القضاء يقول كلمته
هل ارتجفتُ فعلًا — كما أتوهَّم — عندما حمَلْقتُ للمرة الأولى في كلمات الحكم بالإعدام؟
النسخة التي أعطتني إياها السيدة جروسكورت كانت فوق المائدة. تَحتَّم عليَّ أن أقاوم
نفوري وألمس
الورق. لم أكن أدري سوى القليل عن خصوصيات القضاء، وأقل القليل عن القضاء النازي. عليك
أن تبدأ من
البداية، من الأبجدية، هكذا نويت، جملة جملة، كلمة كلمة، بصبر، كأني أفك رموزًا هيروغليفية؛
فلأتفحص كل حرف من حروف ذلك العصر المنصرم المظلم، وكأني من العلماء.
«باسم الشعب الألماني!» بهذه الكلمات التي امْتُهِنَت كما لم تُمْتَهن كلمات أخرى
في اللغة
الألمانية بدأ الحكم، ثم في ختامها علامة تعجب سيادية ومنتصرة.
باسم الشعب الألماني! اجتمع السيد الدكتور فرايزلر رئيسًا
لهيئة المحكمة، والمستشار القضائي «ر» قاضيًا ثانيًا، ورئيس المجموعات النازية أوفرمان،
وقائد
مراكز الولايات آملس، وقائد الدوائر رايتيكه أعضاءً في محكمة الشعب العليا، ثم تجرءُوا
في السادس
عشر من ديسمبر ١٩٤٣م على إصدار حكم في حق الكيميائي الدكتور روبرت هافَمان، والطبيب أول
الدكتور
جيورج جروسكورت، والمهندس المعماري هربرت ريشتر، وطبيب الأسنان باول رِنتش: إننا نحكم بالإعدام على هؤلاء الذين فَقدوا شرفهم إلى الأبد.
بالإعدام، أربع مرات بالإعدام، كل حرف من هذه الحروف
الغامضة له أهمية خاصة. حرف الألف في كلمة «الإعدام» يجعل الكلمة لينة، يكاد يجعلها رقيقة.
الرحمة
الوحيدة التي تصدر عن السادة المحكمين، حرف واحد يخفف من وطأة هذا التكليف بالقتل الرباعي،
برهان
ضئيل على الرحمة، للتعزية، حلية رقيقة تُزيِّن القبر، هِبَة تُدْفَن في القبر مع المشنوق
بلا
رحمة.
أي الوقائع تأكد القضاة من صحتها؟ ما التُّهم؟ ماذا فعلوا ليستحقوا
تهمة الخيانة العظمى؟
تأكد القضاة من أن أولئك المتثاقِفِين الهابطين الذين لم يَتورَّعوا عن
الاستماع إلى الإذاعات الأجنبية البغيضة، المستسلمين للانهزامية الجبانة التي تَدَّعي
أن
ألمانيا ستخسر الحرب.
تأكدوا من أنهم أَسَّسوا بغرض الاستيلاء على السلطة منظمة «الاتحاد
الأوروبي» التي يذعن برنامجها بخنوع أمام الشيوعية والديمقراطية الشكلانية
الأنجلوساكسونية.
تأكَّدَت المحكمة المُوقَّرة من أن المُدَّعى عليهم الأربعة قد سبُّوا
قائدنا والاشتراكية القومية وشعْبَنا المناضل، وأنهم هدَّدوا أمن الرايخ بالأوراق المزوَّرة
التي أمدوا بها اليهود كي يقوموا بعمليات تمويه باعتبارهم من ذوي الدم الألماني، كما
أنهم
أقاموا علاقات مع مجموعات سياسية غير مشروعة من العمال الأجانب.
تأكدت المحكمة من أنهم بانهزاميتهم مَهَّدوا الطريق أمام الشيوعية،
ونالوا من عزيمتنا النضالية، مُقدِّمِين المساعدات من قلب جبهتنا الداخلية لأعدائنا في
الحرب!
الحكم مكتوب بلغتي الأم، ومع ذلك تبدو لي كأنها لغة غريبة، حروف لاتينية أُمليت وكُتبت
بالغضب
الساعي لتدمير كل حرف مُسالِم، حروف مشبعة بالكراهية التي تحتقر الدقة في التعبير. حروف
هيروغليفية ألمانية ماكرة وخبيثة للغاية؛ لأنها تبدو مفهومة للجميع، لأنها تثير صدًى
مألوفًا،
وكأن شخصًا استخدم هذا التعبير أو ذاك بالأمس فقط، على نحو أخفَّ، هذا هو الفارق، سياسي،
أب،
معلم. نبرة التقريع والتوبيخ.
