بيرة في فريدناو
نادرًا ما كنت أرى الأصدقاء في تلك الأسابيع. بعد الانتهاء من المحاضرات الإلزامية في الجامعة كنت أنهمك سريعًا في التحضيرات السرية لكتاب جروسكورت. كان الوضع يغلي ويفور في كل أنحاء العالم. في برلين كانت الحرب الأهلية غير المُعلَنة قد اندلعت. انطويت، ولم أسمح لنفسي بالذهاب إلى السينما أو شرب البيرة في المساء أو حضور الاجتماعات والقراءات في قبو المكتبات.
خصصت الساعات الشاغِرة لكاترين، على قدر المستطاع كنتُ أقضي معها الليالي، واليوم أعترف أنني لم أفعل ذلك اعتباطًا. كنت عازمًا على ألا أهمل كاترين في كل الأحوال؛ لأنك سوف تفتقد أشياء عديدة في السجن: حرية الحركة، الأصدقاء، طيبات الطعام، الموسيقى، الرحلات، الطبيعة، وإذا كان حظك سيئًا الآلة الكاتبة أيضًا، ولكن أكثر ما سوف تفتقده هو الحب. إذن أحب قدر ما تستطيع، أحب كاترين حبًّا شديدًا كما تشتهي هي، أحب للمستقبل، عندئذٍ سوف تزورك في السجن، وسوف تشجعك نظراتها وعيناها الخضراوان الرماديتان، لم أكن أتوقع أكثر من خمس سنوات مقابل القتل الخير الذي سأنفذه.
أما الآخَرُون فكنتُ أَصدُّهم جميعًا مستخدمًا كلمة «العمل». جعلتهم في يقين بأنني أكافح لكتابة رسالة الدكتوراه. كان هذا في حد ذاته أمرًا جَسورًا، بل يثير الشبهات في عصر التمرد. تحاشيتُ الرفاق الذين كانوا يحتقرون تلك الأنشطة وينتظرون من كل فرد الممارسة الثورية، أو على الأقل أفعالًا سياسية. تجنبت الشقق الطلابية المشتركة، أيضًا تلك التي يسكن بها برونو وهوجو، حيث كان الضغط الذي تمارسه الجماعة يزداد يومًا بعد يوم، ولا سيَّما أثناء الجلوس إلى مائدة المطبخ الكبيرة التي كانت تقدم عليها أطعمة تزداد وفرة خلال أمسيات تزداد طولًا: ماذا تفعل؟ ماذا تفعل سياسيًّا؟ ولماذا؟ أَفصِح! اعترِفْ برغباتك، على الفور! أسرارك، إلينا بها!
حتى الأصدقاء الكُتَّاب لم أكد أرى أحدًا منهم. كل بضعة أسابيع كنا نتقابل على المائدة الأخيرة في عمق حانة «بونديس-إيك» في فريدناو. كنا نَوَدُّ نحن أيضًا أن يكون لنا دور سياسي، ولكن بالنصوص، وكنا نبحث عن حلول أنيقة. في الساعة الأولى — هذه هي القاعدة — لم يكن من المسموح شرب شيء سوى القهوة والماء والكوكاكولا، أما الحديث فيدور حول المشاكل الأدبية. أما الشائعات والآراء عن الكتب والنميمة فلم يكن مسموحًا بها إلا فيما بعد مع كئوس البيرة.
بدأ كريستوف من جديد: القصائد الأمريكية قصائد ديمقراطية، مفتوحة؛ لأن كل شاعر يكتب على نحو مُشابِه، وكل طالب، وكل واحد من الهيبيز سيفهمها، في الولايات المتحدة سيهاجم هو شخصيًّا هؤلاء الكتاب؛ لأن الوعي التاريخي النقدي ينقصهم، ولكن طريقتهم في الكتابة المفتوحة لا يمكن إلا أن تفيدنا. معنى ذلك، يرى ينس، أن على الكُتَّاب البورجوازيين الشُّبَّان أن يمتنعوا عن التأمل في وضعهم تأملًا عميقًا، وأن يتبعوا أهدافًا سياسية وأدبية معينة. هل معنى ذلك، سأل مارتين، أن على كل نص أن يكون — في المقام الأول أو الأخير — سياسيًّا؟ لا، رد ينس، علينا أن نتأمل فحسب في بورجوازيتنا.
