أنقاض ووجوه
– أنا جادة فيما أقول: لا أريد أن أصور بعد اليوم، تقول كاترين. على كل حال ليس بشكل مهني. لقد صورت كل الأنقاض، ثلاث سنوات من الأنقاض، هذا يكفي. قراري حاسم، مُصوِّرة الأنقاض ستُحال إلى التقاعد، في الرابعة والعشرين يمكنني أن أُغيِّر مهنتي. كفى صورًا لا يشتريها أحد مِنِّي، صورًا لبقايا أنقاض في مُواجَهة الضوء! كفى صورًا لا يريد أن يراها أحد للشبابيك المقصوفة في الضوء الجانبي.
كنتُ أحب التطلع إليها وهي تتحدث بغضب، الوجه النحيل يركز البصر على نقطة بعيدة، ثم تنظر إلي، وفي غَمرة كلامها المتحمِّس كانت دائمًا تزيح شعرها من مَفرِق الرأس إلى الجانب، كنت أحب الإصغاء إليها، إلى الصوت القوي ذي لهجة أهل منطقة فرانكن العليا. كانت كاترين تُدخِّن سجائر فرنسية بدون فلتر. لم يكن احتساء النبيذ في المساء قد أصبح موضة آنذاك، البيرة كانت تُعتبر شرابًا بروليتاريًّا لائقًا، رغم ذلك كانت تصر على كأس من اﻟ «بينو نوار» كل مساء.
لم آخذ انفعالها على محمل الجد التام، كنتُ أعرف تلك الشكاوى. لم تكن حالتها سيئة، كانت تحصل على نقود من محل الأدوات المنزلية في «ماركتريدفيتس-شتراسه» حتى تستطيع تكوين مستقبلها كمصوِّرة، حسبما كان الوالدان يأملان. إلى جانب عملها كانت تذهب إلى المحاضَرات في علمي السياسة والاجتماع، كما كانت تشارك في المظاهَرات أكثر مِنِّي، ولكن بدون كاميرا.
– عندما انتقلتُ إلى هذه المدينة، قالت كاترين، عام ٦٥ تقريبًا، قلتُ لنفسي: نعم، إنه ما زال هنا، الماضي الذي تم إزالته وتغطيته بالأسمنت في الغرب، التناقض يحوم هنا في الأجواء، بين الأطلال والأعشاب الكثيفة التي تنمو بجوارها، بين السماء الرمادية الفارغة وبين العالم الحر الذي حررناه أخيرًا. هنا لم تنقض الحرب بعد، ما زالت أشياء عديدة لم تتم، المستقبل، هذا هو الشيء الوحيد الجيد في برلين الفظيعة هذه. هنا يجد الإنسان يوتوبيا مختبئة في وداعة، نوعًا من ظلال اليوتوبيا (لا أستطيع التأكيد أن كاترين قالت بالفعل: ظلال اليوتوبيا). إنك تنظر إلى ما لا يمكن استرجاعه، إلى عمق المأساة العابرة، وتقول لنفسك: ما زال من الممكن هنا أن تفكر في شيء جديد، هنا بإمكان المرء، لا، هنا على المرء أن يصنع شيئًا جديدًا تمامًا غير المعتاد، على كل حال شيئًا آخر غير المسخ الخرساني والمجتمع المقنن المقولب.
– وهذا بالذات هو ما أحبه في صورك، قلتُ، التاريخ يتوقف ويبدأ في الهمس والبوح.
– ولكن هذا لا يفيد شيئًا، إنهم يفعلون هنا ما هو معتاد، نفس المسخ الخرساني. الأطلال تختفي، وأنا لا أستطيع أن أظل أعمل إلى الأبد كي أحفظ صوري في الأرشيف. قضبان سكك حديدية ميتة، جبال من الركام، الشوارع المكسوة بالأحجار، محطات المترو القديمة، كل هذا ما زال قريبًا، لم يدخل بعدُ في دائرة النوستالجيا (لست متأكدًا إذا كانت كلمة «نوستالجيا» من الكلمات التي كنا نستخدمها آنذاك). أسوأ شيء: ما أراه في الأنقاض لا يراه الناس في صِوَري. مُحزِن، مُحزِن، تقنيًّا صور ممتازة، هكذا يقولون، ثم يتساءلون: أليس لديك صور أخرى؟
– يمكنكِ أن تُصوِّري حي نويكولن أو كرويتسبرج قبل أن يُزِيلوا كل الأنقاض.
