لا تخافوا
اجتياز أيام الأعياد، الساعات العائلية المُضْنِية، ترديد نغمات عيد الميلاد العتيقة، كان لا بُدَّ من أنصاف حلول كهذه، حتى في عام التمرُّد. ولكن، كان هناك تغيير هذا العام؛ إذ إن الأمريكيين قدَّمُوا لنا عبْر شاشات التلفزيون، ومع موعد العيد بالضبط، أول رحلة يقوم بها الإنسان حول القمر. فيما عدا ذلك: العائلة، والتقاليد، والحياة في المدينة الصغيرة تسير سَيْرَها الثابت الذي لا يغيره شيء. ليس هناك ما كنتُ أشعر حياله بالغربة مثل هذا الذي يَدعُوه البعض وطنًا. بين عالَم المنازل الخشبية التقليدية، تلك الحياة الراسخة المُحاطة بعشرات الأنواع من التأمين، المُبطَّنة بالدين، والمربوطة في حزمة مُحافِظة، كل شيء كان يهدف إلى ترويض روح المعارَضة. لم أكن أمتلك شجاعة الإفلات من قبضة ذلك كله. لم أكن مقتنعًا كل الاقتناع بالموضة السياسية السائدة التي تنادي بأن يتنكر المرء لأصله، ولم يكن يهمني أن أوصف في برلين بالجُبن: ما زال يسافر في عيد الميلاد إلى ماما! كان للأمر جوانبه المريحة أيضًا، عندما يستريح المرء بضعة أيام من التطرف البرليني، أيام يقضيها مع ترانيم عيد الميلاد، ولعبة «المونوبولي»، وأصدقاء المدرسة.
كانت كاترين لدى والديها في ماركتردفيتس حتى مطلع يناير، كي تصور الشتاء في عِزِّه، وتلتقط ضوء الشتاء المُخادع على حد قولها. ولهذا قضيتُ أنا أيضًا رأس السنة عند عائلتي. بإقامتي الطويلة مَنحْتُ أمي بعض العزاء؛ فهي لم تكن تراني في المعتاد إلا لمدة ثلاثة أو أربعة أيام. غير أن ذلك لم يَهدِم الحاجز اللغوي بيننا، كنا نتحدَّث لغات مختلفة، هي بالإيجابية المسيحية، وأنا بمصطلحات النَّفْي. تَجنَّبتُ التحدث معها؛ كنتُ أخشى دومًا أن أزعجها أو أجرحها بكلمة، أو جملة، أو ملاحظة ساخرة تعتبرها هي مُتطرِّفة أو غير مسيحية، كانت دموعها تنهمر من عينيها أسرع من عثور لسانها على الكلمات المناسِبة. المصارَحة والمكاشَفة كانت واجبة، كان من حقها ذلك، فهي التي كانت تنهض بتكاليف دراستي دون أن تَجرُؤ على طرح السؤال بصوت عالٍ: متى ستنتهي؟ إلى أن خلصتها من هذا العبء:
– سَنة أخرى، الأمور تَسير على ما يرام.
رُحتُ أتحدث عن إحراز تقدُّم ونحن نشرب القهوة، ونأكل الكعك بجانب شجرة عيد الميلاد البلاستيكية البهية، وفي فروعها كانت أحرف ذهبية مُعلَّقة في خيط غير مرئي: لا ت خ ا ف و ا.
منذ أن أذاعَتِ النشرة التلفزيونية خبَر الشوشرة على القُدَّاس الإلهي — عندما اقتحم طلبة كنيسة القيصر فيلهلم التذكارية حامِلِين لافتاتٍ تقول: «أيها المُراءُون.» — منذ ذلك الحين كانت أمي تشعر حيال تَطوُّري بخوف أكثر من المعتاد. رايات حمراء، مُظاهَرات، شعارات ماو، كان كل ذلك غير محتمل، والآن الهجوم على القدَّاس الإلهي، أكبر خطيئة يمكن تصوُّرها. حاولتُ أن أُهدِّئ من روعها: بالتأكيد لم يكن المسيحيون في برلين هم المعنِيِّون، بل الأمريكان الذين أعلنوا وقف إطلاق النار في فيتنام لمدة ثلاثة أيام بمناسبة عيد ميلاد المسيح، وبعد ذلك يستأنفون إلقاء القنابل. هذا نفاق، أليس كذلك؟ كان عليها أن تُسلِّم بهذا، لكنها لم تقتنع. كانت ترى في كل مكان الأغوار السحيقة التي قد أهوي فيها، أو لَعلِّي قد هويتُ فيها فعلًا.
