القلب الكبير
– أي امرأة هذه التي ترقص الفالس مع ألدِّ أعدائها، وتفقد زوجها الذي حُكم عليه بالإعدام، وتُعزِّيك بنيلس هولجرسون، وبعد ذلك يجعلون منها هنا في الغرب ساحرة شريرة؟
هكذا سألَتْنِي كاترين قبل أن تَتعرَّف إلى السيدة جروسكورت.
– إذا كنتِ تحتاجين إلى وصْف لها، فبكل سرور: طويلة نسبيًّا، نحو متر و٧٨، قوام نحيف، شعر مُتمَوج قصير بُنِّي غامق، نظارة. وجه بيضاوي حيوي، متيقظ، عينان بشوشتان، في الغالب مبتسمتان، وجه نادرًا ما يكون صارمًا، وكثيرًا ما يكون مُنهكًا. تجعيدات الوجه مصدرها الضحك في الأغلب، لا الهموم. أنف صغير، صوت رفيع دافئ، يميل إلى العلو. الدفء القلبي الحاسم، هذا هو ما يُميِّز طبعها. من يعرفها، يقول على الفور: قلب كبير.
– مِن أين أتت به؟
آنذاك كانت معلوماتي ضَحْلة، اليوم أستطيع الإجابة قائلًا: من العائلة ربما؛ والدها، هاينريش بلومبه، أحد المديرين رفيعي المستوى في قطاع الصناعة، في «كروب» و«دورتموندر أونيون» ومثل هذه الشركات، ثم تولَّى رئاسة «هانوماج»، ورئاسة قطاع اقتصاديات الدفاع؛ أي إنه عضو في الحزب. بورجوازي كبير، أعلى دخل، ورغم ذلك ذو حساسية وضمير سياسي. الأم، إليزه بلومبه، كانت تعمل مُربِّية أطفال في البلاط الملكي الإنجليزي. كل منهما لديه مشاعر وطنية قومية جارفة، لكنهما بعيدان عن النازية، كانَا يبغضان الملاحَقة المحمومة لليهود. عم أناليزه هو بالمناسبة فريدريش فيلهلم بلومبه، الذي اشتهر في برلين وهوليود باسم فريدريش فيلهلم مورناو، وخُلِّد في تاريخ السينما.
– فلنظل مع أناليزه، القلب الكبير.
– نهاية سنوات العشرينيات، الفتاة الشابة تَتَّهِم الأب بالعمل في قطاع التسليح، الأب يرد: لن تُغَيري العالم! أهكذا؟ إذن فهي تريد تغيير العالم، وأن تصبح طبيبة. في الثلاثينيات لم يكن أحد يدرس الطب؛ لأن درجاته مثالية. كان على الإنسان أن يؤمن بالنخوة وإغاثة الغير، كان عليها أن تَتحلَّى بالانضباط الأنثوي الصارم والميول الاجتماعية والتوجهات الاشتراكية. القلب الكبير لا يمكن أن يكون نازيًّا. فيما بعد قالت: وفجأة فَهمتُ ما يحدث. تُذاكر ليل نهار في: جرايفسفالد، وإنسبروك، وروستوك، وبرلين، ثم تتلقى فترة تدريبها في مستشفى روبرت كوخ. رئيسها جيورج جروسكورت، رجل لافِت بمرحه وحيويته وذكائه وحماسته.
– ثُم؟
– القَوام الرشيق الجميل للفتاة ذات الستة والعشرين ربيعًا لَفَت على الفور أنظار نصير النساء جروسكورت، وزاد الإعجاب بسبب وجهها الرقيق وطريقتها الحاسمة. كان في الثانية والثلاثين من العمر، فُرَص التقارب عديدة، ولكن المعايير السياسية كانت هي الفيصل.
– السياسية؟
– ١٩٣٦م! ما رأيها في اليهود؟ هكذا سأل الطبيب بحذر. إنها تُكِنُّ لهم تقديرًا كبيرًا، ولديها صديقات يهوديات، وتخجل مما تُمارِسه الدولة من مُعاداة للسامية. وبذلك تتم إزالة العائق الأكبر في طريق حبهما، فليتطاير شرر الحب. تتردَّد لمدة عام تقريبًا قبل أن تقوم بتقديم الحبيب الذي تَوَد أن تتقاسم معه الحياة إلى الوالدين.
– ابن فلاحين وفقير.
– بل أسوأ من ذلك، إنه يعادي النازية بشجاعة. ولكن الرجل الاجتماعي الساحر المثقَّف ينجح بسرعة في كسب قلوب عائلة بلومبه. يد البنت تعني أيضًا ميراث البنت. الشرط: لا زواج قبل أن تحصل أناليزه على درجة الدكتوراه. في قرية أونترهاون؛ حيث تمتلك عائلة جروسكورت أرضًا زراعية، يشعر الجميع بالفرحة لأن الابن العنيد — الذين يفتخرون به كلهم — سيتزوج أخيرًا، و«بنت ناس» أيضًا، ودافئة القلب.
– قلب كبير، فهمنا!
