الخامس عشر من أغسطس
بين عشية وضحاها أصبحَتْ أناليزه جروسكورت، الطبيبة ذات الأربعين عامًا، مُلاحَقة، مكروهة، مُحتقَرة، فقيرة. لا تريد أن تكون شيوعية، ناهيك عن أن تصبح بوقًا للبروباجندا الحمراء. لكنها تتمسك برأيها؛ ترفع قضية لدى محكمة العمل مُعترضةً على فصلها وعلى الافتراءات والأكاذيب المُلفَّقة حولها. أخيرًا وصل الإرهاب إلى نهايته، هكذا تقول لنفسها في كل ليلة قبل النوم، أخيرًا قوانين عادلة، ديمقراطية، حرية وقضاة لا يرتدون أروابًا عليها صُلبان معقوفة. مَن يتعرض للظلم، يمكنه أن يدافع عن نفسه، بل من حَق الإنسان أن يرفع دعوى ضد مصلحة حكومية، ضد مُوظَّفِي مكتب الصحة في الحي، وخاصَّة بصفتها طبيبة في مصلحة حكومية مُحترَمة، أرملة رجل شجاع كافَح ضد الصليب المعقوف … إلخ.
الحُجج التي تكتبها في رسالتها إلى المحكمة يجب أن تكون — هكذا تفكر — مُقنِعة لأي إنسان: لقد خالَف مكتب الصحة في الحي اللوائح مرارًا وتكرارًا، كما أنه خالَف الدستور البرليني. ثانيًا: إن فصلَ شخصٍ مُعترَف به مُلاحَقًا سياسيًّا لا يمكن أن يحدث إلا بموافقة رئيس قسم شئون العمال، وبعد إجراء تحقيق. كِلا الأمرين لم يَحدُث. ثالثًا: يقول مستشارها القانوني إن المادة التي يرتكز عليها قرار المنع من مُزاوَلة المهنة تتعلق بالجمعيات التي تعمل ضد النظام الدستوري وضد التَّفاهُم بين الشعوب، بينما يهدف الاستفتاء تحديدًا إلى دعم الدستور وتعزيز التفاهم بين الشعوب. تُحصِي أناليزه ثمانية انتهاكات قانونية، في حين أن الدليل الوحيد المستخدَم ضدها هو ذلك الخبَر الصحفي القصير المُغْرِض الذي يحمل عنوانًا خاطئًا.
وبينما كان قضاة محكمة العمل يَتمهَّلون كل التَّمهُّل في فحص حجج كلا الطرفين، حاول المكتب الحكومي أن يُصلِح لاحقًا الانتهاك القانوني أمام وزير العمل في برلين. يستمعون إلى أقوال السيدة جروسكورت، ويعترفون بدورها في المقاوَمة، ورغم ذلك يوافقون على إقالتها بتاريخ ٢٠ يونيو. وبِكَرَم يشيرون إلى إمكانية اللجوء إلى القضاء لتسوية الخلاف بين مكتب الصحة بالحي والطبيبة العاملة به. ومَن يهمه إذا كانت إقالة لاحقة بهذا الشكل مخالِفة للقانون؟
لا يهم هذا سواها وسوى مستشارها القانوني الذي تتولَّى المحكمة دفع أجره نظرًا لحالتها المادِّيَّة المتواضِعة. لا تستطيع تَحمُّل تكاليف محامٍ حقيقي، وهي ليست بحاجة إليه أيضًا، هكذا تفكر؛ فحُجَجها تقنع كل شخص. تَمرَض: غثيان، آلام في الأمعاء، صداع، حُمَّى. تَشخَّص مرضها بأنه نتيجة انتقال عدوى. تَتناوَل أدوية، بدون نتيجة. تَحدِس السبب وراء ذلك. لم تَعُد تستطيع مقاومة الهجمات الوضيعة عليها. لا تريد أن تصدق، غير أنها تشعر وتسمع وترى يومًا بعد يوم: كلهم ضدها، باستثناء حفنة من الناس كانوا من مُناهِضي هتلر. الابنان يَتعرَّضان للمُضايَقات، التلاميذ يُوجِّهون لهما السِّباب في فناء المدرسة: «شيوعيون.» هناك مَرضَى يأتون بعد حلول الظلام حتى لا يَشِي بهم أحد. الأمر يفوق طاقتها. سبع سنوات من ممارَسة لعبة التَّخفِّي في عهد النازية، ثم خمس سنوات عمل مُرهِق متواصِل، الانتقال طوعًا عام ١٩٤٦م إلى كَومة الأنقاض برلين، إزالة الأنقاض، إعادة النظام، تقديم يد العون، ليل نهار تُكافِح البؤس، دائمًا تعمل، دائمًا في خدمة الآخَرِين أولًا، ثم في خدمة الأطفال، وأخيرًا تخلو لنفسها. وكيف يشكرونها على ذلك؟ لماذا يُلاحِقون امرأة مُلاحَقة؟ لماذا يُعاقِبون امرأة عاقبَها النازيون؟
