قهوة وجاتوه وآباء
لم يَعُد الأصدقاء يذهبون للتمشية معًا. ابنَا المدينة كانَا مُنهمِكَين في الدراسة، لم تُتحْ لهما الفرصة لرؤية بعضهما البعض إلا نادرًا، في مطعم الجامعة مثلًا، أو في الحانات، أو في شقق الطلبة في الدور الأرضي. ولكن عندما يتحدثان، كانَا يواصلان الكلام عن الرأس المقطوع، دون استخدام كلمة رأس أو مقطوع، وكأنهما لا يزالان يسيران بين الحقول في فيردا. حتى عندما جلسَا لتناوُل القهوة وجاتوه التفاح لدى حلواني «كامان» في «كايزردَم».
– أتُرى، ثمانية أسابيع، ولم يَعُد أحد يتذكَّر القاضي النازي.
– قبل نهاية العام نُشرَت مجلة «شبيجل» مقالة عن السيد «ر» وقضاته، ومؤخرًا.
– مع ذلك، الموضوع يتوارى، مثل أي فضيحة.
– في مارس سيصدر الحكم، ثم …
– هه! فَقَط إذا اهتممنا، نحن الطلبة، بالقضية اهتمامًا فعليًّا، باعتبارها نموذجًا، عندئذٍ ربما نصل إلى شيء، لا يكفي أن نقوم بمُظاهرة يتيمة يفرضها الواجب. لا بُدَّ من أن يظل «ر» موضوعًا دائمًا. ولكن منذ أن بدأ زملاؤنا الأعزاء يهتمون بالسياسية اهتمامًا مفرِطًا، ومنذ أن تحوَّلوا إلى «رفاق»، لم يعد بالإمكان الاعتماد عليهم.
لقد ظلَّ طفلُ المدينة طفلَ المدينة، واضحًا، بلا أوهام، دارسًا أسرار النفس. طفل القرية لم يتحوَّل بعدُ إلى ابن حقيقي للمدينة، ما زال مثاليًّا، مدافعًا، حالمًا. في المقهى المكسوة جدرانه إلى ارتفاع متر بالخشب البني الفاتح، ذي المقاعد الوثيرة الحمراء، كان الطفل يفكِّر إذا ما كان سيصبح يومًا طفل مدينة حقيقيًّا، لو كان نشأ هنا مثل الصديق الذي كان يسكن في مُقابِل المقهى تقريبًا، على ناصية «كايزردَم» و«فيتسليبن-بلاتس». في الدور الأرضي مَطعم برليني قديم يقدم فَخذة الخنزير المَشوِيَّة، «فستفالن-كلاوزه»، وفي الطابق الثاني تقعُ الشقة الصغيرة المُطِلَّة على بحيرة ليتسن، والتي تضم مسكن آل جروسكورت مع العيادة.
قال طفل القرية مدَّعيًا: الاحتجاجات والمظاهرَات ليست واجبًا بغيضًا، بل هي مفيدة للمجتمع.
– هه! إن العنف هو الذي يسيطر الآن على كل شيء، والعنف يدمر كل شيء.
– ولكنها مجرَّد أقلية!
كان الهدوء المريح يُخيِّم على المقهى الذي احتفظ بأجواء الخمسينيات، المسيطرة هنا نادلة لطيفة ومَرِحة، هي سيدة الفطائر وفناجين القهوة والمَلل. ليس هذا مكانًا للمُتوَتِّرين، إنه يقع خارج المعارك والمناوشات، واحة سلام في المدينة التي تغلي بالرغبة في مُعاداة الآخَرين. السياسة والشرطة والصحافة تُعادي الطلبة، ومعظم الطلبة يُعادون الأساتذة والسياسة والشرطة والصحافة. أقلية من الطلبة تميل للعنف ضد أغلبية الطلبة المسالِمين، وكِلا التيارين مُتَّحِد ضد أقلية الطلبة غير المُبالِين بالسياسة. الأساتذة الجامعيون ضد الشرطة، والصحفيون ضد الساسة، والعكس صحيح، الأساتذة ضد الأساتذة، الساسة ضد الساسة، وهكذا دواليك، جبهات في كل مكان.
لم يكن مظهر الصَّديقين طَويلَي الشعر يشبه زعيم الطلبة دوتشكه الذي نال رصاصة في الرأس، ولا شبيهًا بأي من الشياطين الآخَرِين، لم يكن عليهما أن يَشعرَا بالخشية من أن يهاجمهمَا المُسنُّون الذين يُحلِّقون في سموات الجاتوه، أو مندوبو المبيعات الذين يَمرُّون بأقلامهم الرصاص على صفوف من الأرقام، أو الأزواج المُتشاجِرين مع زوجاتهم. مع ذلك كان عليهما الحيطة. كانَا يجلسان إلى مائدة في الزاوية، ويتحدثان بصوت خافِت. كانتِ الأجواء المنتشرة في المدينة هيستيرية، البحث عن عداوة، التقارير الصحفية عن الجبهات المُختلِفة تفيض بالسم، ولهذا فإن الاثنين لم يكونَا لِيلفتَا النظر بمفرداتهم السياسية المثيرة.