– ولكني لن أجد مشتريًا للصور: مُحزِن، مُحزِن، تقنيًّا صور ممتازة، إلى آخره. لا، الماضي ليس مطلوبًا، عند أرشيف صور الولاية ربما، ولكنهم هناك يكادون يختنقون في الأنقاض أيضًا.
ثم قالت عَرَضًا: إن والديها وعداها بالمساعدة المالية عامَين آخَرَين، بعد ذلك عليها أن تقف على قدميها. خلال عامين يمكنها أن تقطع نصف الدراسة، آخِر فرصة لتغيير مواد الدراسة. ولكني لم أكن أريد أن أفقد كاترين بتحوُّلِها إلى علم الاجتماع.
– أو السور، استكشاف سور برلين بالكاميرا استكشافًا منهجيًّا.
– لقد أرسلَتْ دار «شبرينجر» من المصوِّرِين ما يكفي. لن أكسب من ذلك بفنكًا واحدًا. السور لم يَعُد موضوعًا جديدًا. على المُصوِّر أن يتخصص، دون أن يغدو عاهرة مثل صاحبتك يوكو أونو!
ضحكت. كانت تحب أن تستخدم ذلك التشبيه، منذ أن حكيتُ لها أن يابانية بوجه ضخم كانت عام ٦٦ في ملهى «ماركي» الليلي في لندن تُلحُّ على الناس كي تلتقط لأردافهم صورًا فتوغرافية أو فيلمية، فرفضتُ، كانوا يعتبرون مثل هذا الفيلم تقدميًّا، ومن خلاله تعرَّفَت اليابانية إلى جون لينون، وأصبحَت يوكو أونو الشهيرة. لقد ضيعتَ فرصة حياتك، كانت كاترين تمزح معي كثيرًا. الآن عادت إلى الموضوع: ولا تنصحني مرة أخرى بأن أصور الناس والوجوه، هذا شيء لم أحبه أبدًا، وليس لدي رغبة في أن أنال علقة ساخنة من أجل هذا الخطأ.
تعارفنا قبل عام، وخلاله خضنا مثل هذا النقاش المبدئي ثلاث أو أربع مرات. بعد أن ارتفع صوتها بالشكوى لأول مرة مِن فنِّها الذي لا يسد الرَّمق، حاولتْ كاترين أن تتخلَّى عن مقاومتها بتصوير الناس، وأن تبحث في المدينة عن وجوه تتناسب مع الأنقاض والأراضي الخالية من الأبنية وأكوام الركام والقضبان المتداخلة: وجوه الأنقاض، عجائز، موظفون يائسون، بائعات متذمرات، ربات بيوت بدينات قاسيات، من طراز «معلمات» سوق الخضار، عدد هائل من أهالي برلين كانوا يكرهوننا، وفي كل كائن شاب كانوا يرون اشتراكيًّا وقحًا ذا شعر طويل ومعطف طويل، نسخة من الصور الكاريكاتورية التي تنشرها صحيفة «بيلد» الشعبية كل يوم: أعداء الوطن، شيوعيون، مومسات، لوطيون، صعاليك، مشاغبون، فوضويون. ملايين البرلينيين مع دار شبرينجر ومجلس الوزراء والشرطة على جانب من الجبهة، وبضعة آلاف من «المتطرفين» على الجانب الآخر. حرب كراهية بكل انعكاساتها وعواقبها، الساخرة والخطيرة.
