الرومانسية الغربية العنيفة في شارع هاردنبرج
كلُّها تَكهُّنات، قالت أناليزه جروسكورت في يناير ١٩٦٩م: لا أعرف فعلًا متى انكشفَ سِر المجموعة. كثيرًا ما تحدثتُ مع «روبرت»، و«جريته رنتش»، و«ماريا ريشتر» عن ذلك مُحاوِلين حل هذا اللغز، غير أننا لم نهتدِ إليه أبدًا. لا أريد أن أظل أفكر فيما إذا حدثتْ خيانة من الدائرة المحيطة بالمجموعة، سيكون من المعجزات ألا يكون قد ظهر خائن، أو ما إذا كان أحد المختبئِين قد أُجبر على الثرثرة، أو ما إذا كان الذَّنب يرجع إلى المنشورات، أو أن تكون إحدى الخادمات تَجسَّست عليهم، لقد حدث ما حدث، ومرَّت فترة طويلة على ما حدث، لا أريد أن أُطلِق تكهناتي عن ذلك، ولا حتى معك!
كان عليَّ أن أحترم رغبتها؛ لذلك ستبقى تفاصيل كثيرة من تاريخ الاتحاد الأوروبي مَطمورة في الظلام إلى الأبد، كنتُ متأكدًا من ذلك، حتى كتابي المزمع عن جروسكورت لن يُغيِّر من الأمر شيئًا، بل سيكون مزيَّنًا بباقة من علامات الاستفهام.
في المرة الأولى سقط الحظ السيِّئ من السماء، بالمعنى الحرفي للكلمة، والبركة في المخابرات السوفييتية. كان السوفييت يقومون بتدريب مُهاجِرين على القفز بالمظلات، محارِبين قدماء في الحرب الإسبانية، وبعد أن يتزوَّد هؤلاء بالأوراق المُزوَّرة كانوا يقفزون في الأراضي الألمانية، ويُنشِّطون الاتصالات بمجموعات المقاوَمة الشيوعية. نادرًا ما أفلح أحد هؤلاء المُغامرِين؛ إذ إن معظمهم كان يُلقى القبض عليهم قبل أن يبدءُوا اتصالاتهم. هذا ما حدث أيضًا في شهر مايو، عندما وقع في شَرَك الجستابو رجل المظلات أوتو هِبنر — واسمه الحركي كلاين — الذي هبط في أبريل ١٩٤٣م فوق بروسيا الشرقية. ولم يستطع — هكذا يستمر النحس — أن يتخلص من ورقة كانت معه، تضم، من بين ما تضم، اسم هاتشيك، وعلى ما يبدو بلا تشفير. لثقته التامَّة بانتصار الثورة العالمية نسي الرجل اتباع أبسط قواعد التمويه.
كان باول هاتشيك إخصائيًّا في تقنية البث الإذاعي والبصريات، وهو أمَدَّ المخابرات السوفييتية في الثلاثينيات بمعلومات عن اختراعات قام بها بنفسه أو آخرون، كما كانت له اتصالات بإحدى مجموعات المقاوَمة الشيوعية. وفي عام ١٩٤٢م أُلقي القبض عليه، غير أنهم أطلقوا سراحه لعدم كفاية الأدلة. كان على الذين يُطلِق الجستابو سراحهم أن يتوقعوا استمرار الرقابة عليهم. ولذلك تعامَل الشيوعيون معه بحذر، باستثناء إدوارد هِنتش الذي كان يقيم علاقات متقطعة مع «الاتحاد الأوروبي». كان هاتشيك يبحث عن التواصُل مع الآخرين، ثم تعرَّف عبْر هنتش إلى هافَمان وأُعجب به، وراح يتحدث بفخر عن اتصالاته بموسكو؛ ولأن هافَمان كان مهتمًّا بفتح خط مع الاتحاد السوفييتي، فقد أقْدَم على التحدث مع هاتشيك حول هذا الأمر أو ذاك منذ ديسمبر ١٩٤٢م، ثم عرَّفه بأعضاء المجموعة الآخَرين. هذا ما يمكن أن نعتبره اليوم — مع كامل احترامنا لهم — الحماقة العظمى التي ارتكبوها، حماقة رقم «١» صحيح أن نظرتهم إليه — باعتباره إنسانًا خياليًّا يَدَّعي الأهمية، عديم الثقة بنفسه وغير بشوش — كانت تزداد يومًا بعد يوم، ولذلك ظَلُّوا على حذر ولم يثقوا فيه إطلاقًا، حتى هافَمان كان يتحاشاه، لكنهم لم يقطعوا علاقتهم به: حماقة رقم «٢».
