الضوء، أو جورينج مرتديًا زي «بابا نويل»
الرجل الثالث في الاتحاد الأوروبي، هربرت ريشتر، ابن أحد الرَّسامِين الفاشِلين، كان يعاني منذ طفولته من الربو. عرف البؤس منذ نعومة أظفاره، لكنه يتعلم من لاوتسي: ابحث عن الخير دومًا داخل الإنسان! درس العمارة، ثم تَعرَّف إلى هاينريش فوجلر، وانتقل إلى برلين، ووصل بمشاريعه المعمارية إلى مكتب هانز بولتسيج الشهير. «كل هذه الخطط الجريئة تخرج من شاب مثلك.» قال له، «عليك بالاستفادة من خيالك الفوَّار.» وقام بالوساطة ليعمل مهندسًا معماريًّا ومستشارًا فنيًّا في شركة «أوفا» للإنتاج السينمائي. قام الشاب بتصميم الديكور لفيلم «دكتور مابوزه»، و«سندريلا»، أفلام قام ببطولتها أستا نيلسن، وفرنر كراوس، وباول فيجنر. وفي فترة التضخم أخْفَق في تأسيس شركة للإنتاج السينمائي، فعمل مهندسًا استشاريًّا لمدينة برلين، في المَعارض ولدى شركة «بيفاج» لتقنيات الضوء، كما قام بتصميم النظام الجديد للأضواء في حديقة الحيوان. الاختراق المهني يحققه عبْر معرض «التغذية» عام ١٩٢٨م، يُوظِّف آنذاك عدة أشخاص لديه، من بينهم هاينريش فوجلر، ويصمم معارض أخرى، ويصنع دمى حديثة مضيئة تقدم أفكارًا جديدة للأوبرات الموسيقية الضوئية: «حلمي القديم هو الضوء، الضوء، الضوء.» واحد كهذا يرتكبُ الخيانة العظمى؟
في عام ١٩٣٣م تجد الشركة لديه منشورات ماركسية، ولكن تهمة الاتصال بالشيوعيين لا يتم إثباتها. يشارك ريشتر في عام تولِّي هتلر السلطة في معرض بعنوان: «الشعب الألماني، العمل الألماني»، ويظل يعمل مصمِّمًا لقطاعي الصناعة والحرف اليدوية، وفي عام الدورة الأوليمبية يشارك في مَعارض عن ألمانيا وعن الصيد. يسأله أحد شركائه في العمل إذا كان يريد تنظيم الحفل الذي يقيمه هرمان جورينج لتوزيع الهدايا على الأطفال بمناسبة عيد ميلاد المسيح. يتولى ريشتر إذن التصميم المعماري للحفل، وينظم البرنامج، ويحدِّد الهدايا التي يحصل على معظمها مجانًا نظرًا لعلاقاته الجيدة مع قطاعي الصناعة والحرف اليدوية. الكل يتبرع عن طيب خاطر لرئيس الوزراء ومارشال الرايخ المحبوب. لمدة سبع سنوات، حتى عام ١٩٤٢م، يقدم ريشتر مساعدته لجورينج حتى يظهر في صورة بابا نويل الطيب في أكمل صورة. عام ١٩٣٩م يقوم بالتصميم الهندسي والفني لعيد «الصيد الدولي» الذي نُظم في مزرعة جورينج في كارينهال. واحد كهذا تُرفع ضده قضية بتهمة تقديم التسهيلات للعدو؟
أهم من الدعوات التي كان يتلقاها إلى عيد ميلاد جورينج، وأهم من مَعارض الصيد والفن (الحيوانات البرية في صور) هي الصداقة التي كانت تربطه بمساعد جورينج الشخصي، القائد الأعلى لقوات الصاعقة النازية جورنيرت. كان رئيس الخَبَّازِين في الرايخ، جروسر، أحد أصدقائه المقرَّبِين، وهكذا ارتقى هربرت ريشتر السُّلَّم، وأضحى وسيطًا بين قطاع الحرف اليدوية في ألمانيا وآل جورينج. كان وسيطًا و«رجل لوبي» ناجحًا، استطاع خلال أيام قليلة أن يحث جورينج على قبول لقَب الرئيس الفخري للحرف الألمانية، وهو ما ضمن للحرف اليدوية في ألمانيا استقلالية ما أمام جبهة العمال الألمان. يُكافئ ريشتر على صنيعه ويحصل على النيشان الفخري الذهبي. رءوساء الحرف يقدمون الرشاوى لجورنيرت، مساعد جورينج الشخصي، ويقوم ريشتر بتنظيم ذلك. في الشرق الذي تم غزوه تنشأ شركات للأخشاب يؤسِّسها مُمثِّلو الحرف، ومصلحة التخطيط، يقوم ريشتر بالوساطة ويحصل على مكافآت. واحد مثل هذا يساعد اليهود على الاختباء ويَمونُهم بالمواد الغذائية؟
