دائرة الجحيم الأولى
قبل أن أسافر في عطلة عيد الميلاد زرت السيدة جروسكورت مرة أخرى وسألتُها عن تفاصيل الحكم وعن المنشورات والعمال الأجانب. لم تُعطِني إلا إجابات متقطعة مُبتَسرة، بدَت وكأنها تتمنع. زادت الحواجز النفسية التي أشعر بها، فحاولْتُ أن أعرف شيئًا عنها على الأقل، عن قضيتها في سنوات الخمسينيات.
– لا تندفع هكذا أيها الشاب، نحن ما زلنا في دائرة الجحيم الأولى، عند رجال القانون من دائرة فرايزلر. لو كنتُ عرفتُ آنذاك أن بانتظاري دائرة أخرى، دائرة رجال القانون في غرب برلين.
لم تتم الجملة، وكأنها شعرت أنها مضَتْ إلى أبعد من المسموح. من قلبها المنضبط فلتتْ آهة لم تسيطر عليها. إذا لم تَخُنِّي الذاكرة فإنها لم تستخدم كلمة «الجحيم» بعد ذلك أبدًا، فلم يكن من طبعها المُبالَغة. ثم نهضَتْ وأحضرت كأسًا من الكونياك، وهو ما لم تفعله أبدًا من قبل:
– جروسيني!
ولمَّا رأتْ نظرتي الغبية أو المُتشكِّكَة أوضحتْ قائلة: من جورجيا! على نفس درجة جودة الكونياك الفرنسي تقريبًا!
صبت لي ولها، ثم تابعت: صرختُ في وجهك قبل أيام؛ لأنك بدأت تتحدث ثانية عن فرايزلر. فكرتُ آنذاك أن فرايزلر يثير اهتمامك أكثر من جيورج. الشياطين دائمًا أكثر إثارة من الطيبين، هذا هو قدرُنا التعيس. أنت تعرف الحكم الآن، وتعرف فرايزلر، وربما تفهم الآن سبب حساسيتي. مَرَّ على ذلك نحو ٢٥ عامًا. كان ذلك تحديدًا في ١٦ ديسمبر، في يوم ما لا بُدَّ من أن أخرج ما في صدري.
بعد كأس الكونياك الثانية أعادت الزجاجة إلى مكانها في الخزانة، وشرعت تتحدث عن جلسات المحاكَمة في محكمة الشعب العليا. في اليوم التالي، وقبل أن أحزم حقائبي، دونتُ:
قيل كل شيء عن هتلر وعن جوبلز، أما عن فرايزلر فهناك الكثير مما يمكن أن تقوله امرأة شابة، في الثالثة والثلاثين، كانت تجلس في قاعة المحكمة بين الجمهور، قبل أيام قليلة من عيد الميلاد عام ١٩٤٣م. تحاول أن تُثبِّت بصرها على زوجها الجالس في قفص المتَّهمِين إلى أن أثارت في النهاية انتباه زوجها الجالس في الصف الأخير. أجْلَسُوا الزوجات خلف فرقة من الجنود الشبان، القاعة مكتظة بضباط الصف من رجال الجيش. تشعر بالسعادة إذا استطاعت أن تتبادل نظرة مع جيورج بين الحين والآخر، عبْر الأكتاف ورءوس الجنود الأطفال الحليقة. يجلس محشورًا بين المحامين والأصدقاء. يطالب المُدَّعِي العام شتارك بإعدام كل المُتهَمِين. لم تر جيورج ثلاثة أشهر طوال، بعد الأيام التي استجمعتْ فيها قواها عند الأطفال والأقارب في فيردا، حضرَ إلى فايسنهازل الرجال المُرتَدون المعاطف الجلدية السوداء والقبعات العالية، وقبل ذلك جاءوا بسيارة الجستابو إلى كاسل يوم الرابع من سبتمبر ومعهم الأصفاد الحديدية. وفي قطار الليل إلى برلين دفعوهم دفعًا إلى دواوين مختلفة.