فيما يتعلق بالرايات الحمراء، وماو، والمساكن المشترَكة، والكومونات — التي كان الناس في الأرياف يعتبرونها أوكارًا للحفلات الماجنة — استطعتُ أن أقلل من مخاوفها، فلم تكن لي أية صلة بها. كما أنني نجحتُ في إبعاد أسوأ الأفكار من ذهنها: أن يكون الابن قاتلًا. بالتأكيد لاحظَتْ أنني لا أقول الحقيقة كلها، لذلك، وحتى لا أثير شبهات جديدة، وحتى لا أتركها نهبًا للظنون بأني كاذب، اعترفتُ لها ونحن نغسل فناجين القهوة الثمينة المصنوعة من خزف مايسن: هناك شيء آخَر، عندي خطة، في الحقيقة ما زالتْ سِرِّية، أريد أن أكتب عن جيورج جروسكورت.
بالنسبة لها كانت تلك صدمة، مُزدَوجة. كان عليَّ أن أُركِّز جهدي وحماستي على الدراسة، لا أن أضيع وقتي في كتابة «كلام فاضي». ثم اسم جروسكورت، بالنسبة لها شيوعي، وهو شيء لم تكن قادرة على الحديث عنه؛ بالنسبة للنقطة الأولى نجحتُ في أن أقلل من مخاوفها، أما بالنسبة للثانية فلم أعرف كيف أساعدها.
وهكذا غذيتُ همومها برافد مُحدَّد واضح، ولكن ذلك بدا لي — ونظرًا لطبيعتها الخوافة — أفضل من أن تتملكها الشكوك الضَّبابية حول خلاص نفسي. حاولتُ أن أُدخِل بعض الاسترخاء إلى جو الحديث، فسألتُها عن ذكرياتها عن أناليزه جروسكورت؛ فالمرأتان — الشابتان آنذاك — عاشتَا في نهاية الحرب سنتين أو ثلاثًا في بيت القساوسة في فيرداو. لم يكن بينهما استلطاف، أعرف ذلك. أيضًا في ذلك العصر في المطبخ، حيث سادت أجواء أكثر استرخاء من غرفة المعيشة، لم أستطع أن أتوصل إلى الأسباب. لم تمر أمي بشيء خارق للمألوف، لم تمر بها نادرة أو أي شيء كاشِف يمكن أن تحكيه. أحكام مسبقة تُعشِّش في رأسها. لم تتحدثْ إلا عن السيدة بلومبه، والدة أناليزه جروسكورت الرائعة والصعبة. آنذاك، أيضًا في صيف ١٩٤٥م، هربتْ عائلة والدتي من مكلنبورج، وكانوا مُرغَمِين على العيش معًا في مكان ضيق، رغم ذلك لم تعطهم السيدة بلومبه غُرفة خادمتها التي كانت تعيش في حجرة أكبر من … إلى آخر هذا الكلام. الاتِّهام الثاني كان أعمق: لم تكن عائلة جروسكورت مسيحية.
– هل تعلمين أن د. جروسكورت — والد أكسل ورولف — قد أعدمه النازيون؟
– نعم، وقد شعَرْنَا كلنا بالأسف لذلك. ولكن هناك عائلات كثيرة جدًّا فقدت مَن يعولها.
– ولكن، أليس هناك فرق بين أن يسقط الجندي صريعًا في الحرب من أجل هتلر وبين أن يُقتل أثناء نضاله ضد هتلر؟
– نعم، ولكن بالنسبة للعائلات، لمن ظل على قيد الحياة، ليس هناك فارق. كما أن الجنود، ووالدك أيضًا، لم يقاتلوا من أجل هتلر، بل من أجل ألمانيا.
– ولكن هل يتساوى مَن انصاع وأطاع مع مَن قاوم؟
– بالطبع هناك فرق.
– وهل تعلمين أن السيدة جروسكورت أخفت وساعدت معارضين عديدين لهتلر؟
– لا.
– لا.