منذ ذلك اليوم من شهر فبراير، عندما صارعَتِ النساء ذوات الشعر الطويل، وصارع الصحفيون ومدخنو الغليون ولابسو السراويل القطيفة والنظارات بلا إطار وسط خمسين أو مائة ألف من الفاشيين البرلينيين، عندما صارع هؤلاء حتى يظلوا على قيد الحياة، ولم تتدخل الشرطة لحمايتهم، أو جاءت بعد فوات الأوان، منذ ذلك اليوم ازدادت نظرية كاترين تطرفًا: البشر كموضوعات للتصوير، لم يعد ذلك ممكنًا؛ لأنك في هذه الحالة تظل مُسترِقًا للنظر، إنك تجمع أشياء متناثرة حسب هواك، المهارة في التقاط جزء على المائة من الثانية، حتى وجوه الأنقاض، وجوه الكراهية ما هي إلا أكذوبة، لأن عليك — مثلًا — أن تظهر هذه الوجوه أيضًا كوجوه مشرقة سعيدة تحت شجرة عيد الميلاد.
بعد تسعة أشهر تقريبًا كانت قد كَرِهتْ — مرة أخرى — العمل كله. كل صورة لا بُدَّ من اختزالها وتكثيفها، هكذا كنت أسمع الآن. الصورة تكون أجمل وأفضل وأكثر تأثيرًا من الشيء أو الشخص المُصوَّر. كلما ازدادت الصورة فنية، اقتربت من الأكذوبة.
وبرهانًا على صحة نظرياتها عرضت عليَّ كاترين صور هيس.
– أنتَ قلتَ: إن أهم الصور مفقودة. لم يَتبقَّ، بالصدفة، سوى صورتين، وهما كاذبتان. لقطات تبين عكس الحقيقة. إنك بحاجة إلى تفسيرات وشرح للخلفية وهو ما تحصل عليه الآن من السيدة جروسكورت. عليك أن تجلس وتتساءل وتبحث وتكتب حتى تصل إلى حقيقة تلك الصور. أنت حتى تهمل دراستك لأنك تريد أن تعرف شيئًا على وجه الدقة؛ لأنك تريد أن تكتب. ثم تسألني: لماذا أريد أن أدرس علم الاجتماع؟
– نعم، لماذا علم الاجتماع بالذات؟ هل لأن الجميع يدرسونه؟
– هراء! لأني أريد أن أعرف مَن هم الذين ضربوني في ميدان كنيدي، لماذا أصبحوا هكذا؟ من أين يأتي الكُرْه؟ كيف يسلك المجتمع؟ هذا يهمني أكثر من الأنقاض!
واشتبكنا في أجمل شجار مدرسي عمَّا إذا كان الفن يبدأ بالأكذوبة أم أن الفن أكذوبة. رأينا أنفسنا في موقف دفاعي أمام كلمة «إيجابي» التي كانت في تلك الشهور تحوم فوق كل المناقشات عن الفن، بعد أن تم استيرادها من هِرْبرت ماركوزه في كاليفورنيا. لم يكن من المسموح به مطلقًا أن تقول نعم للمجتَمَع القائم، أن تؤكد، أن توافق، ليس مسموحًا لا في الكتابة ولا الرسم ولا التصوير أو في المسرح أو السينما. فيلم «فلندخل في الموضوع يا حبيبتي» كان يُعتبر إيجابيًّا، أما «الفنانون في قبة السيرك حيارى» فلا. الروائي زيجفريد لنتس إيجابي، أما بيتر فايس فلا. «إيجابي»، تعبير آخر، كلمة يدور حولها الجدال، كلمة مشتبه بها، كلمة قاتلة حوَّلَتْنا إلى إمَّعَات.
قرب نهاية النقاش، إلى هذا الحد كنت منقسمًا، رفعت أحد الشعارات التي أحبها لجان بول: ما أسهل خداع القارئ، ثم أعلنت رغبتي في أن أبدأ رواية بالجملة التالية حتى أكون صادقًا: ما أسهل خداع القارئ.
– لن تنجح في ذلك أبدًا! أنت أيضًا مُتعصِّب للحقيقة، لقد نسيتَ دراستكَ، وبدأتَ فجأة في تأليف كتابك عن جروسكورت هذا!
ادعيتُ بجرأة.
– دعيني أسلكُ مرة واحدة سلوكًا غير عاقل! دعيني أتبع فكرة تلقائية، حتى لو كانت مجرَّد وسواس قهري!
– إذن، دع لي أنا أيضًا وسواسي القهري!