في كافيتريا مصلحة التخطيط التابعة لقطاع الحرف اليدوية يتم بيع بضائع فاخِرة لا تصل إليها يد في تلك الفترة، من الواضح أنها من هولندا، زبدة وكاكو، ثمن الكيلو ١١٦ ماركًا، وكيلو الجبن مقابل ٦٦ ماركًا. ريشتر أيضًا يَتسوَّق هنا، ويعطي أصدقاءه في بعض الأحيان من هذا الشيء أو ذاك. الزبد عملة نفيسة في السوق السوداء. واحد كهذا يصبح أحد مؤسِّسي الاتحاد الأوروبي ويحصل على الاسم المستعار «ميلر»؟
بعد مرور ثلاث سنوات على اندلاع الحرب يقوم بتجهيز معرض للمرة الأخيرة، «زهور الصيف على برج البث الإذاعي»، بعد ذلك لا يكون هناك مجال للبناء، بل للهدم والأنقاض. في صيف ١٩٤٢م أوكلت رابطة الحرف اليدوية هربرت ريشتر لكي يجري مُفاوَضات مع المصالح الحكومية لإزالة آثار الدمار الذي ألحقَتْه القنابل، في صيف ١٩٤٣م يتم توظيفه. يسافر عبْر ربوع الرايخ، يُقدِّم الاقتراحات الخاصة بإزالة الانقاض، ويُنظِّم أماكن لمَبيت الحِرفِيِّين القادِمِين من خارج المنطقة وسُبل تقديم الطعام لهم. غير أن نقل الركام والأنقاض يُصاب بالشلل من جَرَّاء نقص القوى العاملة والسيارات والوقود. يقوم ريشتر بالوساطة لحث المسئولين الأنانيين في النقابات الحرفية المحلية على تقديم يد العون. وواحد كهذا يطبع في شقته منشورات؟ ويتناقش مع الأصدقاء، بل ومع العمال الأجانب، عن إسقاط النازيين؟
في ملخص حياته الذي ألفه في الحبس، يتحدث ريشتر عن حبين كبيرين لم يقدر لهما السعادة، وذلك قبل أن يتزوج عام ١٩٣٩م بماريا كلوتس. ويشكو من «الحرب التعيسة» وشقته التي أصابتها إحدى القنابل ودمَّرَتها عام ١٩٤٠م. يرزق بطفل، وتنتقل زوجته مع الابن بسبب القنابل إلى بيت صيفي على بحيرة شارموتسه، بينما واصل هو رحلاته عبْر ربوع الرايخ كي يسجل أضرار القنابل.
تربط الصداقة بينه وبين رينتش ابتداءً من عام ١٩٣٧م، ثم بدءًا من عام ١٩٤٠م مع جروسكورت وهافَمان. لم يتحدث أمام الجستابو عن أي من الأصدقاء بمثل هذا الود والحب كما تحدَّث عن جروسكورت: «يتمتع د. جروسكورت بقدرات ذهنية عالية جدًّا. إنني أعتبره واحدًا من أهم أطباء المستقبَل. إلى ذلك فإن د. «ج» رجل اجتماعي لطيف المعشر ومُتعدِّد الاهتمامات إلى أقصى حد، رجل يقف بكِلتَا قدميه على أرض الحياة، ويشارك مشاركة كبيرة في كافة الاهتمامات الحيوية لشعبنا. ولمكانته المهنية الممتازة تُتاح له فرصة الاختلاط بكافة طبقات الشعب، وبذلك أصبح بمقدوره أن يطلع على حياة أسمى الطبقات وأدناها. إن الدكتور جروسكورت حريص، إنسانًا وطبيبًا، على تقديم يد العون كلما كان هناك احتياج إلى ذلك، وكلما استطاع إلى ذلك سبيلًا. من هذا المنظور أرى جهوده التي قدمها لليهودِيَّيْن شفيفن وميخائيلوفيتش كتعبير عن طيبة قلبه، ولا أعتقد أنه كان يريد الوصول إلى هدف سياسي من وراء ذلك. إنني أعرف أن د. جروسكورت قد عالَج مرضى مُعوِزين ولم يطلب منهم نقودًا في يوم من الأيام. كما أنه قدم لهؤلاء المرضى أدوية مجانية. إن د. «ج» إنسان مثالي بالفعل، وصفاته الاجتماعية هي بالفعل نموذجية.»