يوصينا كلاوس بالتواضع ويُحذِّرنا من الكلمات الكبيرة. كريستوف يقول: ثَمَّة نصوص سياسية ونصوص جميلة، ولكل من النوعين مشروعيته، أحدهما يفتقد الذاتية والآخر الموضوعية. يرد ينس بلهجة حادة على كريستوف: إن التحجج بكلام مثل «من ناحية» و«من ناحية أخرى» ليس إلا تفرقة بورجوازية، وهذا بالضبط ما يجب علينا محاربته، في الحقيقة علينا محاربتك أنت! كريستوف: إنني أحارب نفسي بما فيه الكفاية!
أخيرًا تعلو ضحكة بين الجالسين، ولكن دوافع هجوم ينس — هكذا نشعر — كانت شخصية. عرضتُ حلًّا وسطًا: التفرقة بين «السياسي» هنا، و«الجميل» هناك لن يفيدنا كثيرًا، المهم هو التوصيل، مثلًا من خلال الوعي التاريخي النقدي للمؤلف، نص «جميل» لكاتب ذي وعي نقدي — أضفت — يختلف عن نص مؤلِف ساذج. هانيس: تتجلى في القصيدة ذات الكاتب التي تحاول أن تُعبِّر عن نفسها بأقصى دقة ممكنة. جيرت أيضًا أراد أن يساهم في نزع فتيل الشجار: تختلف الصياغة المتبصرة الواعية باختلاف نوع النص الذي أكتبه.
اليوم تثير جدية تلك الكلمات الضحك. كنا ندور في حلقة مفرغة دون أن نلاحظ هزلية نقاشاتنا. كنا متشنجين بسبب التوترات القائمة بين كريستوف وينس الذي كان كثيرًا ما يُطعم حججه بهجوم جارح. كلاهما كان يسعى إلى الإمساك بزمام النقاش، كلاهما كان يسرع إلى تقديم الحلول التي يظن كل واحد منهما أنها ناجعة وسحرية؛ ولذا كانا يشتبكان في كل نقاش. لم تَمضِ عدة أمسيات إلا واشتبَكَا في خلاف حادٍّ حول الكاتب الأكثر أهمية والذي ينبغي أن يكون نموذجًا لنا: فلوبير «البورجوازي» أم زولا «الواقعي». راح ينس يُقرِّظ زولا باعتباره الكاتب الجديد الفِطري، أما كريستوف فكان في صف فلوبير الشيخ ذي النظرة العميقة. ينس: السيارة أحب إلى قلبي من الحنطور! فَرَد كريستوف: حنطور جيد أفضل من سيارة سيئة!
كل هذا جزء من اعترافي؛ لأنني لاحظتُ في تلك الأمسية للمرة الأولى كيف أثارت خططي السرية السعادة في قلبي؛ تلك الخطط التي أملاها علي مذيع الأخبار في محطة القطاع الأمريكي. كنت أعرف ما أريد. لم يكن علي أن أعبأ بالسياسي أو الجميل، بالبورجوازية أو الوعي. لم أكن بحاجة إلى مصطلحات. اليوم سأقول: كنت سعيدًا بحكم الإعدام. لدي الدليل، لدي الدافع، والآن، بين الأصدقاء الكتاب، فكرت في سري: وربما تنجح أيضًا فيما تنويه!
لم نكن نعاني إدمان الشهرة، لا بُدَّ من تسجيل هذه النقطة لصالحنا. كلٌّ سعى إلى المزج المثالي، بالنسبة له، بين الجمالي والسياسي، هذا على نحو تَسلُّطي، والآخر على نحو عبقري، والثالث عبْر السخرية، والرابع من خلال التهوين. النجاح بدون إنجاز كان أمرًا مستهجنًا، والرغبة الخفية في الشهرة أمرًا يثير الريبة. ثم هذه الفكرة المدهشة التي لم تخطر على عقل أحد: عملك الخير قد يصبح واقعة مثيرة، تمامًا مثل كتابك عن الاغتيال، أثناء المحاكمة ستنكأ جراح الفضيحة القضائية، أو ستصبح حالتك أنت فضيحة، خمس سنوات في السجن استثمار جيد للمستقبل: ستخرج رابحًا على كل حال.
لكزني هانيس، أو ربما مارتين، قائلًا: إييه؟ لماذا لا تقول شيئًا؟ في معظم الأحيان كنتُ أرد على هذا السؤال بقولي: ليس لدي ما أقوله. هذه المرة، وقد أزعجني أحدهم أثناء حلمي بمستقبل باهر، قلت: لقد استولى التعب على «المُقاتِل في الشارع». وتعالتْ ضحكات الآخَرِين.