كان طفل المدينة يرى أن الأقلية تحديدًا هي التي تدمر الأغلبية. إن بضعة عشرات من الناس يُلقون بالأحجار يَكفُون تمامًا لكي يَدْفِن عشرات الآلاف غيرهم آمالهم في التغيير. إن الهَذَيان الذين يُردِّدونَه عن الثورة أمر لا يثير إلا السخرية. منذ أن توفي دوتشكه والفوضى هي سيدة الموقف، وقد كان دوتشكه فوضويًا بما فيه الكفاية. الآن أصبح العنف «موضة»، كل من هب ودب من الطلبة الجدد يريد أن يكافح ضد رجال الشرطة، وأن يقفز فوق الحواجز، وأن ينتصر على الدولة. غدت «المعارضة خارج البرلمان» منقسمة على نفسها، لقد لفظت بالأحرى أنفاسها الأخيرة. وخلال عام أو عامين ستكون قد فقدت كل سحرها.
رغم الكلمات المثيرة الخطيرة ظل الهدوء سائدًا على الموائد الأخرى. هناك بدَتْ كل الحواس مُتوجِّهة إلى الجاتوه والطقس، وكل الشكاوى مُنصبَّة على الذهاب إلى الأطباء وطوابير الانتظار أمام مكاتب البريد. في لحظة هدوء تَردَّد عبْر الغرفة صدى جملة قالتها عجوز لابنها أشيب الشعر، بصوت عالٍ وفي لهجة اتهام: أنت لا تريد بالتأكيد أن تقف وحْدَك أمام قبري بعد موتي!
النظرات الشِّرِّيرة صُوِّبَت الآن إلى العجوز، لا إلينا. ثم تساءل طفل القرية بصوت خافِت:
– أنت على حق، للأسف. ولكن ماذا نفعل حتى نجعل «ر» موضوعًا يحتل صدارة الاهتمام الدائم؟
– نحن الاثنان، لا شيء مُطلقًا.
– على الأقل كانتِ النتيجة أنني استطعْت أن أتحدث مع والدتك عن أبيك، وأن أكتُب حكايتكم.
– طيب. وكم قارئًا يقرأ القصائد؟
– ألفان، ثلاثة آلاف.
– أَتُرى؟ ولن تستطيع أن تبيع من كتابكِ عن أبي أكثر من ذلك. ولكن إذا كتبت عن أشهر مرضاه، عن هيس النازي المجنون في سجن شبانداو، أصدق أصدقاء هتلر، عندئذٍ ستبيع بكل سهولة مائة ألف نسخة أو أكثر.
– هناك طلب دائم على المُجرِمين، والكتابة عن الشر أرخص الفنون. أعرف أن الناس لا تحتفي بالأبطال الصامتين، ولكن ربما يبدءُون في الاهتمام بهم.
– متفائل!
– يا لكَ من متشائم عريق يا أكسل!
– كَلَّا، أنا واقعي يا عزيزي.
كان على أكسل الذهاب إلى طبيب العيون، وأنا لم أعد أستطيع طرد الظنون المُبهَمة: لقد كان والده ثاقِب النظر سياسيًّا، لقد كافح، لكن ذلك لم يُفِدْه في شيء. كان شجاعًا، فعاقبه الجبناء. أنقذ ملاحَقِين من الموت، فدفع بحياته الثمن. كان شريفًا، وهو ما ساقه إلى الجلاد وأثار عليه المُحرِّضِين حتى اليوم. أما والدة أكسل، فمن أجل بضعة كلمات عن السلام ظلَّت طوال عشرين عامًا منبوذة تُعامَل مثلما عُومِلَت الساحرات في عصور محاكم التفتيش. ليس غريبًا إذن أن يكون أكسل مستسلمًا.
كِلانا كان يدرك هذا المنطق، لكننا كُنَّا عاجِزِين عن التحدُّث عنه. بدلًا من ذلك صبَبْنَا جام غضبنا أثناء الخروج من المقهى على آكِلِي الجاتوه، مُطلِقِين تكهناتنا بشأن النسبة المئوية من زُوَّار المقهى المُتقاعِدِين الذين كانوا قبل ثلاثين عامًا يُهلِّلون لهتلر.