ولأن المتهَمِين الأربعة أنجزوا إنجازات علمية ومهنية جديرة بالالتفات إليها، فإن
السادة
القضاة يستهزئون بهم قائلين: هافَمان، وجروسكورت، وريشتر، ورنتش يَدَّعون الثقافة. ثم يواصلون خطابهم العقابي بعد أن يسخروا من الطريق المهني الذي سار عليه
كلٌّ من الأربعة: بسلوكهم بين الأربعة أنهم جميعًا ليسوا على أي درجة من
الثقافة والتعليم. فالثقافة لا تعني اكتساب العلم والمهارات التخصصية فحسب؛ إن الشرط
الأساسي
والضروري للثقافة الحقيقية لأي ألماني هو الوفاء لشعبه من خلال الوفاء للفوهرر والرايخ.
وهؤلاء
الأربعة قد خانوا الشعب والفوهرر والرايخ.
كانتِ الجُمَل تحملني على أن أقف، وأبتعد عن المكتب، وأتمشى في الغرفة باحثًا عن أي
شيء
يُشتِّت انتباهي، ثم تجذبني هذه الأوراق بقوَّتِها المغناطيسية من جديد. لن أضعف، كنت
أقتفي أثر
قاتل «ر»، وهنا، وسط طبخة الأكاذيب هذه، تكمن الأدلة والبراهين.
كانت مَحكمة الشعب العليا من الكرم بحيث إنها فصَّلت أيضًا أسباب وحيثيات قرارها.
ولكن كان من
المُجهِد استشفاف شجاعة الرجال الأربعة وأفعالهم خلف غيمة السباب والشتائم.
السبب الأول لحكم الإعدام: وجهة النظر القائلة بأن ألمانيا ستخسر الحرب، وعندئذٍ ستتحول
ألمانيا إلى مسرح للصراعات بين البلاشفة والأنجلوساكسونيين، وستَتمزَّق البلاد في خِضَمِّ
صراع القُوَّتَين. لذلك، كانت الأيديولوجية البولشفية، والأيديولوجية الديمقراطية
الأنجلوساكسونية قِبلة برنامج منظمة «الاتحاد الأوروبي» التي تأسَّست في
الخامس عشر من يوليو ١٩٤٣م.
السبب الثاني: ما قامت به المجموعة الألمانية من أفعال تجلب الخزي والعار عندما
اجتمعَتْ مع عمال أجانب من منظَّمَات غير مشروعة لإجراء نقاشات سياسية، وساعدت
في تزويد تلك المنظمات بمواد تُبَثُّ في إذاعة غير مشروعة. وبينما كانت الجهات الحكومية والحزب والجيش والشعب الألماني بصموده الأبِي الشريف يحاولون
بنجاح درء المخاطر الكامنة في تشغيل ملايين عديدة من العمال الأجانب، فإن
المتَّهَمِين فعلوا العكس، في الوقت نفسه اجتمع أربعة رجال
تَوَّهَموا أنهم مثقَّفُون وعلى درجة عالية من التخصص المِهَني، وهم في الحقيقية ليسوا
إلا مُتثاقِفِين مُنحَلِّين بلا خجل أو شرف أو ضمير، تعاونوا مع أولئك العمال الأجانب
في
طعن شعبنا المناضِل من الخلف!
كل كلمة من هذا الحكم — هكذا كان عليَّ أن أُذكِّر نفسي المرة تلو الأخرى — أملاها
القاضي «ر» ووقَّع عليها. الحكم صاغه القاضي المساعِد الذي اختاره هتلر بنفسه لهذا المنصب.
هذه الجمل — حتى وإن كانت مجرَّد صياغات نازية نمطية، وحتى إذا كان فرايزلر نطق بها أولًا،
وحتى إذا كان فرايزلر هو الذي حرَّك قلم كاتبها على نحو أو آخر — أملاها رجل بِاسْم الشعب
الألماني الاشتراكي القومي، وهذا الرجل بُريءَ الآن باسم الشعب الألماني الديمقراطي
الليبرالي من أي ذنب أو مسئولية في إصدار أحكام ظالمة.
السبب الثالث لحكم الإعدام: لم يَتورَّع «الاتحاد الأوروبي» عن محاوَلة الاتصال مع جاسوس
سياسي روسي، ولم يقم أعضاؤه — وهو ما يحتمه الواجب على كل ألماني — بإبلاغ جهاز الشرطة
أو
الدفاع فورًا!
