على المائدة الصغيرة
ما زالت معلوماتي عن «ر» الذي نال البراءة قليلة للغاية. في أيامنا هذه يذهب المرء إلى المكتبات أو يدخل إلى شبكة الإنترنت، وببعض المِرَان يجد ما يريد، وخلال ساعة تتجمع لديه على الورق إجابات أكثر مما طرح من أسئلة. اليوم تنهال المعلومات فوق رأس الإنسان. آنذاك كانت أبواب معظم المصادِر مُوصَدة. واليوم أصبحتْ كل الموضوعات مادة للبحث العلمي، في حين أن الاهتمام بالماضي النازي كان يثير الشكوك في تلك الفترة، وكان على الإنسان أن يَحذَر حتى لا تحوم حوله الشبهات باعتباره «ذراع الشرق الطويل». غير أني لم أجرؤْ على الذهاب إلى برلين الشرقية بأسئلتي عن «ر»، لَم أثق في حُجج «الكتاب البني» البليغة، كما كنتُ أخشى — وبعد أن حذرني بيرمان — من أن أقع في شَرَك جهاز «شتازي». على المرء أن يجمع بشق الأنفس كل جزء صغير من الحقيقة إلى جوار الآخر، وأن يقرأ ما بين سطور منشورات ألمانيا الشرقية.
بعد قضية أوشفيتس كانوا يعتبرون أنفسهم قد فَرَغوا من الموضوع، موضوع قديم، بائِت، يكاد يدخل دائرة التابو مرة أخرى، نادرًا ما تَجرَّأ الصحفيون في الاقتراب من الحالات المثيرة للرأي العام. كان هناك بعض المناضِلين الفرديين، مثل إجشتاين على سبيل المثال، ذلك الطالب المتقدِّم في العمر الذي كنتُ أعرفه معرفة سطحية.
بعد أن اتصلتُ به تليفونيًّا وأخبرتُه برغبتي في زيارته، ذهبتُ إليه في شقته التي تطل على فناء خلفي. لم أكد أخلع المِعطف حتى بادَرني بالسؤال عن سبب مجيئي. إنه لا يوجه مثل هذه الأسئلة على التليفون — أضاف شارحًا — لأنه متأكِّد من أنهم يتَنصَّتون عليه.
سألتُ بخجل: ماذا تعرف؟ ما الأشياء التي جمعتها عن «ر»؟
– فكرة عبقرية. فجأة أصبح الجميع مُهتَمِّين بالموضوع.
لم يعجبني ردُّه، توهَّمْت أني الوحيد الذي يهتم بجمع المعلومات عن القاتل القاضي الذي بُرِّئ. كاد ردُّه يكون إهانة. لقد اصطفيتُ «ر» ليكون ضحيتي. «ر» مِلك لي أنا، وليس لأي أحد آخر.
– كم عدد الذين أبدَوا اهتمامًا بأمر «ر» إذن؟ سألتُه عندما اقتربنا من رفوف مكتبته.
– اتَّصل ثلاثة أو أربعة، ولم يأتِ سوى واحد، مُؤرِّخ يريد أن يؤلِّف كتابًا عن محكمة الشعب العليا.
– وهل أعطيتَه المواد التي جمعتَها؟
– لا، أنا لا أسمح بإعارة المواد خارج المنزل. على المهتمين أن يأتوا إلي، وأن يجلسوا هناك على المائدة الصغيرة.
كنا نقف أمام رفوف تصل حتى السقف وتشغل جدارًا بأكمله، عليها ملفات مكتوب عليها أسماء أشخاص وعناوين موضوعات. أوبرلندر، جايجر، جلوبكه، شبايدل، فرنكل، كيسينجر، هنا كانوا مُجتمِعين، ومُرتَّبِين ترتيبًا أبجديًّا، أشهر الجُناة، النجوم اللامعة بين ما يزيد عن نحو مائتين من الأسماء الأقل شهرة. أصابني الخرَس أمام تلك الشاعرية الكئيبة، شاعرية أبجدية المُجرِمين، وغمَرَني شعور بالإعجاب ﺑ إجشتاين الذي لم يُخْفِ افتخاره بما جمعه.
– لماذا لا تسأل عن راتماير مثلًا، المُدَّعِي العام في محكمة الشعب العليا، الذي شارَك في إصدار ٥٢ حكمًا بالإعدام، والآن يعمل مستشارًا قضائيًّا في محكمة الولاية في بافاريا، وهو مسنود من وزير العدل في ولايته؟ أو عن هوجن، المسئول عن شئون الجيش؟ أو عن إرنست كانتر؟ ما يزيد عن مائة حُكْم بالإعدام، ثم رئيس مجلس القضايا الجنائية السياسية في المحكمة الاتحادية العليا؟ هنا لديك أوسع مجال للاختيار، خلف كل حرف أجمل المفاجآت. لماذا «ر» بالذات؟ على الأقل هناك حفنة من الصحفيين تكتب عنه.
