سراب على «جبل الشيطان»
سقط الثلج في الليل، اثنان أو ثلاثة سنتيمترات، آخر ثلوج الشتاء الطويل. إذا ارتقى المرء «تويفلسبرج»، أو جبل الشيطان، في الطقس البارد بحق فإنه يرى مناظر رائعة في تنوُّعِها، كما يستطيع أن يمد بصره إلى أبعد نقطة ممكنة عبْر السور والحدود. مزاج كاترين رائق، ربما لأنها قررت أن تسافر بدوني إلى المكسيك، ربما تُسعِدها الرحلة كفيلم روائي مليء بالإثارة والتناقضات. كانت تحمل الكاميرا، وأثناء صعودِنَا إحدى هضبتي الأنقاض المنخفضة، أمسكتْ بيدي.
بمجرَّد وصولنا إلى الطريق الأملس الذي يحاذي ذرى أشجار غابة «جرونه»، أحسَسْنا بالهواء أنقى، ومع كل خطوة كانت الصورة الغائمة للمدينة البعيدة تكتسي معالم أكثر وضوحًا وتجسدًا. أسطح المنازل، أبراج الكنائس، العمارات السكنية العالية، مداخن، أوعية الغاز، الشريط الضيق والبعيد بُعدًا لانهائيًّا الذي تحيط به الحقول المتاخمة للمدينة التي تتناثر فوقها الثلوج تحت سماء شتوية مضيئة، كل ذلك بدَا لي قريبًا وبعيدًا في آنٍ، دانيًا ونائيًا، لدرجة أني — بعد أن كاد الرعب يسيطر عليَّ أمام هذا المنظر المألوف — قطعتُ حكايتي الساخطة عن قضاة أناليزه جروسكورت. النظرة من القطاع الغربي في اتجاه الغرب كانت تتغلغل بعيدًا في القطاع الشرقي، قلب المدينة، وفي الضباب البعيد بجانب عمود النصر يلمح المرء بُرج المدينة الجديد.
امتدَّت برلين أمامنا كالسراب، تبتعد عنا كلَّما ارتقينا الجبل واقتربنا منها. صورة بانورامية يعكسها الهواء، يكاد يبلغ اتساعها ٣٦٠ درجة، لم تكن تظهر أي شيء مما كنَّا نسميه «حياتنا»، لا شيء، لا مَسكَننا أو دراستنا أو تَمرُّدنا أو صَعلكَتنا. وكأننا غير موجودين في هذه الواحة في قلب صحراء غابات الصنوبر. لا قضاة، لا رجال سياسة، لا موظفين، ولا متقاعدين، ولا كل تلك الأشكال الفظة. إننا نتساوى جميعًا — هكذا قالت الصورة — تحت الأسطح وأمام برج اللاسلكي والمركز الأوروبي الكنيسة المبنية بالطوب الأحمر. بَدت المدينة بالأسفل حيادية تمامًا مثل واجهات بناياتها، رحبة ومتسعة، وكثيرة الإمكانات. المستقبل، العقل، الحجج الأفضل، والحق والخير والجمال، كل ما فكَّرتُ فيه آنذاك كان في صفِّنا، وكان يتناسب مع برلين المجنونة المشعثة المنقسمة. أفكارنا، هكذا تَوهَّمت، ستنقذ برلين من التحجُّر والتَّعفُّن. وهكذا استيقظ فيَّ شعور جديد للمرة الأولى خلال ستِ سنوات: إني أحبها، هذه المدينة الملعونة!
وفي اللحظة التي أردتُ فيها أن أنطق بهذه الفكرة الرهيبة، باحثًا عن كلمات مناسبة، سألتني كاترين: ألم تمدهم أيضًا بالذخيرة؟
لم أفهم على الفور أنها تعني أناليزه جروسكورت.
– بالطبع فعَلَت، غير أن ذلك لا يهم كثيرًا؛ لأن هؤلاء الموظفين والقضاة يقلبون كل كلمة تقولها ليستخدموها ضدها، بالإضافة إلى ذلك فإنها لم تمد الحكومة البرلينية بذخيرة أكثر مما نفعل نحن اليوم عندما نحتج أو نعترض. الفارق هو: كانت الفترة أصعب، وكانت وحدها. بالطبع كانت تتعاطف مع ألمانيا الشرقية، ولكن على نحو لائق إلى أقصى حد.
– أقصد: هل ارتكبَتْ خطأ من وجهة نظرك؟
صوَّبت كاترين إليَّ نظرة مُستَريبة.