– أوسع الأبواب مفتوحة أمامهما، شُهرة مهنية، طبيبة وطبيب يكونان عائلة ناجحة، ولكن كيف يقاوم الإنسان إرهاب الحاضر؟ يصطحب جيورج خطيبته إلى صالونه، صالون ومقهى كونتسه، «ص (م) ك»، المُلتقَى السري في قسم الأمراض الباطنية في المستشفى، والمسمى على اسم المساعِدة التقنية إلزه كونتسه التي كانت تُعِد القهوة. عندما يرفع جروسكورت وهافَمان شعار «بدأت التجربة»، كان يتجمَّع في مختبر تحليل الدم بعض الأطباء والممرضات والمساعِدِين التقنيين، وجميعهم من المُعادِين للنازية الموثوق بهم. قهوة، الوضع السياسي، نكات جديدة، قضايا طبية، نميمة حول رئيسات الممرِّضات النازيات والأطباء من فرقة اﻟ إس، إسطوانات «أوبرا القروش الثلاثة»، وفي المساء يقيمون أحيانًا الحفلات. واجب الاستماع إلى خُطَب الفوهرر، الفتن التي يثيرها الأطباء المُوالون للنازية وعجزهم المهني، كل ذلك كان من الصعب تحمُّله. ووسط كل هذا كان على الأقلية الصغيرة أن تُنفِّس عن نفسها على الأقل لمدة نصف ساعة في اليوم، أن تتحدث بصراحة وتضحك.
تبرهن أناليزه في رسالة الدكتوراه على أن دواء الشينين والأسبرين ليس لهما تأثير على تطور مرض الإنفلونزا. بعد ذلك، في يناير ١٩٣٩م، يتزوجان في هانوفر، ثم ينتقلان للعيش في المنزل الكائن في «آهورن-أليه»، في حي شارلوتنبورج. يحصل جيورج على سيارة هدية. ولكنه يريد — بعد أن تَكيَّف مع الأوضاع ظاهريًّا واكتسب بمهارته واجتهاده ثقة النخبة النازية — أن يفعل ما هو أكثر من سماع النكات: لا يجب أن تعرفي كل شيء يا أناليزه. من الأفضل — إذا استجوَبُونا — أن تقولي بضمير مستريح: لا أعرف شيئًا. لا تأتي بعد اليوم من فضلك إلى اﻟ «ص (م) ك».
– على جانب كبير من الحيطة، هذا المناضِل المُقاوِم.
– هذه الكلمة، «مُناضِل»، لا تحبها، تجدها أضخم مما فعلوه من أعمال صغيرة، المساعَدة التي قدَّمُوها بتلقائية.
– ولكن كيف يتحمل القلب الكبير هذا الشد والجذب، بين المدير في اقتصاديات الدفاع والمناضِل المقاوِم؟
– هل لا بُدَّ أن تذكر دائمًا فيردا؟
– سُرة العالم، على الأقل سُرة هذه الحكاية.
– وكيف تتحمَّل ذلك، انفصال الوالِدَين في الإقامة؟
– الأمر عَملِي. مقر الكهنة يقع بجانب بيت لويزه دورينج، الشقيقة المفضَّلَة لدى جيورج. وهناك تستضيف رولف وأكسل، هناك يعيشون في الأيام التي سبقت الاعتقال في خريف ٤٣، وهناك تجد ملاذًا بعد الإعدام، هناك تشاهد تحرير ألمانيا.
– القلب الكبير، هل ضاق الآن؟
– على العكس: رغم أنها تَفقِد والدها أيضًا الذي أَطلَق الرصاص على نفسه غيظًا وكمدًا؛ لأنه لم يقاوِم النازيِّين، كان ذلك في ربيع ٤٥، في ساكسونيا، وعلى خلفية ما رآه من موجات اللاجئين من شليزيا. حصيلة الحرب بالنسبة لها لا يمكن تجميلها: الزوج قُتل؛ لأنه كان ناشطا في مكافحة النازيين، والأب انتحر؛ لأنه لم يكن ناشطًا ضِدَّهم، الأم تشعر بالمرارة. لديها طفلان، سنتان وأربع سنوات. فيض من الدموع والتعاطف من جانب الأقارب.
– وكيف استطاعَت أن تتوازن؟
– ثلاثة وُعود مَنحَتْها القوة: أقسمَتْ على الوفاء لزوجها، وهو ترك لها وصية أن تُواصِل النضال ضد النازية وضد الحرب. كما أنها أدَّت قَسَم أبقراط. هذه هي الوصفة الفعالة للقلب الكبير. كان بإمكانها أن تصبح طبيبة أرياف وهي في الخامسة والثلاثين، أو طبيبة في مصحة العلاج والاستجمام في باد هيرسفلد. لكنها تعود، وفي صدرها الألم والعزم، تعود في ربيع ٤٦ من فيردا الواقعة في منطقة الحماية الأمريكية إلى كومة الأنقاض برلين، القطاع البريطاني. ويتم الاعتراف بها «ضحية الفاشية»، وتعمل رئيسة الأطباء في مكتب صحة شارلوتنبورج في برلين، ثم تفتح عيادة لمرضى التأمين الصحي في شَقَّتها، وبعد عام تُحْضِر الطفلين ليعيشَا معها. تلفتُ نظر مَن يراها وسط أولئك الناكرين لأنفسهم الذين يعلمون بحَزم وعَزم وبشاشة، صلابتها وطيبتها يغدوان من الأساطير، إنها تُقدِّم يد العون حيثما تستطيع. النساء أمثالها تم تكريمهن لاحقًا بوسام الدولة. أما هي — ولاتساع قلبها اللامحدود — فقد وُصِمَت بالساحرة.
– هيا، أكمل! كانت ستقول لي كاترين.