فيما بعد استطاع الجستابو، على الأرجح تحت التعذيب، أن يجبر القافز بالمظلة هِبنر، أي كلاين، على إفشاء كلمة السر التي يستخدمها في الاتصال مع هاتشيك: «العم ليوبولد». لماذا لم يَقُل هبنر في ورطته «العم أوغست»، أو «العم هربرت»؟ لن نعرف ذلك أبدًا.
بادَر الجستابو بالهجوم. عبْر أسابيع تم إعداد أحد عملائه ليقوم بدور العميل السوفييتي كلاين. ولأن اسم هاتشيك كان معروفًا لديهم فإن الأمر كان يسيرًا بالنسبة لهم. في مطلع يوليو اتَّصل النازي تليفونيًّا بهاتشيك مستخدمًا كلمة السر «العم ليوبولد». في البداية ارتاب هاتشيك في أمره واستولى عليه الخوف، لكنه استجاب لإلحاح هافَمان — حماقة رقم «٣» — كي يقابل العميل ويتَمشَّى معه، ثم يقوم اثنان من الأصدقاء بمراقبته أثناء ذلك. وتم اللقاء، إلا أن الصديقين لم يَتفِقا في الرأي؛ أحدهما قال: ليس هذا عميلًا روسيًّا. أما الآخر فقال: إنه عميل.
وثق هاتشيك — حماقة رقم «٤» — في رأي الصديق الثاني، وهكذا تَقابَل بعد أسبوع مع النازي المُتنكِّر في هيئة شيوعي. كان يبدو على اطلاع بتفاصيل نشاط هاتشيك في التجسس، واستخدام الاسم المستعار الصحيح، أي كلاين، ولهذا اعتبره هاتشيك جديرًا بالتصديق، وحكى له في اللقاء الأول — حماقة رقم «٥» — عن المجموعة الرباعية. ثم قام هاتشيك بإخبار هافَمان — الذي ظل مرتابًا — بالأمر، ورغم ذلك — حماقة رقم «٦» — شجَّعه على لقاء ثانٍ، ليس هذا فحسب، بل كلفه — حماقة رقم «٧» — بأن يطلب من كلاين المتخصِّص في التجسس الاقتصادي بأن يقابل العميل البولندي. أما كلاين المزيَّف فقد طلب من هافَمان تقريرًا عن حالة الدمار الذي خلَّفَته حرب القنابل، وهو ما فعله هافَمان على الفور مستندًا إلى الأبحاث الرسمية التي قام بها هربرت ريشتر، راجيًا إياه أن يسلم التقرير إلى العميل السياسي المطلوب، حماقة رقم «٨».
كانت الشكوك تتكاثر يومًا بعد يوم داخل المجموعة. جروسكورت اعتبر الأمر بِرمَّته اختراعًا من هاتشيك الذي يريد أن يشعرهم بأهميته. «خلافًا لنصيحتي» — كتب هافَمان عام ١٩٤٦م إلى صديق له متفاخرًا بعض الشيء — «اتُّخِذ القرار بقطع الاتصالات مؤقتًا بالعميل غير الموثوق به. عارضتُ هذا القطع ما دُمْنَا لسْنَا على يقين تامٍّ بأمره، وطالبتُ — في حالة الاقتناع بزيف شخصيته — أن يختفي كل الأشخاص المُهدَّدِين عن الأنظار. استجابَت المجموعة إذن لإلحاح هافَمان، ربما لأن أحدًا لم يكن يريد أن يصبح خارجًا عن القانون — حماقة رقم «٩» — واستجابت — حماقة رقم «١٠» — لاقتراح هاتشيك بأن يتم لقاء بين العَميلين في «هاردنبرج-شتراسه». عندما ادَّعى هافَمان أمام هاتشيك أن الذي يبحث عن الاتصال ليس هو، بل رجل مهم، فقد كان يعتقد أنه بذلك يحمي نفسه والمجموعة. وهكذا أُرسل رنتش، الذي لم يكن هاتشيك يعرفه، وطُلب منه أن يطبع وجه العميل في ذهنه، استعدادًا للقاء لاحِق مع هافَمان أو الرجل المهم المُخترع، حماقة رقم «١١». على الرصيف الأيسر، إذا ألقينا نظرة من حديقة الحيوان، بين «شتاين-بلاتس» و«كني-بلاتس»، وهو الميدان المُسمَّى اليوم «إرنست-رويتر-بلاتس»، كان كلاين المزعوم، والعميل السياسي المزعوم يسيران بخطى وَئيدة مارين برنتش وهاتشيك. عند «شتاين بلاتس»، ومن الناحية الأخرى عند «كني بلاتس»، استدار الاثنان ومشيَا إلى أن تقابَلَا، للمرة الثالثة استدارا وتفحَّص كل منهما الآخَر. افترق السادة، غير أن هاتشيك — حماقة رقم «١٢» — وخلافًا للاتفاق، مشَى في اتجاه كلاين، وتحدَّث معه بحدة. مضى رنتش مبتعدًا عنهم، وقام بإبلاغ هافَمان الذي كان في انتظاره عند «كنيسة الذكرى». اعتبر رنتش المناوَرة كلها بالغة الخطورة، أيضًا صديقه ريشتر كان مُستاءً بسبب تلك «الرومانسية الغربية العنيفة». في النهاية تخلَّى هافَمان عن طموحاته. ولأنه لم تحدث اعتقالات في الأيام اللاحقة، اعتقدت المجموعة الرباعية أنها قطعت الاتصالات في الوقت المناسب.