– نعم، هذا ما تَدَّعيه دعايات لجنة جروسكورت، أعرف، ولكن الدعايات الغربية استخدمتِ الأسلوب نفسه، انحياز إلى جانب واحد، أبيض وأسود، إنها تنضح بالشماتة والكراهية. كِلا الجانبين كان يكذب، في الشرق أكثر من الغرب. بالإضافة إلى ذلك كانت المساعدة القانونية المحددة بالنسبة لها أهم من لغة الكتيبات. عندما أقول: لم تفعل تقريبًا شيئًا خاطئًا، فإني أفكر في ترشيحها لنفسها لمجلس النواب البرليني، لم أحكِ لك ذلك من قبل، في ديسمبر ١٩٥٤م، على قائمة الحزب الاشتراكي المُوحَّد، وهي لم تكن عضوًا فيه، في مكان في ذيل القائمة باعتبارها ضحيةً للفاشية. لم يكن هذا تصرفًا جميلًا، ولا سيَّما بعد عام ونصف من أحداث السابع عشر من يونيو. كانت تريد — هذا ما تقوله — أن تقوم بعمل رمزي فحسب، فلم يكن أحد يَتوقَّع انتخابها، كانت تريد لَفْت الأنظار إلى وجود ضحايا الفاشية، وأن تبعث بإشارة مناهضة للنازيين في الحزبين الديمقراطي المسيحي والحزب الليبرالي. إلى ذلك فإن برنامج الاتحاد الاشتراكي في الغرب كان يخلو من الأهداف المُعادية للدستور، كما أنها لم تُلقِ خطابًا واحدًا أمام هذا الحزب. عليكِ أن تتفهمي ذلك. إن من يكون سنوات طويلة ضحية لما يسمى برابطة الكفاح ضد اللاإنسانية، وهو أمر عُرف بعد ذلك بسنوات، مَن يتلقى المكالَمات الإرهابية والسباب والأكاذيب المتعمدة.
قالت كاترين: خلاص، خلاص!
الجزء الأخير من الطريق مائل، والجليد قاسٍ أمْلَس. انزلقَت قدَمانا ولم نستطع مواصلة السير إلى أعلى إلا بخطوات صغيرة عرضية فوق المنحدر. عندما وصَلْنا إلى القمة المستديرة، أرسلنا البصر إلى القمة الأخرى لجبل الشيطان، حيث ما زال الركام مكومًا. الرياح ضعيفة والبرد محتمل. كنا وحْدَنا تقريبًا على القمة؛ بالنسبة للمتزلِّجِين كان الجليد قليلًا، وبالنسبة لهواة الطائرات الورقية كانت الرياح ضعيفة، وبالنسبة للمتجوِّلِين كان الطريق زلقًا.
قلتُ لها: إن صراعَ الحرب الباردة كله صراع لغوي أيضًا. لم يقدم لها أحد لغةً تناسب أفكارها ومعتقداتها بعض الشيء إلا في الشرق. لكنهم استخدموها، ومنحوها الأوسمة. أما الغرب فكان مشغولًا بكراهيته للشرق إلى حد أن أناليزه لم تسمع هنا سوى لغة حربية. ولهذا هاجر أشخاص مثلها بالعشرات إلى ألمانيا الديمقراطية أو انضموا إلى حزب مُناسِب من أحزاب الغرب، لكن أغلبهم كان يخرج من الحزب مُحبطًا بعد عدة سنوات، لقد قاومت هذا الإغراء أيضًا، ولهذا تحديدًا راح القضاة يتجاذبونها على مقصلة مواد القانون.
صدرت عنِّي هذه الجملة بتلقائية، وكنتُ فخورًا بها، يجب تسجيلها على الفور. غير أن كاترين واصلت إلقاء الأسئلة دون تأثر: أوسمة؟ ألم يكن باستطاعتها أن تفرضها؟ والحجة: أنا على الحياد، وهذا وسام من الاتحاد الاشتراكي؛ أو: أنا برلينية غربية.