رابعًا: تطفح المنشورات بالأيديولوجية البولشفية، وتعج بالعبارات
المستهلَكة عن الحرية والفردية، تلك العبارات المقتبسة من أدبيات الثورة الفرنسية ودستور
فايمر. ليس هناك استشهادات، كما أنهم لا يسوقون نقاطًا بعينها أو حججًا؛ لأنهم
إنْ فعلوا فسينطقون بحقائق عديدة غير مريحة للنازيين، لذلك لم يَمَلُّوا القَرْع بالمطرقة
الخشبية التالية: إنهم انهزاميون حتى النخاع، شيوعيون وبورجوازيون
فَرْدَانيون في ركوعهم أمام ستالين، وروزفلت، أما هجومهم على القوات المسلحة وقوات الدفاع
فينم عن وقاحة مستهزئة.
لدى السبب الخامس يشعر القارئ باللذة التي تسري في بدن الجلاد وهو ينهال على «شرذمة
الخونة»: وتتجلى وقاحة المُتَّهَمِين في دعمهم المنهجي لليهود الذين
يعيشون على نحو غير مشروع، بل وتسمينهم.
تسمينهم؟ نعم تسمينهم، هكذا كتب السيد المستشار القضائي الذي يَدَّعِي التزامه
بالقوانين. ليس هذا فحسب، لقد أمَدُّوهم أيضًا بهويات مزوَّرة لتضليل
الشرطة، وكأنهم ليسوا يهودًا، بل ألمان. بإسهاب يتم ذكر حالات عديدة مدَّوا
فيها يد العون إلى يهود. ثار القضاة بسبب إخفاء الناس عن أعين الشرطة، ولكن غضبهم كان
أعظم
بسبب مئات الماركات التي أنفقها الرجال الأربعة على الهاربين. يا
لغرابة التوجهات المنحطة، اليهودية والشيوعية، التي استشرت بين هؤلاء
المتهمين!
بحث فرايزلر و«ر» عن سبب سادس، كي يدينوا تلك الشرذمة الوضيعة من
المجرمين عريقي الإجرام الذين قدموا الدعم الفائق لأعداء البلاد وسط الحرب. اعترف الأربعة
أنهم استمعوا إلى راديو لندن. لقد اعترض المتهمون على أن رؤاهم هي عاقبة الاستماع إلى
الإذاعة المُعادِية؛ إنها تَنبُع إذن مِن داخلهم، وهو ما يزيد الطين بلة! ولكن
لندن لا تكفي القضاة، فالشياطين بحق ينبغي أن يكونوا شيوعيين. دفع
المتهمون عن أنفسهم التهمة بأن برنامجهم شيوعي. ولكن أفعالهم تتعارض مع الاعتراض الذي
نطقت به شفاههم.
سابعًا: الانهزامية الجبانة: إن مجرَّد التفكير في ألا نحشد اليوم كل قُوانَا من أجل إحراز
النصر، بل ادخار القوى لحالة الهزيمة لهو تفكير إجرامي خائن وانهزامي حتى النخاع. لقد
وجَّه القضاة لهم تُهمَة الخنوع كالكلاب أمام الأعداء الألداء، أمام البولشفية
والأرستقراطية، طالبين الرأفة بهم عندما يتولَّى أولئك السلطة لاحقًا. كما وجهت لهم تهمة
تلطيخ الإنجازات الذهنية بالوحل، والتمرغ بلا خجل في حمأة الصالونات البولشفية وما يشبهها
من أماكن مُنحَلَّة.
ثم المسك في الختام، الختام على الطريقة الألمانية؛ أي الجندي الألماني:
ماذا سيقول جنودُنا إذا لم تعامِل الدولة القومية الاشتراكية مثل هذه
الكائنات بما تستحقه؛ أي باعتبارها كائنات عديمة الشَّرف إلى الأبد، طعَنَت شعبنا المناضل،
وطعَنَت بالأخص جنودنا المناضِلِين من الخلف وعلى نحو لا يتصور؟ إن ذلك يحتم علينا أن
نحكم
بالإعدام على المتَّهَمِين الأربعة، هذه الكائنات عديمة الشرف إلى الأبد.
وعليكم بتحمل تكاليف القضية لأنكم مدانون.
أي إنهاك وإجهاد أن أقرأ جملًا كهذه وأنْ أدونها. ألقيت بالمعطف على كاهلي، وخرجت
من البيت.