يلتفتُ جيورج إليها، بائسًا، شاحبًا، منكسرًا. لم يعد بالإمكان التعرف على جيورج صاحب الدعابة والمرح، جيورج الساحر الجذاب. يغتصب ابتسامة لا تقدر على طرد اليقين بأن عقوبة الإعدام آتية لا ريب. لن تنقذنا إلا معجزة. ترد الابتسامة، ليس باستطاعتها المزيد. غير مسموح لها بأن تعانقه، غير مسموح لها بأن تمر بيدها على جبهته، ليس مسموحًا لها بأن تلمس يديه الحبيبتين. ليس مسموحًا لها بأن تُعزِّيه بالكلمات، ولا أن تدافع عنه، ولا أن تصرخ معبرةً عن سخطها، ولا أن تلوح بذراعيها. ليس لها أن توجه الاتهامات إلى قضاة الموت، عليها أن تعتبر نفسها محظوظة؛ لأنها لا تجلس هي أيضًا بتهمة الخيانة العظمى تحت الصلبان المعقوفة المرسومة على الرايات الحمراء الزاهية.
اجتازت ثمانية أسابيع من التحقيقات في أقبية «برنتس ألبرشت شتراسه»، ثمانية أسابيع محبوسة في الطابق الأعلى من سجن الشرطة في «ألكسندر بلاتس». خلال الغارات الجوية كان السجناء السياسيون يبقون محبوسين تحت السقف، بالقرب من القنابل، بينما يُسمح للمجرمين بالذهاب إلى المخابئ. لا تمشية في الفناء، لا تدفئة، لا اتصالات. نَحفت وهَزلَت مثله، لكنهم لم يضربوها. لم تعرف شيئًا، لم تعرف تقريبًا شيئًا، لقد ساعدَتْ في تقديم المخبأ للهاربِين، حصلت على مواد غذائية، كانت تُخمِّن تزوير الجوازات، رأت أحد المنشورات وقالتْ لروبرت وجيورج بأن هذا التباهي والافتخار هو الجنون بعينه. كل هذا لم تُبِح به خلال ساعات التحقيق الطويلة. على ما يبدو لم يكن في يد أحد دليل عليها. لم تدرك إلا الآن، في صباح ذلك اليوم، ما هي الحماية التي قدَّمها لها جيورج؛ لأنه لم يُبِحْ لها بشيء، أو بلا شيء تقريبًا، ولم يقل لها إلا الضروري.
لم تعرف شيئًا عن الأنشطة التي يُرغِي السيد فرايزلر بشأنها ويُزْبِد، لم تعرف شيئًا عن المنشورات الأخرى، ولا عن اليهود الآخَرِين، لا شيء عن الاتصالات مع العمال الأجانب، ولا عن الاتصالات بالشاهد هاتشيك، حماها جيورج بِحَجْب كل هذه المعلومات عنها. تَرتَعِب، تفهم شيئًا فشيئًا أن شعورها لم يخنها في الشهور الأخيرة. كان كل شيء أكثر من اللازم، لقد ألقى الاثنان على كاهلهما خلال الربيع والصيف أكثر مما يَتحمَّلَا. كان يتحرك كالمحموم بين المستشفى والشقة واللقاءات، دائمًا خارج المنزل، لا يقول لها سوى: الأصدقاء.
يزأر فرايزلر: شيوعيون، عملاء للعدو! يسب فرايزلر: انهزاميون، متثاقفون! يصرخ فرايزلر: طعنوا الفوهرر والشعب الألماني والرايخ الألماني من الخلف! ينشد فرايزلر: خانوا كل جندي من الجنود الشجعان على الجبهة. يصيح فرايزلر: قاموا بإخفاء اليهود والادعاء بأنهم ألمان الدم، وقاموا بتسمينهم! يجعل فرايزلر الجنود الأطفال يضحكون: وأنتم، أيها المتثاقفون البُلَهاء أردتم أن تنتزعوا زمام السلطة!