– وهل سمعتِ أن القاضي الذي حكم بالإعدام على جروسكورت ومائتين وثلاثين آخَرِين على الأقل قد حصل على البراءة مؤخرًا؟
– نعم، سمعتُ ذلك، وهذا بالطبع ليس صائبًا.
– أترين، قلتُ لها، ولهذه الأسباب كلها يتحتم عليَّ أن أكتب عن جروسكورت.
تحقيق دنيء. وحشية مِنِّي أن أثير تأنيب الضمير لدى أمي التي لا ناقة لها في السياسة ولا جمل. لعبة سهلة، أسهل من اللازم. أَفحمتُها بلا رحمة، وهكذا مَنحتُ لنفسي الحرية واسترحْتُ من الإزعاج الذي قد تُسبِّبُه لي.
وفي المساء أيضًا، عندما التقيتُ بأصدقاء المدرسة لنحتسي كأس بيرة، ظل الوسواس القهري مُلحًّا عليَّ. لقد نسيتُ ما كنا نقوله آنذاك، الكلام الحكيم الكبير الذي يَتشدَّق به الشُّبان في منتصف العقد الثالث، كلامُنا عن النساء والسياسة والرحلة إلى القمر والمُعلِّمِين السابِقِين. ما أتذكَّره هو كيف انتزعتُ أصدقائي الذين يدرسون القانون من خمولهم المريح بكلامي عن الحُكم الذي صدر ببراءة زميلهم «ر». لوتس وحده اعتبر الحكم فضيحة، إريش أنقذ نفسه بالعبارات الرسمية، أما جونتر فعلَّق آماله على محكمة النقض. الكلمة الأخيرة لم تصدُر بَعْد. كانوا جميعًا يُفكِّرون على نحو ديمقراطي اشتراكي، غير أنهم وجهوا لي اللوم؛ لأنني وصفتُ زميلهم المستشار القضائي السابق بلا تزويق أو تجميل بأنه «قاتل».
أجبتُ قائلًا على وجه التقريب: الحزب النازي لم يكن إلا عصابة من المُجرِمين أمسكَتْ بزمام السلطة، أليس كذلك؟ هتلر، السفاح الأعظم، هو الذي عَيَّن القضاة في محكمة الشعب العليا، ومنهم «ر»، العضو في الحزب النازي. وعندما يحكم القاضي بإعدام أناس بالجملة، كل جريمتهم أنهم في عام ١٩٤٣م لم يعودوا يؤمنون بالنصر النهائي الذي وَعَد به هتلر، فماذا يكون هذا القاضي سوى قاتل؟
قال إريش معترضًا: ولكن ليس من الصحيح أن ترى الأمور هكذا وأنتَ غير متخصص؛ هناك تعريف قانوني واضح.
أسرع جونتر كي يستشهد بالمادة رقم ٢١١ من قانون العقوبات الألماني: القاتل هو مَن يَقتل إنسانًا آخَر غدرًا أو بوحشية أو باستخدام وسائل خطيرة، وذلك لإشباع شهوة القتل لديه، أو لإشباع غريزته الجنسية، أو طمعًا، أو لإرضاء أي دوافع دنيئة أخرى، أو حتى يتمكن من تنفيذ جريمة أخرى، أو لتمويهها.
فقلت لهم: ها قد سمعتم: دوافع دنيئة! عندما يقوم رجل قانون بملاحقة اليهود وإعدامهم مثلما فعَل صاحبنا، مالِك محل الأدوات المنزلية، أليست هذه دوافع دنيئة؟
تساءل إريش: لماذا أنتم مُتطرِّفُون هكذا، يا أهل برلين؟
– لستُ متطرفًا. هناك حقائق. وهذه الحقائق تزن أكثر من آرائنا التي لا يُعتَدُّ بها.