شممتُ رائحة شواء الدجاج المتصاعدة من مطعم «فينرفالد» التي فاحت في الشارع كله، وتمشَّيْت
حول
الوحدة السكنية. أتذكر جيدًا أني وجدت نفسي مدفوعًا إلى التهام نصف دجاجة بنهم، وقد اختلطت
شهوة
الالتهام بالكراهية المتوحشة الحمقاء التي انصبت على اللحم العاري المقرمش، ثم عدت إلى
العمل؛
حينًا يسيطر عليَّ الشعور بالتقزز من غضبي التدميري، وحينًا بالانجذاب إلى البدائية،
وأحيانًا
أخرى يغلبني التعب من النَّبْش في القاذورات النازية، ثم قررتُ: عليك كباحث أن تبقى
محايدًا!
كنت أقتفي أثر كل كلمة محاولًا تَصيُّد متى تنحرف من الصدق إلى الكذب. كل جملة تقريبًا
كانت
تقود إلى النتيجة المنطقية: في هذه الحالة لم يقم رجال قانون بإصدار حكم، إنهم رجال أيديولوجيا
لم
يكونوا بحاجة إلى السير في متاهة مواد القانون وبنوده. وكأن هناك جائزة تُمنح لمن يستطيع
أن يكتب
أكثر الحيثيات والأسباب لا قانونيةً وعاطفيةً وتدميرًا. نيران مدافع التكرار الرشاشة:
انهزامي،
شيوعي، وقاحة، متثاقف. اللغة وحدها تفضح كيفية خرق القانون، وكيفية لَيِّ ذراع الكلمات
والجُمل
إلى أن تنطلق مثل طلقات الرصاص وطعنات الحِراب، مثل أدوات التعذيب. الإعدام بالمفردات.
وفوق ذلك
كله يستخدمون التهديد المضحِك، التهديد بالأبدية التي لم تستمر عامًا ونصف عام: فقدوا شرفهم إلى الأبد.
البقاء على الحياد، كيف يمكن ذلك إذا كانت أسباب الإعدام السبعة التي كتبت عام ١٩٤٣م
قد أضحت
بعد خمسة وعشرين عامًا سبعة أسباب لإقامة النصب التذكارية وتأليف الكتب وتصميم الطوابع
البريدية
وإقامة الاحتفالات التذكارية وإطلاق الأسماء على المدارس؟
البقاء على الحياد، كيف يمكن ذلك إذا شعر المرء بانجذاب إلى لغة الغدر المتقنة؟ هل
هناك لذة
يولدها الألم المنبعث من لغة الاستئصال هذه؟
كان لديَّ هدف، كنتُ أقتفي أثر الجاني، المستأصل، القاتل، وها هو يتراءى لي. هذه اللغة
التي
لا تدع مجالًا للشك، لغة تريد تخليد نفسها بكلمات زاعقة وعبر صيغ الاستئصال الطقسية،
مَن أملاها؟
رجل بالغ، رجل قانون، ابن قسيس، بالمناسبة، مستشار محكمة، يجلس على عرش القضاء إلى جانب
رئيس
المحكمة، يتولى كتابة محضر الجلسات، سيد كلمات الحكم.
لقد فقدت هذه الزمرة من المُجرمِين االوضعاء شرفها إلى
الأبد.
الشرف إلى الأبد لك، أيها السيد مستشار المحكمة الذي التزم بتنفيذ القانون يوم السادس
عشر من
ديسمبر عام ١٩٤٣م لقد فعل القاضي ما فعل التزامًا بقناعة داخلية وخارجية، حكمَ وأعدمَ،
لم تحركه
أسباب خسيسة، مطلقًا، بل لأن البلطة والتعذيب وطعنة الحربة وطلقة المسدس والرصاص كانت
في العنق؛
هذا هو أساس الأخلاق السامية السائدة، أخلاق الاستئصال، جزء لا يتجزأ من قدس أقداس الفوهرر،
الذي
يخدمه هذا القاضي بحماس وحمية، ألزم نفسه طواعية بتقديم قرابين الخنوع والذُّلِّ، شريفًا إلى الأبد.
مَهما حاولتُ، لم أستطع أن أكره القاضي «ر». إني أحتقره كل الاحتقار. ولكنه بحكم الإعدام
هذا
— هكذا أصدر حكمي — قد وقَّع على حكم إعدامه. لم أكن بحاجة إلى أحكامه الأخرى، سواء كانت
٢٣٠
حكمًا أو ضِعف هذا الرقم أو نصفه. رُفعت الجلسة.