كم نوعًا من السُّم تَبثُّه الأفعى؟
بصفتها طبيبة بسيطة، هذا ما تُدرِكه أناليزه جروسكورت أخيرًا، فهي كالضائعة بدون سَنَد أو دعْم في مواجَهة رجال القانون المعادِين لها، أو في المصالح الحكومية التي ترقد فيها الأفعى. يبعث المحامي الأمل في نفسها، قد يخطئ القاضي، وقد تُخطئ إحدى المَحاكم، وقد يكون القضاة في المحكمة الأعلى درجة ليسوا مُشبَّعِين بالأحكام المسبقة إلى هذه الدرجة، إذن، فلنبدأ من جديد أمام محكمة العمل في الولاية، وليكن الاستئناف في نوفمبر مباشرة.
بعد ذلك مباشَرة يمر عليها اثنان من أفضل أصدقائها، هي وهو طبيبان، جاران يسكنان في «ليندن-أليه»، طوال خمسة أعوام كانت تبث هَمَّها لديهما، أبناؤها يلعبون مع أطفالهما؛ يقفان الآن في المَمَر، يتنحنحان ثم يقولان: إذا لم تبتعدِي عن الشيوعيين خلال ٢٤ ساعة، سيتحتم علينا أن نقطع كل الاتصالات بك، كلها. ويلتزمان بما قالَا.
إذا قالت: إنها لسنوات طويلة بذلَت الرخيص والغالي في خدمة مكتب الصحة بالقطاع البريطاني، هل تفيدها هذه الحجة في شيء؟ هل يفيدها في شيء أن تسأل عن براهين تثبت أن الاستفتاء الشعبي كان بالفعل حملة شيوعية أو هجومًا على الدستور ونظام الدولة؟ هل يفيد في شيء إحصاء عدد الوزراء والمسيحيين والضباط السابِقِين والديمقراطيين الاشتراكيين والشيوعيين والمناهِضِين للشيوعية الذين عارضوا — مثلهم في ذلك مثل ملايين الألمان — إعادة تسليح البلاد؟ لماذا لا يسمحون لأرملة مناضِل من مناضِلي المقاوَمة أن تتبنَّى هذا الرأي؟ إذا كان رئيس المحكمة الدستورية نفسه يؤكد أن عشرين محكمة في ثلاث ولايات ألمانية اعتبرت قرار منع الاستفتاء الشعبي مخالفًا للقانون؟ وكيف لها أن تمنع صحافة الغرب من أن تلعنها وتَسبُّها، وأن تنهال عليها صحافة الشرق بالمديح، طالما أنهم في الغرب لا يمدحون إلا من يلعنه الشرق؟
نقطة. تحمل المصاريف. تحمل العواقب. كم رأسًا للأفعى؟ بالرغم من أن السيدة جروسكورت لم تفصل رأسًا من رءوسها فإن رءوسًا جديدة تنمو، لا لشيء إلا لأنها لم تستسلم. هذا شيء جديد، هذه المشكلة لم يتعرض لها هرقل القديم.
بعد أسبوع: وزير الشئون الاجتماعية يرفض الشكوى التي تعترض فيها على إلغاء الاعتراف بها ضحيةً من ضحايا النظام النازي. ليس لمقاومتها أية قيمة، ولا مقاومة جيورج، لن يتم تعويضها لأنها شيوعية.
ثم تلتفُّ الأفعى على رقبتها مرةً ثانية: بعد خسارة القضية بسبعة أيام تطالب محكمة العمل في الولاية بالمصاريف، ٨٤١,٨٥ ماركًا ألمانيًّا، ولا تنتظر المحكمة كثيرًا، حجز إجباري.