– قالتْ إنها كانت تجد هذه الأوسمة فظيعة، غير أنها نظرَت إلى كِلا الوسامين على أنهما اعتراف بالمقاوَمة التي أبداها جيورج. أعتقد أننا لا نلتَفِت على نحو كافٍ إلى العداء الذي كان مسيطرًا على العلاقة بين الشرق والغرب آنذاك. من ناحية هناك ممثلو الحكومة البرلينية الغربية الذين أهانوها أمام المحكمة ناعِتِين إياها بالطبيبة التي تمسك بحقنة سموم، مُتهكِّمِين من مقاوَمة النازيين، ومن الناحية الأخرى يأتيها بعض الاحترام، هناك يعتبرونها محبة للسلام. هل عليها في هذا الوضع أن ترفض مثل هذا الوسام وتُغضِب القلائل الذين يقفون إلى جوارها ويُحْيُون ذكرى زوجها؟ إنَّ فَقْد الدَّعم والتعاطف من جانب الأصدقاء كان يثير مخاوفها أكثر من إمداد غرمائها بذخيرة جديدة. كما أنها حصَلَت على بعض المال الذي كانت آنذاك في أمسِّ الحاجة إليه، لكنها لم تكن فاسدة، أنا مُتأكِّد من ذلك، في هذه النقطة أيضًا. لم تكن شخصيًّا فخورة إلا بميدالية «كلارا تستكين»؛ لأنها لم تكن تُمنح إلا للنساء، النساء العاملات المثاليات الجسورات. ولماذا كان يتحتم عليها أن ترفض تكريمًا مثل هذا، إذا كان قد سُمح في الوقت نفسه، وابتداءً من عام ١٩٥٧م، بحمل أوسمة القَتَلة التي وزعها النازيون؟
راحت كاترين تضبط كاميرتها، ازدادت ألوان السماء وضوحًا. اكتسَتِ السحب الفاتحة لونًا أحمر خفيفًا، أما الغمام الداكن في الشمال الشرقي الذي كان يعد بهطول ثلوج جديدة فقد أكسبَتْه الشمس المنحدرة لونًا بنفسجيًّا. زرقة السماء أيضًا اكتسبَت لونًا أغمق، بينما راح اللون الأحمر المشبع يتنامى في الجانب الذي سطعَتْ فيه الشمس. كانت لعبة السماء مع الألوان تَتغيَّر وتتبدل في كل دقيقة، في كل ثانية. لم أحسد الرَّسَّامين أو المُصوِّرين على عملهم عندما يُخلِّدون أكثر هذه اللحظات بهاءً. انشغلتْ كاترين بتبديل العدسات والمرشحات. لم يكن مسموحًا لي أن أزعجها بأي ملاحَظة. تصوير الطبيعة، هكذا فكَّرت، أفضل من دراسة علم الاجتماع.
سمعتهُا تلعن، ثم استسلمت.
– الاستاد الأوليمبي، أردت أن أُصوِّره وفوقه السماء الصاخبة بالألوان، قالت: ولكننا بعيدون للغاية.
أخَذْنا نهبط مُتشبِّثين ببعض الشجيرات على المنحدَر إلى أن وصلنا إلى طريق يخترق الغابة. تساءلتْ كاترين:
– ألم تكن السيدة جروسكورت في الحقيقة غير سياسية؟
– هُراء! نعم، لقد نشأتْ في عائلة من كبار البورجوازيين، رجال صناعة، وربما ظلَّت غير سياسية لو كانت عاشَتْ في أزمنة أقل خطورة. لقد سَيَّسَها النازيون، آنذاك، وعلى وجه الخصوص بعد الحرب: أن تواصل العمل انطلاقًا من مبادئ زوجها، لم تكن تريد أكثر من ذلك أبدًا. ولكن عندما تَرَين أن الموظفين النازيين هم الذين يشغلون الوظائف، أن جنرالات النازيين قد عادوا ليُصْدِروا الأوامر للشُّبَّان، عندما تتقابل جمعيات «سلاح الإس إس» النازية وتحتفل، أو عندما تُكرِّم الحكومة الفِرَق الوطنية التي تَتحرِق شوقًا إلى غزو بولندا أو تشكوسلوفاكيا، والأفضل أن يحدث ذلك غدًا، بينما تمنع اجتماع المُلاحَقين من النظام النازي علنًا.
– أعرف، ولكن هذا كله أخلاقي فقط.
– فقط، تقولين: فقط؟ منذ متى والأخلاق ليست سياسة؟ هل علمك أساتذتك في الاجتماع ذلك؟
وعلى الفور اشتبَكْنَا في نزاع لا معنى له حول السلوك السياسي المثالي، وحول العبارات المبتذَلة التي شاعت أواخر الستينيات. ولِحُسن الحظ ليس عليَّ أن أكتبها في اعترافي.