع السيدة جروسكورت على نحو أفضل. حاولت في اليوم التالي أن أستخدم إجاباتها المتردِّدة وتقاريرها المقتضبة عن المريض رودلف هيس كفصل من فصول كتابي. ظللت أسابيع أفعل ذلك، بعد كل جلسة مسائية أو بعد شرب القهوة معها في عصر الآحاد، أسجل ما قالته. شذرات، ملاحظات، مَسوَّدات غير مُشذَّبة، كل هذا لا بُدَّ أن يتضمنه أي اعتراف مكتوب:
في الصورة الأولى بالأبيض والأسود سيارة سوداء تقف وسط الجليد. ثلاثة رجال بملابس بيضاء يُحيُّون رجلين يرتديان ملابس داكنة. كلهم يرتدون الزي الرسمي، إما معاطف الأطباء أو معاطف الحزب. على رءوس الرجلين الداكنين البيريه الرسمي، أما الرجال البيض فلا يضعون شيئًا فوق رءوسهم. كل الأنظار شاخصة إلى الرجل في المنتصف: رودولف هيس، نائب الفوهرر. لا تشي الصورة بشيء، لا تقول: إن الطبيب الشاب إلى اليمين، الطبيب أول جيورج جروسكورت، هو الأقوى هنا، على الأقل لمدة نصف ساعة.
لا يحيد الضيف الرفيع عَن نظر الطبيب. في قَسْمِه بالمستشفى اشتهر جروسكورت بقيامه بالنظر الفاحص إلى مرضاه دقيقتين أو ثلاث، وهو مُرتَكِز باسترخاء على إطار الباب، اليدان في جيبي المعطف، ثم يتنبأ بالتشخيص، وهو، على ما تَدَّعِي الممرِّضات، دائمًا صحيح: «قدراتُه تفوق الرومان القدماء، إنه يستطيع أيضًا أن يستشفَّ من حالة الأمعاء — التي لا يراها — مستقبل المريض.» منذ عام ١٩٣٦م وهو يعالِج الأوجاع الخطيرة في المعدة والأمعاء لرئيس المقاطعة ألفريد هيس الذي كان ينصح أخاه ونازيين آخرين بالذهاب إلى الدكتور جروسكورت قائلًا: «د. زاوربروخ قال إن حالتي ميئوس منها، أما جروسكورت فقد أنقذ حياتي.» وكل بضعة أسابيع يأتي نائب الفوهرر إلى مستشفى موآبيت ليكشف عليه الطبيب الشاب، أي شرف للمستشفى!
صورتان أمام غرفة الكشف: هيس بالبيريه والقفاز في يده اليسرى، يرد بيده المرفوعة التحية، ربما تحية «هايل هتلر» التي ألقاها شخص لا يظهر في الصورة. يبتسم ابتسامة جامدة في وجه الكاميرا. يحد وجهه حاجبان قويان داكِنَا اللون وجبهة عالية، مثل زميله الطويل يخلو وجهه من الشارب. خلفه، نصف متوارٍ، يقف جروسكورت وإحدى يديه على مقبض الباب.
يعرف الطبيب أن الواقف أمامه في صحة جيدة نسبيًّا. إنه لا يتوهم شيئًا، هذا أيضًا مما تنطق به الصورة، فيما يخص المريض والعصابة الحاكمة، حزب الكذَّابِين ومُثِيري الحروب والقَتلة وعُتاة المجرِمِين. على البيريه نَسْر الرايخ باسطًا جناحيه، وفي المَخالِب الصليب المعقوف. على جروسكورت أن يلتزم الحذر أمام هذا النَّسْر وهذا الصليب وهذه المَخالب، عليه أن يمثل لمدة نصف ساعة النازي الكامل. عليه ألا يرتكب خطأ واحدًا. إنه يبتسم، يبدو متواضعًا في افتخاره: انظروا، نائب الفوهرر هو خير حماية لي، أفضل رجل يتجسَّس على النازيِّين لصالحي!