تخوض المعارك في ثلاث جبهات في وقت واحد، يجب على المحامي أولًا أن يشرح أوضاع آل جروسكورت المالية أمام قسم التحصيل في محكمة العمل بالولاية. تدر العيادة الصغيرة ما يكفي بالكاد لتغطية التكاليف. كطبيبة في المصلحة الحكومية كانت تكسب ٧٨٠ ماركًا، أما الآن فإن راتبها من إذاعة برلين لا يتعدَّى ما يعادل ٢٥٠ ماركًا. إنها لذلك لا تدفع ضريبة دخل. وما زالت تحصل على ١٣٦ ماركًا معاشًا للأطفال اليتامى، ولكنها تخشى أن يمنعوا عنها قريبًا هذا المعاش أيضًا. ديونها تتراكَم لدى المحامين. فلتعرض إذن على المحكمة، وحتى يتحسن وضعها المالي، أن تدفع ٢٠ ماركًا قسطًا شهريًّا.
لا ترضى الأفعى بمثل هذه المبالغ؛ تبدأ إجراءات الحجز عليها، وذات يوم يرن فريدريش فيزل، الموظف المختص بالحجز في المحكمة، جرس الباب في شقتها ﺑ «ليندن-أليه». تقول الطبيبة: لكني مُستعِدَّة للسداد. يلقي نظرات حوله، ويشير إلى سجادتين كبيرتين وبساط في الممر. تقول: ورثتهما عن والدي، لكنه يلصق ختم الرهن. تضع قدمها فوقها، تعترض، ثم تستسلم أمام قُوَّته. يأمر بلف السجاد وأخذه.
لا تعرف أناليزه جروسكورت أي رأس من رءوس الأفعى يجب محاربته أولًا، ترفض كل شكل من أشكال العنف، لا تريد غير العيش في سلام، السلام الصغير مع المصالح الحكومية، والسلام الكبير في ألمانيا، لا تريد إلا الحرية المنصوص عليها في الدستور، لا تريد أن تظل ملاحَقة من نازِيِّين أو أشباه نازِيِّين أو رجال قانون متوحِّشِين.
أهم شيء هو التعويض المُلغَى. يقدم المحامي دعوى بها حيثيات تفصيلية للمحكمة الإدارية. يشرح بالتفصيل الأخطاء الإجرائية التي وقع فيها وزير الشئون الاجتماعية، ويوضِّح للموظَّفِين الجهلة أن من حق السيدة جروسكورت أن تحصل على تعويض، ليس فقط باعتبارها أرملة مُلاحَق، بل لأنها هي نفسها أيضًا مُلاحَقة معترف بها رسميًّا.
وفيما كانت مجبرة على مصارعة الأفعى كل يوم، كان الحلفاء يخوضون صراعًا حول الإذاعة في «مازورين-أليه». كانت الإذاعة الألمانية الشرقية في القطاع البريطاني مثار نزاع منذ سنوات بين كافة أشكال البروباجندا، لا يمكن أن يستمر الوضع كذلك. في مايو يهدم الفرنسيون عمود البث، في يونيو يحاصر البريطانيون دار الإذاعة مُدَّعِين أن الناس يتم اختطافهم على الرصيف أمام الإذاعة. يمنعون أيضًا العامِلين العديدين الذين يسكنون في الغرب. في تلك الأثناء راح الشيوعيون يُشيِّدون الإذاعة البرلينية في الشطر الشرقي. وينبغي على أناليزه أن تتبعهم إذا أرادت أن تحتفظ بالمال اللازم لبقائها على قيد الحياة. لن يعين أحد في الغرب ساحرة شريرة مثلها. بدلًا من أن تسير خمس دقائق على قدميها يتحتم عليها الآن ثلاث مرات في الأسبوع أن تقضي ساعة ونصف الساعة في الطريق في الصباح الباكر وفي الظهيرة، كي تظل تعالج مرضاها في الإذاعة من الشرق والغرب.
