أبقراط يقاوم
ذات مرة سمعتُ من أناليزه جروسكورت حكاية حكاها لها أحد أصدقاء جيورج، واستنادًا على ما دَوَّنتُه آنذاك أستطيع أن ألخصها على النحو التالي:
امرأة شابَّة، تُدعَى جريته أو مونيكا أو رِناتا، أرملة محارِب، تعمل في مكتب إحدى شركات التجارة، تُقدِّم بيتها مخبأ لزوجين يهوديين مُسنَّيْن هربَا عام ١٩٤٢م من درسدن — بالمناسبة: بعد أن تلقَّيَا تحذيرًا من جار لهم يعمل لدى الجستابو — وبذلك ينجوان من الترحيل. تُهْتَم جريته بشئون الاثنين على قدر طاقتها، أصعب ما تواجهه هو الحصول على مواد غذائية.
بعد مرور شهرين، تعود جريته من المكتب ذات مساء لتجد شقتها خالية. يرن الجرس، وما تكاد تفتح الباب حتى تندفع زوجة البواب. بمجرَّد إغلاق الباب تحكي ما حدث:
– صباح اليوم هبط ضيفاك الدَّرَج، ثم سقط الرجل مغشيًّا عليه. زوجي وأنا حملناه وأرجعناه إلى الشقة، وطلبنا عربة الإسعاف، لكن المرأة لم توافِق على ذلك، لم تستجبْ بأي حال من الأحوال، وفي النهاية رضخَتْ وركبت معه السيارة. على المائدة كانت هناك ورقة خبأتُها، ها هي.
تقرأ جريته: سنسافر إلى بحيرة «فان» لكي ننتحر غرقًا. لا نستطيع أن نجلبَ لكِ الخطر بعد اليوم. الله يحميكِ، ويحمي ألمانيا أيضًا؛ لأنك ألمانية.
– منذ فترة طويلة خمَّنتُ ما يحدث، ولكن الآن عرفْنَا أنكِ تُخبِّئِين يهودًا! لم يمر وقت حتى أتى الجستابو إلى هنا، أرادوا أن يلصقوا بي تهمة مَعرفة ما يحدث. أؤكد لكِ أنني صرختُ في وجوههم. كنتُ خبَّأتُ الورقة في جيب المئزرة، لم يروها. على أي حال، عليَّ أن أخبرك بالذهاب فورًا إلى قسم الشرطة. يقولون: إنكِ تستحقين الإعدام، ولكن لأنك أرملة محارِب، فربما يُخْلِي القانون طريقًا للرحمة، فتُعاقَبِين فقط بالنقل إلى معتقَلات التصفية، هناك تستطيعين الاحتفال بلقاء أصدقائك اليهود مرة أخرى!
جريته، شاحبة الوجه، حائرة، يائسة، تسأل المرأة عن نصيحتها، فترد عليها: تقولين لي ببساطة: سأذهب لِتوِّي إلى الشُّرطة! حتى لو سافرتِ صدفة، وهو ما سأفعله لو كنت في مكانك.
تسافر جريته فورًا إلى جدتها التي تصطحبها إلى صديقة تسكن في منزل يقع على حافَّة المدينة، بالقرب من جروناو. وهناك تظل مختبئة، عدة أشهر، ويسير كل شيء على ما يرام. ثم تمرض مرضًا خطيرًا، مصحوبًا بآلام حادة وحمى شديدة.
والآن يجيء دور جروسكورت. تبحث الجدة يائسة عن طبيب غير نازي. تتحدث مع إحدى معارفها، سكرتيرة في مجلة «إريكا»، تقوم من جانبها بالتَّحدُّث مع المحرِّر هلموت كيندلر الذي سيغدو فيما بعد ذلك الناشر المشهور. كيندلر يعرف جروسكورت، فينطلق من فوره إلى مستشفى روبرت كوخ في موآبيت، ويسأله النصيحة.
لا يتردَّد الطبيب لحظة واحدة، يتناقش مع رئيسة الممرضات، ثم يأخذ بعض الأدوية والحقن، ويدعو كيندلر لأن يتبعه إلى سيارته، ثم ينطلق على الفور. في جروناو يجدان المريضة في حالة أكثر وهنًا مما كانَا يخشيان. يشخص جروسكورت أنها تعاني من التهاب في المرارة، ويرى أنه لا بُدَّ من إجراء العملية فورًا.
يتشاور الرجلان مع السيدة العجوز. ليس هناك سوى فرصة واحدة في مواجهة سباق الزمن: اسم جديد، أوراق هوية جديدة، وبقدر الإمكان قبل إدخالها إلى المستشفى. ستَدَّعِي جريته أنها ابنتها، روزا، أتت من ميونيخ لزيارة السيدة العجوز المريضة مرضًا عضالًا، ثم وقعت هي فريسة للمرض.
ينقلان جريته إلى سيارة جيورج، وينطلقان بها وبالجَدَّة إلى شونيبرج، وهناك يجهزان في شقتها غرفتين للمريضتين، ترقد الجدة في فِراشها، ويقوم الطبيب باستدعاء عربة الإسعاف، ويأمر بتحويل جريته إلى القِسْم الذي يعمل به في مستشفى موآبيت، قسم الأمراض الباطنة، ثم ينطلق وراءها بسيارته، وفي قسم الاستقبال يقوم بتسجيل بياناتها بنفسه، ويقول: إن أوراق الهوية سيتم تقديمها في الأيام اللاحقة، فحسب ما أدلَتْ به الأم فإن الأوراق ما زالت في الحقيبة الموجودة بأمانات محطة أنهالت.
لكنهم أثناء التخطيط نسوا شيئًا: التأمين الصحي. كان على جروسكورت أن يُقرِّر بسرعة أن يعالج المرأة الشابة خارج نطاق التأمين. يُلمِّح لصديقه، الطبيب أول شلاغ، بحكاية روزا/جريته. أكثر من مرة قام جروسكورت بإِطْلاع زميله على الحقيقة عندما كان يعالج مرضى يهودًا بأسماء مُستعارَة. يعطي شلاغ المريضة روزا جريته غرفة منفرِدة، ويتم إجراء عملية المرارة.
في تلك الأثناء كان جروسكورت يتصل بأصدقائه ومُزَوِّري الجوازات، وبعد يومين من إجراء العملية كانت بطاقة الهوية الأولى جاهزة. يزور المريضة، ويطلعها على ما حدث، ويسلمها الوثيقة لعرضها على قسم الاستقبال، والادعاء بأنها كانت طوال تلك الفترة في الحقيبة الموجودة بمحطة أنهالت.
تتعافى جريته، وتنجو من ويلات الحرب، وتواجه صعوبات لكي تستعيد اسمها الحقيقي، وتحكي حكايتها التي تصل إلى آذان أناليزه. هذه الحكاية يمكن قراءتها بصيغة مشابهة في السيرة الذاتية لهلموت كيندلر.