الطبيب الذي لا يقدر على رؤية الدماء
سألتني كاترين: كيف يصبح ابن فلاح معاديًا للنازيين، وكيف يتحول عدو النازيين إلى طبيب لهم، وكيف وصل المُتَّهم بالخيانة العظمى إلى حبل المشنقة؟ كيف تُفَسِّر هذه القفزات؟
لو كنت أعرفُ آنذاك ما أعرفه الآن عن جروسكورت، لقلت لها: ليست هناك قفزات. سأبدأ بالجملة التالية: لم يكن يستطيع أن يرى دماء. عندما يذبحون ماشية، يختفي الابن الأصغر لصاحب المزرعة عن الأنظار. الأسهم التي توجه إلى الخنازير، تعليق الحيوانات بجانب الحظيرة، الأحشاء المنتفخة، الفئوس التي تنهال على العظام والسكاكين التي تقطع اللحم النَّيِئ، الدم في الأوعية وابتسامة الجزار، حماسة العائلة كلها أثناء تقطيع الحيوان الذي ما زال ينبض بالحياة، كل هذا لا يطيقه الصبي.
– ليس من الضروري أن تُحدِّثَني بكل التفاصيل، أفهم ما تعنيه.
– طيب. كان الفتى محظوظًا، لم يسخر منه أحد لتصرفه كالبنات. لا يستطيع جيورج أن يرى دمًا، بهذه الجملة حمته الأم، ابنة أحد العمال. ليس عليه أن يساعد في تقليب الدم أثناء صنع السجق، يستطيع أن يبقى بعيدًا عندما يلعبون بآذان الخنازير، يسمحون له بالذهاب إلى القرية. محظوظ، آخر العنقود، فأخوه الأكبر هو الذي سيتولى شئون المزرعة. لا خطر على مكانة الأب، المزارع الكبير وعمدة أونترهاون، هاينريش جروسكورت، رئيس اتحاد الفلاحين في هيرسفلد وعضو مجلس الدائرة. بعد عدة سنوات يرغب الصبي الذي لا يطيق رؤية الدماء في دراسة الطب؛ يتعجبون في العائلة، يبيع الأب قطعة أرض حتى يستطيع تمويل الدراسة. بعد عدة فصول في جامعة ماربورج، حيث يتعلم رؤية الدم، ينتقل إلى فرايبورج، وجراتس، وفيينا، وبرلين، ويُنهي دراسته بدرجات ممتازة، يحصل على درجة الدكتوراه، ويتنبأ له الجميع بمستقبل مهني باهر.
– ليس عليك أن تروي لي سيرته، السؤال هو: ماذا يُحوِّل طبيبًا شابًّا إلى إنسانٍ سياسيٍّ واعٍ؟
– وهذا بالضبط ما أردتُ الوصول إليه! من لا يستطيع رؤية الدم — هكذا أَدَّعِي — يرى ما هو أكثر من الدم، يرى في العالم ما هو أكثر، وربما يكون لديه شيء ثمين يفتقده آخرون: الحساسية. ثلاث خبرات تؤثر في حياته تأثيرًا حاسمًا:
بعد الثانوية العامة، في عام ١٩٢٣م وفي ذروة التضخم، يعمل لمدة عام في أحد مصانع هيرسفلد لتصنيع الماكينات. يرى البؤس ووضاعة العمال ووحشيتهم، الإنسان الذئب بين آلات الخراطة. يفتقد الشعور بالكرامة الذي يعرفه بين الفلاحين. النتيجة التي يتوصل إليها: التقنية تفسد الإنسان. إذا كان قد تَحوَّل في تلك الفترة إلى اشتراكي، فإنه لم يَستَنِد إلى أي أوهام بشأن البروليتاريا، كما أنه ظل محصنًا ضد مثاليات الأيديولوجية الحزبية.