انفعال خفيف في صوته، نبرة تشي باليأس والاستسلام، لم أستطع أن أستشفَّ مدى جِدِّيَّته فيما قاله. الشقة المُطلَّة على فناء خلفي كانت مُعتِمة، المصابيح تنشر ضوءًا ضعيفًا، بدَا إجشتاين لي أشيب الشعر، رغم أني كنتُ أعلم أن رأسه لم يشتعل شيبًا بعد. شرحتُ له سبب اهتمامي ﺑ «ر»، بسبب جروسكورت والحكايات التي تُرافقني منذ الطفولة.
– طيب، طيب يا شاعر! خذ ملف «ر»!
وانحنى وأعطاني الملف، ثم صب لي شايًا.
– كل شيء تجده هنا، كل شيء في متناوَل يدك.
على المائدة الصغيرة الموضوعة في ركن بعيد رُحتُ أقرأ قصاصات الصحف ونسخًا من الأحكام التي أصدرها «ر»، وأخرى من رفض النيابة العامة في ميونيخ رفْعَ دعوى ضد «ر». وسط طوفان المستنَدات غرق سؤالي عن مشاركة «ر» في جرائم القتل. غريب هذا التحمُّس البالغ الذي أبداه القاضي للحكم بالإعدام على القساوسة، ألم يكن ابن قسيس؟ دَوَّنتُ ملاحظاتي، نقلتُ جُملًا وحيثيات، ولم تكد تمض ربع ساعة حتى أصابني إجهاد مُشِل.
كان ذلك كافيًا لي، تَجمَّعتْ لديَّ معلومات وافية. كان إجشتاين يجلس أمامي مائلًا قليلًا إلى مكتبه الضخم، رأيته ممسكًا بالمقص واللاصق وعدة أقلام ملونة، وأمامه كومة من الصحف. تطلعت إلى جبهته العريضة، شحوبه، شعره الأشيب الذي لم يكن أشيب. على هذه الحال تمكن من إقامة أول معرض له بعنوان: «قضاة نازيون بلا عقاب» الذي أقيم عام ١٩٥٩م في مدينة كارلسروه التي كانت وكرًا كبيرًا للقضاة النازيين في المحكمة الاتحادية العليا. وهكذا حقق الشهرة؛ لأن السُّلطات مَنعت إقامة المعرض في برلين، كما أن عميد جامعة برلين الحرة منع الطلبة من جمْع توقيعات لتوجيه الْتِماس مهذَّب للبرلمان لفصل القضاة ووكلاء النيابة الذين شارَكوا في الإرهاب وإصدار أحكام بالإعدام.
سَمِعتُه وهو يتحدث في التليفون باستعجال، راقبْتُه وهو يجمع بسرعة محمومة، يقص، يلصق، يُرتِّب، شعرت بمرارته تَزداد بازدياد المعلومات التي يجمعها، المرارة التي يشعر بها حيال دولة تُوظِّف هؤلاء القتلة، وتُسمِّنُهم بأفضل الرواتب والمعاشات، رأيت إجشتاين في نَشْوَته ويأسه، رأيتُ قدراته وغضبه اللانهائي، وقلتُ لنفسي وسط أرشيف الذنوب هذا، وبعقل صافٍ أدهشني: لا!
كدت أصرخ بأعلى صوتي. لا! إلى هذا الحد كنتُ حاسمًا كي لا أتحول مُنقِّبًا في الجرائم المجمعة للسيد «ر». إذا عملت بدقة أكثر من اللازم — هكذا كنتُ أخشى — ستجلس عشر سنوات هنا، إياك أن تغدو مثل إجشتاين الذي يعتبره الكل مجنونًا بعض الشيء، لا لشيء إلا لأنه لا يُهادِن ولا يتهاون. احصر جهدك في هذا الحكم وحده، في جروسكورت وأصدقائه، ألِّف الكتاب، اضرب ضربتك، ولكن إياك أن تمسي محاربًا لطواحين الهواء، مشاكسًا لطواحين العدالة يُقابَل بالاستهزاء، إياك أن تتحول إلى هرقل قزم، مُنهَك القوى أمام تلك الزرائب هائلة الاتساع، العفنة منذ الأزل.