الصورة الثالثة ليس لها وجود: القيصر عارٍ، بلباسه الداخلي والجَوْرَبَين على سرير الكشف. إنه يَدَع الطبيب يُصْغي، يدق، يسلط ضوء كشافِه في حَلْقِه، ويتحسَّس بطنه، يسمح بقياس ضغط الدم وبأخذ عَيِّنة من الدم. المريض قَلِق بشأن قلبه، ويشكو من سوء الدورة الدموية. رسم القلب ليس سيئًا بالنسبة لشخص قليل الحركة، مجبر على تحمُّل التناقض اليومي بين البروباجندا والحقيقة. يظل هيس صبورًا، يسأل بخوف عن آلام لا يعانيها. يتكلم جروسكورت عن كيس صغير هنا، أو عن تصلُّب هناك وتحاليل دم نتائجها ليست جيدة. أما العلاج الذي يقترحه فهو بسيط: أخذ الآلام الصغيرة مأخذ الجد، ثم تضخيمها حتى يأتي المريض مرة أخرى. هيس من الأتباع المُتطرِّفِين لنظريات التداوي الطبيعي، وجروسكورت يهتم بنظرياته، اهتمامًا صادقًا حينًا، وكاذبًا أحيانًا. الرجل الثاني في الرايخ سعيد؛ لأنه عثر أخيرًا في المعالِج الشاب على طبيب تلقَّى تعليمًا كلاسيكيًّا، ومع ذلك يستطيع أن يتناقش معه حول التداوي بالضوء والهواء والرياضة والنظام الغذائي والأعشاب الطبيعية. في دريسدن أطلقوا اسمه على مستشفى بأكملها مُخصَّصة للتداوي الطبيعي، ولكنها لا تكفيه. إنه يحب التردُّد على المعالِجين بالقوة المغناطيسية أو بوضع الكف أو الذين يُشخِّصون المرض بالنظر، ويتناقش مع جروسكورت عن فنونهم، ساعيًا للحصول على تأكيد من خبير طبي. يثق هيس بمعالِج يأتي بالمعجزات اكتسب قدراته من مُمارِس هندي لليوغا. لقد بهر هذا المعالج عديدًا من كبار النازيين بالبقوليات والمغناطيسات والأنامل، وبهذه الأشياء استطاع أن يسحب الأمراض من الأجساد. يقوم جروسكورت بالفحص العلمي لتلك النجاحات المزعومة، ويصل إلى نتيجة سلبية، لكن هيس لا يستسلم ويطلب أجهزة علمية أفضل. سباق بين المدارس الطبية، يسايره جروسكورت، وينجح في إقناع المريض المُحبَط كي يُموِّل شراء أجهزة علاج حديثة أخرى للمستشفى.
مثل غالبية كبار رجال النازية كان هيس مريضًا بالوهم، ولذلك يتحدث كثيرًا عن نفسه. يعالج جروسكورت وكيل وزارة الخارجية، كما يعالج رؤساء مقاطعات وسفراء ومسئولين في رئاسة الوزراء ورجال أعمال، ولكن ليس هناك من يثرثر مثل كاتم الأسرار الأعظم. عندما يكون منهكًا وفاقِد الرغبة، أو في غمرة شعوره بتحسُّن حالته يتحدث أحيانًا عن عظمة الفوهرر، وعن التقدم الذي أحرزوه في الحفاظ على نقاء الجنس الآري، عن المهمة الهائلة التي يقومون بها، أي تصفية اليهودية العالمية في معسكرات ضخمة في الشرق، ودائمًا بنبرة الواثق من النصر وبنجاح الضربات العسكرية المُقبِلة. بكلمات ملتوية يحكي هيس لطبيبه في غرفة الكشف عن أسرار عسكرية، مثل الزحف المخطط له على الاتحاد السوفييتي في ربيع ١٩٤١م.