الصدمة الثانية يدين بالفضل فيها للإيطاليين. بعد الفصل الدراسي الذي قضاه في فرايبورج يسافر رغم الضيق المالي إلى إيطاليا، ويزور بولونيا وفلورنسا. كان في جيبه تذكرة العودة، ولكن لم يَتبقَّ معه مال. إن البقاء على قيد الحياة مُكلِّف، حتى في النظم الفاشية. يقول لنفسه: سيقدم الفلاحون يد العون لابن فلاح، ثم يواصل سيره بين القرى. يقترب من بيوت الفلاحين وفي رأسه بعض الكلمات الإيطالية المكسرة، يريد أن يقدم نفسه على أنه فلاح، طالبًا لقمة ومكانًا للنوم بين أكوام الدريس. نادرًا ما تتاح له الفرصة لكي ينطق بالكلمات التي حضَّرَها، يلاقي الصد في كل مكان يذهب إليه، تلاحقه الشتائم وتطارده الكلاب. لا يستسلم، يُجرِّب حظه كطبيب، يعرض مساعدته، إلا أن ذلك لا يأتي بلقمة العيش أيضًا: صعلوك! أيامًا عديدة يعاني وطأة الجوع، يشرب من مياه الجداول، يحلق ذقنه في الغابة، يَسُد رمقه بثمار الشجر والتوت البَرِّي. لم يؤلمه شيء في حياته مثل هذا الجوع. عندما رجع إلى أونترهاون يقول لأمه راجيًا: إياكِ أن تجعلي أحدًا يغادر المزرعة جائعًا، أنتِ لا تعرفين ألم الجوع!
الأمر الثالث هو نمو مُعاداة السامية في الجامعات، ولا سيَّما في جراتس وفيينا، التعنت الذي يلاقيه الزملاء اليهود، الحكايات المعتادة، كل هذا يثير السخط في نفسه. الكرامة والشرف وتقديم المعونة، هذه المُثُل تكفي لتحوُّل جروسكورت إلى إنسان سياسي. في حلقات صغيرة كان يردد: يجب معاقبة معاداة السامية بالإعدام!
بالمناسَبة، كان كتابه المفضَّل هو «أروسميث» لسينكلير لويس، وهو يروي حكاية طبيب ابن فلاح ينتهي به الأمر — بعد متاهات وطموحات زائفة للوصول إلى المال والنساء والأبحاث المنحرفة — إنسانًا مخلصًا ومساعدًا لكثير من الناس، بل ينظر إليه بتقدير كمستشار سياسي أيضًا.
– وتوتة توتة، فرغت الحدوتة.
– لا، بدون الحيلة وفَنِّ تمويه ما يبطنه ما كان سيصبح رجل المقاوَمة. كتلميذ اجتاز امتحان الثانوية العامة بعد أن قام بتضليل ممتاز. كان معلم اللغة الألمانية قوميًّا متعصبًا لا يعطي درجات جيدة إلا لمن يُردِّد كالببغاء ما يقوله. كيف يتصرف صبي ذكي صبيحة الحرب العالمية الأولى عندما يطلب منه كتابة مقال عن: «ما فضل الوطن علينا؟ وبماذا ندين له؟» بإمكان جيورج أن يكتب رأيه، ويرسب في الامتحان، ويهدِّد دراسته ومستقبله. إذن، يُكوِّم في مقاله العبارات المحفوظة عن الوطن، يرصها رصًّا، لا يترك عبارة نمطية إلا ويستهلكها، وهكذا يؤلِّف محاكاة ساخرة لا تلفت انتباه أحد وتجلب له الدرجة المرغوبة. بدون مثل هذه التمارين ما كان له أن يضلل هيس وشرذمته، ناهيك عن السادة في سلاح الإس إس.