كان ذلك أيض رفضًا لإجشتاين نفسه الذي صب لي الشاي في لطف، وقدَّم لي النصيحة وتركني أعمل في هدوء. لم أكن أستطيع أن أمضى هكذا ببساطة بعد نصف ساعة وإلا أَهنْتُه. لم أجعله يلاحظ شيئًا مما يعتمل داخلي، واصلتُ القراءة، نقلتُ جُملًا، وشيئًا فشيئًا انزاح الهم والكرب عن صدري؛ لأن سلسلة من التداعيات أدخلَت السرور إلى نفسي: ذنوب – جهنم – الكوميديا الإلهية – دوائر الجحيم في أرشيف إجشتاين وفي «الكتاب البني» – تعريف الجحيم تعريفًا جديدًا – وصف كل العصابة المجتمعة في «كوميديا إلهية» جديدة، وحرقهم مثلما فعل دانتي بسبب آثامهم، إذلالهم بأكثر الأفكار شرًّا – كتاب «كوميديا شيطانية» – أو السُّخرية المُرة: لا عقاب للمجرمين على غرار دانتي، بل إرسال النازيِّين إلى الجنة، وخصومهم إلى جهنم.
كان بإمكاني أن أنهض وأسلم على إجشتاين وأنصرف. لكني خشيتُ أن أترك لديه انطباعًا بالسَّطحِيَّة والرخاوة، فظللتُ ساعة أخرى أسجل ملاحظات لهذه «الكوميديا» التي لا تنتهي.
وأخيرًا تجرَّأت على الانصراف، على الرغم من أن إجشتاين صب لي فنجانًا آخر من الشاي. سألْتُه عما إذا كان هناك ربما مواد أكثر في شرق ألمانيا عن «ر».
– بالتأكيد، ولكن إياك أن تعتقد أنهم سيعطونك شيئًا. إنهم يستخدمون ما لديهم عندما يحتاجونه لشأن سياسي، وعندما يستطيعون توظيفه، ولكن ليس عندما يريد واحد من أمثالنا أن يعرف بعض الحقيقة.
– حتى أنت أيضًا لا تحصل على شيء من هناك؟
– أنا أُفضِّل عدم الاندفاع. عندما يقول الألمان الشرقيون: ما زال فلول النازيِّين يتمتعون بالوجاهة في مناصبهم؛ أي إن جمهورية ألمانيا الاتحادية دولة فاشية، فإنني لا أشاركهم الرأي. في دولة فاشية ما كان سيُسمح لنا بإقامة المَعارض، بل كانوا سيطلقون عليَّ الرصاص من أجل هذا الأرشيف وحده. الوحيد الذي أثق فيه، وهذا شيء أحب أن أردده في فترة حرب فيتنام تحديدًا، هو الأمريكي روبرت كمبنر، أنت تعرفه، المدعي العام في نورنبرج.
زاد احترامي لإجشتاين، وتولَّد لديَّ الشعور بأن عليَّ أن أتضامن مع هذا المكافِح الفرد، رغم أنني لم أكن أريد ذلك على الإطلاق. كنتُ أود تشجيعه، غير أنني لم أُرِد أن أكون ألطف من اللازم، وإلا كان سيسألني: ألا تريد مساعدتي؟
– وما موضوع عملِك الآن؟
– السبب الذي دفع بالمستشار أدناور في ربيع عام ١٩٥١م لإعادة توظيف كل النازِيين السابقين، كلهم تقريبًا، بل وكَفَلَ لكل منهم الحق في الحصول على وظيفة؛ أي إن الأولوية كانت لمن لديه بطاقة عضوية في الحزب النازي، وقبل كل الآخَرين، الديمقراطيين المسيحيين، والاشتراكيين الديمقراطيين بالطبع، وكل الذين لم يرتبطوا بحزب ما. وتعويضًا عن السنوات الست التي فقدوها سُمح لهم — ومن سُمح له بذلك غيرهم؟ — بالحصول على مُستحقَّاتهم بأثر رجعي.
كان ذلك أكثر مما أستطيع تَحمُّله، كان عليَّ أن أغادر بأسرع ما يمكن قَبْو الظلمات الذي يسكن فيه إجشتاين. ادَّعَيْت أنني أخذتُ من وقته الكثير وعَطَّلتُه عن العمل طويلًا، وشكرتُه واعدًا إياه بالمجيء مرة أخرى.
لم أدرك إلا في الخارج، في الشارع، عندما خَفَّ رعبي، معنى ما قاله إجشتاين. في ربيع ١٩٥١م حصل النازيون على عفو شامل، في الوقت نفسه بدءُوا في مُلاحَقة أشخاص من مجموعات المقاوَمة مثل أناليزه جروسكورت، لمجرد الاشتباه في وجود ميول يسارية لديهم، أو إذا عارَض هؤلاء الأشخاص أيديولوجية الدولة المناهضة للشيوعية. أيُّ علاقة تربط بين الأمْرَين؟ هل كان «أ» ذريعة «ب» أم العكس؟ هل يجب عليَّ أن أومن بالمصادَفات؟