في كوابيس الحُمَّى يظهر لها وحش، له رأس يُشبِه رأس كلب وعدة رءوس أفاعي، وحش أسطوري يبث أنفاسه السامَّة من منخريه، يضايقها، يطاردها، يطلب مُنازَلتها، يلتف حولها برءوسه الأفعوانية التي تنفخ لهبًا. لا تعرف أي الأمْرَين أكثر سوءًا: إذا دافعَت عن نفسها ضاربةً أحد الرءوس، أو إذا حقَنَتْه حقنة تقضي عليه أو تصيبه بالشلل، فعلى الفور سوف ينمو له رأسان جديدان؛ ولكن إذا لم تُدافِع عن نفسها، سيُسمِّمها هذا الوحش بأنفاسه. وحش أسطوري كما يعرفه المرء من الكتب المدرسية، هيدرا في أسطورة هرقل، حيوان قابَلها مؤخرًا في الليالي التي قضَتْها في سجن الشرطة في «ألكسندر بلاتس» عندما كانت قاذفات القنابل تُزمْجِر في الفضاء، بينما كان المُحقِّقون يجلسون في القبو آمِلِين أن تصيب القنابل — فهي تسقط على كل حال — المساجين السياسيين في زنازينهم تحت السقف. هيدرا، لم تكن تريد أن تفكر فيها مرة أخرى، ولكن ها هي أمامها.
بعد أن تحسَّنَت حالَتُها قرَّرَت أن ترفع دعوى ضد صحيفة «تاجيس-شبيجل» حتى تَقضِي على تلك الوشاية التي وصَمَتْها بأنها «شيوعية حمراء»، فهي أصل كل الشرور، الكهف الذي تقبع فيه هيدرا. يقولون لها: الأمريكيون وراء الموضوع، لا فائدة. ولكن الأمريكيين — ترد — يقفون في صف الحقيقة! كم بَكيتُ عندما قام الأمريكيون أخيرًا بتحريرنا! كما أن الصحفي الأمريكي في المؤتمر الصحفي لم يجد فيما فعلته أي مأخذ!
آخ، يا دكتوره! متى تفهمين أن الأمر لا يتعلق بك أنتِ. الموضوع سياسي!
مكتب الصحة يَتباطأ في إجراءات القضية، لا يرد على رسائلها، لا يلتزم بالمواعيد، يرفض التسوية — هكذا ينقضي صيف عام ١٩٥١م.
في المساء، والابنان في الفراش، تُبيِّض الرسالة، ثم تسمع من «محطة القطاع الأمريكي» نشرة الأخبار التي أعقبت موسيقى باخ: مُصادَمات عنيفة قام بها مُشاغِبون من «الشبيبة الألمانية الحرة» في كرويتسبرج ونويكولن. بالأناشيد الحماسية قام المشارِكون فيما يُسمَّى بمهرجان الشبيبة العالمي بمسيرة في القطاعات الغربية. اعتقال ما يزيد عن المائة. تنتبه حواسُّها على الفور، فهي تعرف ماذا يعني ذلك: الانقسام يستشري، وسوف تَتحمَّل هي العواقب. المهرجان العالمي الذي يقام هذه الأيام في القطاع الشرقي هو مهرجان البروباجندا بامتياز، على كِلا الجانِبَين. لم تكد تعير انتباهًا للأمر، فحالتها لا تسمح لها بمتابَعة أحوال العالَم أو المهرجان أو الشباب، أو الرايات الحمراء والقمصان الزرقاء. ولكن هناك مَن يتعاطف مع الشبيبة، يزعمون أنهم مليون تقريبًا، في مدينة الأنقاض المقسمة تَجمَّعوا من أجل السلام والوحدة، ولمنح الدولة الاشتراكية وجهًا شابًّا فَتيًّا.