يُجري الطبيب الشاب أبحاثًا في الدم، وينشر باجتهاد مقالات علمية. وسرعان ما يصبح خبيرًا في الدورة الدموية وعملية تَحوُّل الغذاء إلى طاقة. وهكذا يُعيَّن في معهد القيصر فيلهلم للكيمياء الفيزيائية، لم يكن من الممكن أن يصعد طبيب في الثامنة والعشرين أعلى من ذلك. هناك يتعرف إلى روبرت هافَمان، صداقة من النظرة الأولى. رئيس الاثنين، البروفيسور فرويندليش، يُلاحَق إلى أن يفر إلى المنفى عام ١٩٣٣م. في اللحظة الأخيرة يحصل على منحة علمية لتلميذه جروسكورت. ولا يمر وقت طويل حتى يتم طَرْد مُساعِدي البروفيسور اليهود من المعهد. في نهاية ١٩٣٤م يبدأ جروسكورت العمل في مستشفى روبرت كوخ في برلين موآبيت الذي كان يعتبر حتى عام ١٩٣٣م من أفضل المستشفيات في الرايخ، غير أن حالته تدهورت بعد طرد ثلاثين طبيبًا من بين الأطباء البالغ عددهم ٤٧، وأغلبهم من رؤساء الأقسام أو بدرجة «طبيب أول»، وإحلال أطباء نازِيِّين غير أكْفاء محلهم، ومعظمهم من قوات الصاعقة وسلاح الحرس النازي. لا يمكنهم الاستغناء عن كفاءة جروسكورت كطبيب للأمراض الباطنة، يعتمدون عليه، رغم أنهم لا يُرقُّونه سنوات طويلة. يستدعي جروسكورت زميله هافَمان للقيام بأبحاث مُشترَكة في المختبر. يجلسان في وكر النازيين، ظاهريًّا هما مُتأقلِمان مع الوسط المحيط بهما، مجتهدان، لا يمكن الاستغناء عن جهودهما، وفي الوقت نفسه يُؤسِّسان وكرًا للمقاومة.
– ولِمَ يَلفتَان الانتباه؟
– كان لديهما «صالون كونتسه»، حَكيتُ لكَ عنه، ملتقى أعداء النازية في المختبر. حلقات الأصدقاء هذه، واحة وبورصة لتبادُل النكات والنميمة، مكان للاسترخاء ضروري لتحمُّل الجهد المبذول في التظاهر والتضليل والنفاق، لكن جيورج، وروبرت يريدان أكثر؛ يودان معرفة خطط النازيين على وجه الدقة. عبْر عمله نائبًا لطبيب في جزيرة روجن يتعرف جروسكورت إلى أرملة طبيب أرياف حاصلة على «شارة الحزب الذهبية»، يهتم الطبيب بأمْرِها، ما يدغدغ مشاعر السيدة، فتوصِي به طبيبًا لدى كبلر وكيل وزارة الخارجية، وألفريد هيس رئيس إحدى المقاطعات، والأخير يجلب له أخاه رودولف، وهكذا. يواصل جروسكورت التَّخفِّي والتضليل حتى يقطع الطريق على استدعائه إلى الجيش، يسجل اسمه طواعية للقيام بتدريب أساسي لدى سلاح الرُّوَّاد، ويجيد الرماية إجادة بالِغة. بفضل علاقاته يجري تجارب بالغاز السامِّ على الحيوانات في الأكاديمية العسكرية حيث يعمل هافَمان أيضًا. ينال درجة الأستاذية بأطروحة عن التسميم بمواد تُعتَبر من الأسرار العسكرية.
– ألم يبالغ؟
– ربما. كان يتوقع من النازيين كل شيء، كان يحدس ما يدور في رءوسهم، غير أنه لم يكن يستطيع أن يدرك في عام ١٩٣٧م أنهم سيرسلون بشرًا بعد سنوات قليلة ليلقوا حتفهم تحت حنفيات الغاز. يقوم بجمع معلومات، يشعر بالأمان في ظل هيس، ويعمل من أجل نجاة أعداء النازيين. لنبسط الأمر ولنقل: إن روبرت الشيوعي وجيورج الاشتراكي — الذي كان ينظر إلى نفسه باعتباره إنسانيًّا — كانَا مُتفقَين في كل شيء حتى ظهرت أناليزه.
– آه، المرأة هي المُذْنِبة، هكذا كانت كاترين ستقول.
– كلَّا، بل أحكام روبرت المسبقة.
– ليس من الضروري أن تدافع دومًا عن المرأة.
– ألم يكن هافَمان ابن عائلة بورجوازية أيضًا؟
– نعم، الحقد الطبقي الذي يشعر به البورجوازي تجاه البورجوازي.
– تفوح من كلماتِكِ رائحة الغيرة.
– ربما، ولكن موضوع هافَمان والنساء شائك، ولستُ على معرفة جيدة به. غير أن تناقضًا آخَر بين الصديقين يبدو أكثر جسامة: جيورج عرَف الطريق إلى سعادة قلبه، بينما كانت زيجة روبرت تتهاوى كلما اندفع في طريق المقاوَمة.