لماذا إذن — سنتساءل اليوم — تُرتكب كل هذه الحماقات مرة واحدة؟
ربما بسبب طموح وتباهي الرجل الذي نجَا وحْدَه من المصير الذي لاقاه كافة أعضاء نواة المجموعة. إن من المشكوك في جدواه أن نحاول اليوم من وجهة نظرِنا المُتعالِمة أن نُقيِّم ما فعلوه، ولكن لا يمكن تجاهُل أنه لم يُلِحَّ أحد في المجموعة مثل هافَمان على تتويج أفعال المقاوَمة العملية بمنشورات سياسية نظرية، بيانات تحتوي على تصريحات هجومية وحُجج ذكية ثاقبة البصر لفترة ما بعد الحرب، ولكن من الناحية التكتيكية كان ما حدث حماقة ودعوة إلى الذين يلاحقونهم. لم يطمح أحد من الأربعة مثل هافَمان — في وسط عام ١٩٤٣م — في الحصول على مَعونة الاتحاد السوفييتي عن طريق العملاء. ولم يشعر أحد — رغم الاحتياط الكامل — بالفخر والفَخار مثله؛ لأن الاتحاد السوفييتي الكبير يبحث — كما كان يظن — عن اتصالات بالاتحاد الأوروبي الصغير.
ليس من حق أحد — لا سيَّما نحن الذين لم نَقضِ يومًا واحدًا في أخطار مماثلة — أن يرمي بالاتهامات فوق قبْر هذا الرجل الشُّجاع الفاضل. ولكن حتى نكون عادِلِين بعض العدل حيال جروسكورت، ورنتش، وريشتر، فلا بد من أن يُسمح لنا بالقول بأنهم لم يكونوا رومانسيين، وأنهم لم يكونوا في حاجة إلى الكلمات الكبيرة، ولا إلى الاستناد على كتف الأخ الكبير في موسكو.
وهكذا كان بإمكان الجستابو أن يضرب ضربته بمنتهى القوة. في الثالث من سبتمبر تم اعتقال باول هاتشيك. هو بالذات، الذي كان يُوصَف بأنه أقلهم في قوة الاحتمال. في التحقيق الأول ذكر أسماء مؤسِّسي الاتحاد الأوروبي وأسماء زوجاتهم، وسِتة أسماء من المجموعة الشيوعية التي كانت قريبة منهم. تم اعتقالهم جميعًا في الخامس من سبتمبر، وبعد فترة قصيرة تم اعتقال بعض اليهود المختبئِين وهمزات الوصل بين المجموعة وعمال السُّخرة الفرنسيين والرُّوس والتشيك، إجمالًا ٥٥ امرأة ورجلًا، ثلاثة منهم لَقُوا حَتْفَهم في معسكرات التصفية، ١٧ أُعدِموا بحكم قضائي أصدره في معظم الحالات القاضي «ر».
كيف جَعل المحققون هاتشيك يبوح بكل ما يعلمه في أول تحقيق؟ سؤال لا نستطيع إلا التكهن بإجابته؛ إذ إن ملفَّه هو تحديدًا — الذي يضم محاضر تحقيقات الجستابو — قد اختفى، باستثناء أجزاء منه. كان هاتشيك يعمل آنذاك لصالح المخابرات السوفييتية، فلا بد إذن من أن الرجال المُهمِّين في اﻟ «كي جي بي» قد أَعدَموا في الخمسينيات والستينيات كل ما قد يعكر صورة عميلهم جامع المعلومات.