الغضب يغلي في نفسها: الرابطة النازية للنساء! الرابطة التي انضممتُ إليها تمويهًا! بقرار من منظمة الاتحاد الأوروبي، ولتوفير حماية أفضل لها! حتى لا يشك هيس ورفاقه الأشرار في جيورج! الرابطة التي لم تُمارِسي فيها نشاطًا في يوم من الأيام. الآن يصمك هؤلاء النازيون بالمرأة النازية! لأن الذين سبحوا مع التيار لا يتصورون وجود مُعارِضين للنازية، ولا يتخيلون ساعة واحدة من المقاوَمة! في البداية شيوعية، والآن نازية! ألا يستطيعون أن يُدرِكوا أنكِ لستِ سوى أناليزه جروسكورت؟
تبرهن على أنها أستاذة في التحكم في الذات: مُهلة حتى ٢٣ من أغسطس. كيف تثبت خلال أربعة أسابيع من صيف عام ١٩٥٢م أنها لم تكن امرأة نازية؟
روبرت شاهد، روبرت يستطيع أن يقسم على أن ذلك كله كان تمويهًا. ولكن من الصعب الاتصال بروبرت، إنه رجل مهم، أما سكرتيرة روبرت في جامعة هومبولت فليس من صلاحياتها أن تعطي السيدة جروسكورت — وهي البرلينية الغربية — أية معلومات. تُظهِر البطاقة التي تثبت أنها من ضحايا الفاشية وتشرح مأزقها، لكنها لا تعرف ما إذا كان موجودًا خلال الإجازة الصيفية أم أنه في الخارج، أم في دورة تدريبية، ومتى يمكن مقابلته. زوجته أيضًا لا تستطيع أن تقدم المساعدة، ربما يغازل روبرت الآن امرأة أخرى على أحد شواطئ بحر البلطيق.
آخِر أمل هي جريته رينتش، أرملة باول التي تعمل مساعِدة طبيبة أسنان في حي فيلمرزدورف، الوحيدة من محيط المجموعة التي ما زالت أناليزه تستطيع التحدث معها كصديقة. إنها مُستعِدَّة بالطبع لأن تقسم على أن الطبيبة لم تكن يومًا نازية، ولكنها لا تعرف شيئًا عن موضوع التمويه. كما أنها عضو في الحزب الاشتراكي الموحَّد، ولهذا فإن شهادتها أمام المحكمة لا قيمة لها، ليس في هذه الأوقات الصعبة، بل إن القضاة سوف يستخدمونها ليلحقوا الضرر بها.
تقول جريته: كَفَى، أنت تُهلكِين نفسك، انضمي إلى الحزب، ودَعِي الحزب يكافح نيابةً عنك!
– أريد أن أقرر بنفسي القرار الصحيح. وجيورج يقول لي: ما الخطوة الصحيحة؟ إني أدفع الظلم بعيدًا عني فحسب، تمامًا كما فعلنا قبل عشرة أعوام.
– لكنهم سيتركونك حطامًا، أنت منهكة تمامًا، المائة قضية التي رفعتيها، عملك، أطفالك، هذا أكثر مما تستطيعين، لن تقدري على كل ذلك.
– سأقدر، بدون الحزب أيضًا.
العدالة! ستبكي الأفعى تعاطفًا! الحس الإنساني السليم! سيضحك التنين بكل رءوسه التسعة أو التسعة والتسعين لدى سماعه هذه الكلمات. لم تكد تمر ثلاثة أسابيع حتى يبخ رأس الأفعى لدى وزير الشئون الاجتماعية بَخة سم جديدة في اتجاه «ليندن-أليه».
ماذا يتبقَّى لها — إذا لم تكن تريد أن تقع أسيرة الجنون الذي وقع فيه كولهاز بطل كلايست — إلا أن ترفع دعوى جديدة أمام المحكمة الإدارية للاعتراض على أكاذيب المصالح الحكومية، وإنكار المقاومة، للاعتراض على التفكير القبَلي والفقر المهين؟
عندئذٍ تدرك أيضًا أنها لن تذهب إلى الشرق، وتحديدًا بعد انتفاضة السابع عشر من يونيو. كما أنها لن تفعل ذلك مطلقًا استجابةً لأوامر أفعى الشئون الاجتماعية.
هل ما زال أحد يتذكر، هكذا تسأل نفسها، كيف بدأت جريمتي؟ أني استندت إلى مواد الدستور؟ وأن الآخرين استندوا إلى قانون نازي؟