ما قُلتُه مُلمِّحًا إلى صاحِب محل الأدوات المنزلية أَدخَل الفزع إلى قلوب أصدقائي. كان الرجل يبيع في محله، في أفضل موقع، في قلب المدينة: العطور، وفُرش الأسنان، وزينة شجرة عيد الميلاد، والواقي الذكري، إلى آخره. رجل لطيف، يحاسِب الزبائن، رئيس النادي الرياضي، ارتقى السُّلَّم الوظيفي على النحو المألوف … إلى أن بدأَتْ محاكمة أيشمان في القدس. عندئذٍ شاع الخبر: كان صاحب المحل هرمان كروماي هو يد السفاح اليمنى في بودابست، قدَّم العون في قتل مئات الآلاف، كما أنه قام بابتزاز ٢٥٠٠٠٠ دولار من اليهود الذين أرسلهم لاحقًا إلى أفران الغاز. في تلك الفترة صدر الحكم بسجنه خمسة أعوام. سيطر الخجل على الأصدقاء عندما تحدثتُ عن الرجل، رغم أنهم كانوا يعتبرونه مذنبًا، وينظرون إلى العقوبة الجنائية على أنها مُخفَّفة، سيطر الخجل على الأصدقاء، وكأنهم كانوا يشعرون بالدَّنَس؛ لأننا كنا نتدرب مع ابنته في حصة الرقص على الفوكس تروت والرومبا في الفترة التي كان رجل اﻟ «إس إس» مختفيًا خلالها.
واصلتُ حديثي قائلًا: حتى إذا كانت الدوافع الدنيئة برنامجَ حزب، أو برنامج حكومة، وإذا كانت منصوصًا عليها في القانون، فإنها تبقى دوافع دنيئة. أم أنها دوافع سامية تلك التي حدَتْ بهذا اﻟ «ر» كي يأمر باستئصال شأفة كل الذين لا ينتمون للنازية، كل الذين كانوا يريدون أن يَحْيَوا حياة شريفة إلى حد ما؟
حطَّ الصمت على رءوس الأصدقاء. كنا على اتفاق بشأن جُرم كروماي. ولذلك، لا بُدَّ من أنهم شعروا بالظلم؛ لأنني ساويتُ بين القاتل المُوظَّف من بودابست — الذي لم يكن رجل قانون — وبين القاتل الموظَّف من برلين الذي يحمل اللقب الفخري «مستشار قضائي».
كان إريش أول مَن استجمع قواه: «استئصال» ليس تعبيرًا قانونيًّا.
فقلت: ولكنه يَرِد في الأحكام القضائية.
– من أين تعرف؟
– لقد قرأتُ أحدها. هل أمسكتَ أنتَ بأحد أحكام محكمة الشعب العليا؟ أنتَ؟ أنتَ؟
نصر رخيص مرة أخرى. كنتُ أبحث عن هذه الانتصارات، كنتُ بحاجة إليها؛ لأنني كنتُ وحيدًا تمامًا مع نِيَّتِي بأن أكون قاتلًا وحيدًا. كل حديث من تلك الأحاديث — وهذا هو السبب الذي يدفعني إلى أن أنمِّق تقاريري بهذه الحكايات والذرائع القديمة — كان يدفعني دفعًا لإتمام فعلتي.
عندما أردت ذات مساء متأخر، بعد أن احتسيت عدة كئوس من البيرة، أن أتفرج على التلفزيون في غرفة المعيشة، رأيتُ نفسي — بمجرد أن أضأتُ الغرفة — مُحاصرًا على نحو يدعو لليأس.
عشرة رءوس، عشرون رأسًا صارمة كانت تُوجِّه إليَّ نظرات مُعاقَبة. على كل الجدران صور الأسلاف، صور فوتوغرافية، صور للوحات، وجوه جميلة وصارمة، لينة وقاسية، قبيحة وباسمة. كل الصور مُؤطَّرة وعلى خط واحد، لكنها كانت تتأرجح عندما أثبت عليها بصري، النبلاء والبورجوازيون منفصلون في مجموعتين، ومع ذلك يتحدثون بصوت واحد قائلِين: لا تفعل ذلك، لا تفعل ذلك! راحوا يتحدثون عن الاستقامة والقيم والتقاليد والعقل والوصايا العشر، من كل جانب سمعت في أذني الكلمات التي يسمعها طفل تربى تربية جيدة. كانوا أكبر سنًّا من جدتي وجدي، بعضهم من أعماق القرن التاسع عشر، لم أكن أعرف عنهم إلا القليل، وتخيلت أن باستطاعتي أن أفعل كل شيء على نحو مختلف، على نحو أفضل وأكثر صوابًا مما فعله والداي وأجدادي. كل التحذيرات تدخل من أذني اليسرى وتخرج من اليمنى. ما زلت أتذكر شعوري اللذيذ بالتحرُّر عندما أجبتهم بلسان متلعثم في حالة متوسطة من النشوة: لا تخافوا!