القاضي الثاني الجالس بجواره لا يقول ولا يسأل تقريبًا. يومئ، يبتسم في شماتة، ويكتب باجتهاد، رغم أن هناك كاتبة لمحضر الجلسة تجلس في الركن. هو أيضًا يرتدي وشاحًا عليه الصليب المعقوف.
بدأتْ تدرك شيئًا فشيئًا ما يدور في رءوس جيورج وأصدقائه. ليس فقط الجلبة والضوضاء المحيطة بالمحاكمة، ليس فقط الحكم الذي يهدِّد حياتهما هو ما يدخل الخوف إلى قلوبهم ويجعلهم يشعرون بالعجز. الأمر أسوأ من ذلك، ربما يسمعون الآن للمرة الأولى كل الاتهامات التي تُوَجَّه إليهم، كل ما اعتصره الجستابو منهم؛ أي الأفعال المُعادِيَة للدولة التي تم الاعتراف بها تحت الضرب والتعذيب. سيتساءل كل منهم: لقد كتمتَ هذه النقطة بجهد جهيد، مَن وشى بها؟ ربما سيتبادلون الشكوك والاتهامات، ويواجهون الآخَرِين بالغضب الصامت.
ثم التهكم والازدراء! أن يروا هنا أن كل ما فعلوه — وهم لم يفعلوا سوى الخير — يتم تلطيخه وتزويره ووَصْمه بيد هذه العصابة. كل مُساعَدة تقدموا بها إلى مُطارَد، كل فعل شريف، كل محاولة صغيرة للتنفس بحرية أكبر وجعل حرب هؤلاء البرابرة أكثر احتمالًا، كل هذا تتم ترجمته بِلغة السفالة ولغة الصارِخِين. الارتياع يجعل شحوبَه أكثر وضوحًا، جيورج يقلب بعصبية في ملف يضم بالتأكيد قائمة الاتهام، ينكمش على ذاته من جراء الصراخ، لا يفهم ما يقرأ، لا يفهم ما يسمع. يعاود النظر إليها. عبْر المسافة الهائلة تلمح عبْر سور أكتاف الجنود ومؤخِّرَات الرءوس الحليقة عيني رجل مجروح جرحًا بالغًا.
في الزاوية اليمنى، تحت راية الصليب المعقوف، ترى تمثالًا نصفيًّا للفوهرر، النظرة مصوبة إلى المُتهمِين. فرايزلر يزأر، النازيون المُرتَدون أرواب القضاة يُومِئون مُوافِقِين، النازيون الشبان في الزِّي العسكري يَتسَلَّون بما يحدث، أيُّ محاكمة عظيمة هذه؟!
تمعني فيهم، في وجوههم، نهايتهم ستأتي خلال عام أو عامين، وسينتهي كل هذا الجنون، وتتوقف هذه الكراهية، قريبًا ستتوقف. على جيورج أن يصمد، أن يَعبُر هذا العام أو العامين، ويظل على قيد الحياة بأي طريقة كانت. لن يزأَرُوا طويلًا، لن ينطقوا طويلًا بأحكامهم الملعونة، ستنتهي الحرب قريبًا. عندئذٍ سيطلبون الرحمة، عندئذٍ سيأتون إلى جيورج ويَتسَوَّلُون منه الرأفة والأحكام اللينة.