ثم تأتي الأخبار من المحطة الشرقية: بضعة آلاف من الشُّبان المُسالِمين لبُّوا دعوة السيد كريسمان، رئيس حي كرويتسبرج في برلين الغربية، وعَبَروا — مُقَسَّمِين في عدة مجموعات — حدود القطاع وهم يَتغَنَّون بأناشيد التَّجوُّل، فحاصرَتْهم الشرطة وانهالتْ عليهم بالهراوات وخراطيم المياه، وطرَحتهم أرضًا. اعتقال المئات.
حتى منتصف الليل تظل أذنها ملتصقة بالراديو، ومع ذلك لا تستطيع أن تُحدِّد أي الجانبين يكذب أكثر مِن الآخَر. يَدَّعِي الغرب أن «الشبيبة الألمانية الحرة» قامت بمسيرة بالقمصان الزرقاء وفي مجموعات مُنشِدة الأناشيد الحماسية، مُستفزِّين رجال الشرطة. الشرق: الجهات الحكومية الغربية دَعت المَشارِكين — ومن بينهم «الشبيبة الألمانية الحرة» — لدخول القطاعات الغربية حتى يَطَّلِعوا بأنفسهم على الديمقراطية والرَّخَاء في الغرب، كان ذلك فخًّا من الشرطة. الغرب: لقد استَغَلُّوا الدعوة وقامُوا بمظاهرات حماسية مُستفِزَّة لإدخال الرعب في قلب الشباب الذي يشعر بالانجذاب إلى الغرب، وذلك عبْر ما أطلقَت عليه الجهات في الغرب «الإرهاب الفاشي»، ولكن لماذا يقدم الغرب تلك الصورة المُرعِبة التي تُتيح للشرق أن يستخدمها في دعايته؟
في الأيام التالية تَتجمَّع لديها تفاصيل أكثر. عندما سار الشُّبان عدة مئات من الأمتار في الغرب، رأوا أفراد الشرطة يُحاصرونهم، دون أن يطلب أحد منهم التراجُع، ثم انهالوا عليهم بالهراوات، وفَتحُوا خراطيم المياه التي أطاحت بهم أرضًا، ثم لاحقَتْهم شاحنات، وتَعرَّضوا للتهديد بالمُسدَّسات إلى أن حوصروا في الشوارع الجانبية؛ حيث تَعرَّضوا للضرب المبرح. تم إغلاق خط الرَّجْعَة في وجه الهارِبِين، ثم حاصرهم أفراد الشرطة وواصلوا ضرْبَهم، على مُقدِّمة الرأس ومُؤخِّرتها، وعلى الظَّهر، وفي الوَجْه، وعلى صدر بعض الفتيات. كثيرون دُهسوا بالأقدام على البطن والأعضاء التناسلية. أما الذين تَهاوَوا فلم يكن لهم أن يتوقعوا الرأفة. مَن تمكَّن من الفرار كان بانتظاره بالقرب من الحدود — كان ذلك يعني في كثير من الأحيان عبور الشارع فحسب — بلطجية في ثياب مدنية انهالوا على الشباب بالحجارة والزجاجات والأحماض الكاوية. تم استجواب المئات في أقسام الشرطة، عديدون تَعرَّضوا هناك للضرب عندما لم يُقدِّموا معلومات عن قادتهم ومُموِّليهم.
قال لها الزملاء في المستشفيات فيما بعد: أسوأ إصابات منذ الغارات الجوية أثناء الحرب: من بين عدد الجرحى الذين زادوا عن ٤٠٠ كان على ١٣٢ أن يَظلُّوا في المستشفى لِيتلَقَّوا علاجًا. كسور في العظام، كسور في الجمجمة، إصابات في الكلى والبطن، ما يزيد عن خمسين حالة ارتجاج في المخ. إذا كان الشبان العُزَّل الذين يُؤيِّدون السلام قد عُومِلوا بهذا الشكل، بينما كانت الصحافة الغربية تُهلِّل مُتحدِّثة عن «العقوبة العادلة»، فماذا، إذن، ينتظر طبيبة غاضبة، هي نفسها محل اتهام؟