شخص مثل رودلف هيس بالذات يحتاج إلى أن يجلس بين الحين والآخر على كرسي الاعتراف كي يتنفس الصعداء وسط ما يبذله من جهد متواصل عندما يعطي أوامره الحادَّة ويقدم تقاريره صارخًا: «هايل هتلر!» استراحة من المناقشات المُملَّة التي كان يجبر نفسه على الاستماع إليها صابرًا، أو عندما يجلس أمام الفوهرر على كرسي صلب، محافظًا على قامته المنتصبة المنتبهة، ومصغيًا إلى الخطابات التي كانت تزداد في كل مرة طولًا. ثم أين يستطيع رجل نازي أن يُظهر ضعفه إلا في غرفة الكشف الطبي؟ لا يستطيع أن يفعل ذلك عند الرِّفاق، ولا وسط العائلة، أما القساوسة وآباء الاعتراف الآخرون فإنهم مُستبعَدون تمامًا. شرف المهنة يُلزِم الطبيب بكتمان الأسرار، وهو يثق في هذا الطبيب ثقة لم يمنحها لأحد، فلمَ لا يخفف عن كاهله بضعة دقائق هنا، ويهرب من ذلك القالب الذي يجبره الحزب على التخشب داخله؟
نائب الفوهرر — هكذا يقول زملاؤه بحسد — مهووس بجروسكورت. يدين مستشفى روبرت كوخ في موآبيت بسمعته الطيبة للأطباء اليهود الذين طُردوا منه عام ١٩٣٣م. لقد حل محلهم أشخاص من قوات الحماية وقوات الصاعقة، أطباء بائسون ترددوا طويلًا قبل أن يوافقوا على ترقية أطباء أكفاء مثل جروسكورت إلى درجة «طبيب أول». والآن ينظرون إليه شزرًا مُتسائلين: لماذا يأتي نائب الفوهرر إلى موآبيت، رغم أن لديه مستشفًى خاصًّا في دريسدن؟ ولماذا لا يأتي إلينا؟ لماذا يذهب إلى هذا الجروسكورت العنيد تحديدًا، رغم أنه ليس حتى عضوًا في الحزب؟
– لا، قالت أناليزه جروسكورت، لا أكاد أعرف شيئًا عن الأحاديث التي كانت تدور بينهما على انفراد، كما لا أعرف سوى القليل عن أمراضه الحقيقية أو المتوَهَّمة، ولم أُرد أن أعرف، شرف المهنة. لم يخبرني جيورج إلا بما استطاع أن يستدرجه إلى قوله، بحذر بالِغ، وبطريقة عابرة: إبادة اليهود، الخطط الحربية، المعسكرات. في المقابل أسدى لهيس خدمات كثيرة، فجعله يقلع مثلًا عن الفاندورم وأشياء أخرى ضارة. الأكيد على كل حال أن علاقة شخصية طيبة كانت تربط بينهما عبْر سنوات عديدة. أمام مثل هؤلاء الأشخاص كان جيورج يُظهر ابن الفلاح الذي كانه، لا المثقَّف، وهو أمر كان يأتي بثماره. هؤلاء المستغِلُّون لمناصبهم كانوا يحبون طبقة الفلاحين. كان جيورج يمثل أيضًا دور الرفيق العاشق للحزب، رغم أنه لم يكن يومًا عضوًا في الحزب. بمناسبة عقد قراننا هنَّأنَا هيس بباقة زهور ضخمة، ما زلت أحتفظ بالبطاقة المُرفَقة. كان يدعونَا كثيرًا إلى حفلات استقبال في منزله، وكانت تلك أسوأ الأشياء.
– أسوأ الأشياء؟
– لم نكن نستطيع الرفض؛ لأنه سيثير الشبهات حولنا على الفور. يعني كان علينا أن نسايره، وكان علينا التأنق أمام العصابة النازية، والانحناء أمام ذلك الزي العسكري البغيض، ومُصافَحة القتلة، ومقابلة مزاحهم السخيف بالابتسام المهذَّب، والصمت عندما يتفاخرون؛ كان علينا التحدث طيلة الوقت بلسانين والحياة في عالَمَين. كان أمرًا مرعبًا. في إحدى الحفلات كنت جليسته، حدَث ذلك بعد حفل القران بقليل. فيما بعد قال جيورج: يشبه هذا ما كان يحدث في عصور الإقطاع. لحسن الحظ تقلَّص حق الأمراء في الليلة الأولى ليصبح الحق في الرقصة الأولى.
– أنتِ رقصتِ مع رودلف هيس؟ كيف كان ذلك؟ هل لديك صور؟
– اهدأ، يا عزيزي، اهدأ! هناك صور كثيرة لم تَعُد موجودة. لم يكن يجيد الرقص، غير أنه لم يكن سيئًا. كنت أقول في سري: إذا لم يكن يحسن القيادة في الرقص، فعليَّ أن أقوده، وسيكون لك من الشاكرين إذا لم تكوني سلبية مثل فتاة نازية تجعلها الرهبة مُتخشِّبة في رقصها. كل شيء كان خاضعًا للتكتيك. كان جيورج يَعِد أوراقًا مُزوَّرة لليهود الذين يريدون الاختفاء عن الأنظار، وفي الصباح يعالج أناسًا من معسكرات التصفية، بأسماء مُستعارة، وببطاقة تأمين صحي مُزوَّرة، وفي المساء كنا نرقص الفالس مع تلك العصابة. لم يكن لدينا خيار آخر؛ شعارنا: حَذارِ أن نلفت الانتباه. سايرناهم، ونحن نطفح بالاحتقار لهم!