كان عليها أن تَكْره هذه العصابة، لكنها لم تستطع، فالكراهية ليست بمقدورها. جيورج أيضًا لا يستطيع أن يكره. إنها تريد أن يتوقف الناس عن الكره. حياة بدون كراهية. ممنوع عليك أن تحب البشر في هذا العصر، هكذا قال جيورج ذات مرة. حزينة هي، حزينة على الشبان أمامها. على القفا المحلوق ترى قبضة الموت. إلى أن تنتهي الحرب سيُطمر على الأقل نصف هؤلاء الجنود، الذين يضحكون عندما يستهزئ فرايزلر بالمُتهَمين، سيُطرحون على الجليد أو في الوحل وتنهش الذئاب أو الكلاب جثثهم. لن يعرفوا أبدًا الحقيقة البسيطة: أن جيورج، وروبرت، وباول، وهربرت كانوا يريدون إنقاذ حياتهم أيضًا.
تأمل أن يقوم محامي جيورج على الأقل بالحديث عن الحب والكره. غير أن هذا السيد آلسدورف ليس محاميًا، إنه يتكلم عن جسامة الجُرم، وكأن جيورج قاتلٌ أو سارِقٌ أو منتهِكٌ للأعراض. إنه يطالب بعقوبة عادلة، ويحسب نفسه شجاعًا؛ لأنه يؤكد قليلًا على نطق كلمة «عادلة» أمام أعلى ساحات محاكم الظلم. المحامون الآخَرون أيضًا: د. كونتس المدافع عن روبرت، ود. فايمان عن هربرت، وفون رورشايت عن باول، إنهم يطفحون اشمئزازًا من مُوكِّلِيهم، لا ينطقون بكلمة لطيفة، لا يزأرون، لا يشتمون، لا ينفعلون، ولكنهم أيضًا لا يدافعون. فيما يشبه الاتفاق راحوا جميعًا يطالبون بعقوبة عادلة.
لا يمكن انتظار شيء من هؤلاء السادة، ولن تأتي المعجزة من جانب سيادتهم، السادة رجال القانون المسموح لهم بالترافع في هذه المحكمة، إنهم يزيدون الطين بلة فحسب. قال آلسدورف: إن عريضة الاتهام أُرسلت إليه وإلى زملائه بالأمس فحسب.
– ولماذا لم تُرسَل قبل الأمس؟ هكذا تساءلتْ.
– هذا مُعتاد هنا، قال مزمجرًا، ١٢ ساعة قبل بدء المحاكمة.
– هي: زوجي لم يستلم الملف إلا الأمس؟
– هو: مساء أمس، لكنه يعرف ماذا فعل.
– هي: وكيف يمكنك أن تدافع عنه؟
فغمغم قائلًا: القضية واضحة لا لبس فيها، لقد عُومِلوا معاملة خاصة عندما قرَّرت محكمة الشعب العليا أن تنظر في القضية خلال جلستين صباحيتين، بدلًا من جلسة واحدة.
تَوَد لو احتفظَتْ ذاكرتها بالأوجه، أوجه القضاة ذوي النظارات، أوجه المحامِين السُّذَّج، وأوجه رجال الادعاء المليئة بالندبات، لكن الأوجه تختلط معًا. لا تنجح، التشابه بينها كبير للغاية، وجوه رجال القانون، ووجوه القضاة، وجوه نازيين.
لا فائدة، قالت لنفسها: انسي، لا تضيعي نفسك في أدغال الكراهية، عليك الآن ألا تفكِّرِي إلا في شيء واحد: مَن يستطيع إنقاذه؟ مَن يستطيع أن يقوم بالمعجزة؟ على الأقل تأجيل الحكم، تأجيل التنفيذ.
تفكر قائلة: لن يحميها من النازيِّين سوى نازِيِّين أعلى رتبة. هيس، المدفع الأقوى، سافر إلى إنجلترا، لو لم يفعل لكان بإمكانه المساعدة. إذن، يتبقى مشاهير المرضى، وكلاء الوزارة، رجال الصناعة، دبلوماسيون، وربما شقيق هيس. الكلمة السحرية هي «ذو أهمية لسير الحرب». لا بُدَّ من تصوير أبحاثه على أنها مهمة للحرب.