إذا كنت مرة في داخل هذه الدوائر، لن يخطر على بال أحد أبدًا أنك لا تنتمي إليهم. كان ذلك بسيطًا جدًّا، وخطيرًا جدًّا؛ لأنك لن تستطيع التمويه بشكل مُتقَن تمامًا. ذات مرة سأل هيس جيورج أثناء الكشف عن سبب عدم تعليقه شارة الحزب. كان مستعِدًّا للسؤال: لقد قدَّم طلب عضوية الحزب منذ وقت طويل، ولكنه ما زال في انتظار وصول دفتر الحزب وشارته، ثم أضاف: كما أني لن أعلق شارة الحزب أبدًا على معطف الطبيب، وإلا تلوَّثتْ بالدماء! لقد تشاورنا طويلًا في كيفية خروجنا من هذه الورطة. اهتدى جيورج إلى حيلة؛ قام بملء استمارة الحصول على عضوية الحزب، ووضع عليها تاريخًا سابقًا، ولكنه لم يرسلها، بل أحرقها، وظل محتفظًا بنسخة من الاستمارة كدليل. وللتمويه ألحَّ علي أن أنضم إلى الرابطة النسائية الأقل خطرًا، الرابطة النازية للنساء.
ورغم ذلك لفَتْنا الانتباه، أتذكَّر أمسية كان أحد الأولاد النازيِّين من ذوي المناصب الرفيعة يتهكم أثناء تناوله الطعام؛ لأن جيورج جاء لمقابلة نائب الفوهرر دون أن يعلق شارة الحزب. دافع جيورج عن نفسه قائلًا: إنه كان يزور مرضاه قبل مجيئه مباشرة، ولم يكن لديه وقت لتغيير ملابسه؛ ولذلك نسي الشارة. لم تكن حجته مقنعة للغاية؛ لذا سأله هيس في المرة القادمة عن ذلك، فأجاب جيورج ببرود: لم أكن أستطيع أمام هذا الجمع الراقي تشويه سمعة حزبنا والقول: إنه أحيانًا يتأخَّر في الأمور التنظيمية، لذلك فضَّلْت أن أتحمل أنا الذنب. بعد هذه الحادثة تركونا في سلام، هيس وحاشيته كانت لديهم هموم أخرى.
هكذا كان جيورج، كان ينافق هذا المجرِم دون أن يعطيه الشعور بأنه ينافقه. كان هيس يحبه ويحتاج إليه، جيورج كان يحتقره ويحتاج إليه. كان أفضل حماية لنا إذا شك الجستابو في أمرنا يومًا. وقد سار كل شيء على ما يرام، إلى أن سافر هذا المُغفَّل إلى إنجلترا في مايو ١٩٤١م. قبلها بأسبوع طلب مُنشِّطات من جيورج، تسوكليتون على ما أعتقد، حتى يظل يقظًا أطول فترة ممكنة. أعطاه جيورج هذه المادة دون أن يعرف بالطبع أنه يحتاج إليها بسبب رحلة الطيران الطويلة إلى إنجلترا. بعد ثلاثة أيام اتصل هيس وسأله عن مادة أقوى تأثيرًا، فأجابه جيورج: خذ ضعف الجرعة! ثم طار إلى إنجلترا. في غمرة جنونه توهَّم هيس أنه يستطيع إقناع الإنجليز بأن يشاركوا في الاجتياح الألماني الوشيك للاتحاد السوفييتي لقطع دابر البولشيفية بصورة نهائية. بقية الحكاية معروفة: اعتبره النازيون مجنونًا، وهو بالفعل كان مجنونًا مثل معظم تلك الكائنات، والآن يقبع رفيقي في الرقص في سجن شبانداو على بُعْد عدة كيلومترات من هنا، وما زالت الجملة الحزينة التي قالها زوجي آنذاك، في مايو ١٩٤١م، تتردد في أذني: لقد ضرب أقوى مدافعي طلقته إلى الخلف!