الإضرار بالحياة، الإضرار بالحرية
البقية تأتي: لا تَتخلَّى الطبيبة جروسكورت عن مغامَرة البحث عن القانون في دولة
القانون.
أُعيدت صياغة قوانين التعويض، تَختفِي تعبيرات مثل «ضحايا الفاشية»،
و«مُلاحَق سياسيًّا وعنصريًّا»، والآن فإن «القانون الاتحادي لتعويض ضحايا الملاحَقة
النازية» هو الذي يُحدِّد الضرر الذي أصاب الناس في حياتهم وحريتهم. فلتُقدِّم إذن
مع محامية شابَّة نشيطة طلبًا جديدًا في خريف ١٩٥٤م، يهدف إلى إعادة الاعتبار إلى جيورج
وإعادة
الاعتبار لكرامتها، مُصِرةً على الكلمة القديمة «كرامة».
عليها أن تُثبِت كيف كان الوضع الاقتصادي لجيورج خلال السنوات الأخيرة قبل موته،
وأن تتحرى عن
دخله طبيبًا في موآبيت وأستاذًا في الجامعة وطبيبًا ذا عيادة خاصة في مستشفى «لاندهاوس».
عليها أن
تبحث عن زملاء جيورج القُدامى كي يُحرِّروا لها شهادات عن نشاطه المِهَني ويَحسِبوا دخْله.
يطلبون
الإقرار الضريبي للأعوام من ١٩٣٩م حتى ١٩٤٤م. أدلة تثبت أن موته له علاقة سببية مع الملاحَقة
التي
تعرَّض لها. الحكم بالإعدام لم يَعُد موجودًا. يحمل روبرت آلة تصويره إلى غرفة المعيشة
في
«ستالين-أليه»، ويضع الحكم الصادِر بحقه على البساط، ويقوم بتصويره. عليها أن تُقدِّم
إقرارًا
يعادل القسم عن الاعتقال والتفتيش، وما أتلفه الجستابو. لا يعرف مُوظَّفو المَصالح الحكومية
شيئًا
عن المقاوَمة، لقد فهمتُ ذلك عبْر السنين، إذن، تُرفِق كتابًا من الغرب، «التمرد الهادئ» للكاتب فايسنبورن، وفيه يحتفى المؤلِّف بالاتحاد الأوروبي ودور
جيورج فيه. لا طلب بدون عقد زواج وشهادة ميلاد الأطفال وشهادة وفاة. عليها توضيح مقدار
الدخل
وإيجار مسكنها. إضافةً إلى الأضرار التي أصابت حياة زوجها يمكنها أن تُطالِب بتعويض عن
الأضرار
التي لحقت بِحرِّيتها، وبأملاكها وثرواتها، وتَقدُّمها المِهَني. مِسك الختام طلب إضافي:
في أيِّ
منظمة نازية؟ إذن الرابطة النسائية، لا بُدَّ من ذكر ذلك. في أي المنظَّمات الشيوعية؟
لا يوجد،
ولا حتى رابطة ثقافية، أو رابطة النقابات الألمانية الحرة، أو مُنظَّمة المُلاحَقين من
النازية،
كلَّا. غير أنهم لا يستسلمون سريعًا: هل قمتِ ابتداءً من التاسع من فبراير
١٩٥١م بنشاط شيوعي؟ أو هل قمتِ منذ ذلك الحين بتشجيع أهداف المنظَّمات الشيوعية، أو الديمقراطية
الشعبية الأخرى، وهل كنتِ عضوًا في منظمة شبيهة؟ كلَّا. إذا كانت الإجابة بنعم، فأيُّ
المنظَّمَات؟ تشطب على هذه الخانة. ثم التاريخ والتوقيع.
يستغرق الأمر عامًا حتى تَجمع كِلْتَا المرأتين المستندات المطلوبة. مكالمات تليفونية
لا
تُحصى، رسائل، مشاوير إلى المكاتب الحكومية، ساعات من الانتظار. عمل شاقٌّ، ولكن كل شيء
قد تم
إثباته الآن والتصديق عليه وفق اللوائح، وأخيرًا يمكنهما، في سبتمبر ١٩٥٥م، تقديم الأوراق
في
مصلحة التعويض في برلين، مصحوبة باستمارات الطلبات الأخرى باسم الأبناء.
تحتاج المَصلَحة إلى عدة أشهر، السيدة جروسكورت سعيدة بسبب هذه الاستراحة من النِّضال
مع
الأفعى. تريد أن تنسى كلمة «نضال»، إنها تكره النضال، ولا تحب الكلمة التي ينسبها الشرق
إليها،
«مناضِلة من أجل السلام»، إنه تعبير خاطئ ومِنْبَري، تمامًا مثل تعبير «مُقاوِم» الذي
استقر في
الغرب. إنها تُفضِّل القول: الشرفاء. منهكة تمامًا هي بعد أربعة أعوام من المقاوَمة المستميتة
للأفعى الرابضة في المصالح الحكومية والمحاكم، لم تستطع منذ الحرب أن تأخذ إجازة، سوى
بضعة أيام
في الشرق أو في فيردا، تحلم بالراحة والاستجمام، بعيدًا عن ألمانيا. وها هي هدية تهبط
عليها من
السماء، دعوة إلى مؤتمر في دافوس في مارس، أسبوع من الدورات العلمية، هواء الجبال، تتحمل
شركة
الأدوية كافة التكاليف، ليس عليها إلا أن تجهز جواز السفر وتقدم طلبًا.
لكن الأفعى لا تغفو، لا تتركها بعيدًا عن أعينها، لا تدعها تهرب. الأفعى الكامنة
في أعلى
رسالة رئيس الشرطة تخبرها بتاريخ ٢٣ نوفمبر ١٩٥٥م بأن المصلحة لا تستخرج جواز سفر لأشخاص
مثلها:
إن النشاط السياسي المناهِض للديمقراطية الذي قمتِ به حتى الآن يجعلنا
نعتقد أن حيازتك جواز السفر سوف يلحق ضررًا جسيمًا بمصلحة جمهورية ألمانيا الاتحادية
وولاية
برلين.
ثم تتنازل الأفعى وتذكُر الأسباب: لجنة جروسكورت، رحلة إلى المناطق
الألمانية الخاضعة إداريًّا للسيطرة البولندية، ثم «وسام الاستحقاق الوطني»،
و«ميدالية كلارا تستكين» من ألمانيا الديمقراطية.
جواسيسهم يعملون بكفاءة، لكنهم جهلة، تقول للمحامية، كل شيء يستخدمونه ذخيرةً تُطلَق
نحوها.
لقد مُنِحَ الوسام لها نيابةً عن جيورج؛ تكريمًا للمقاوَمة ضد النازية. هل كان عليها
أن ترفضه، لا
لشيء إلا لتريح رأسها من المَتاعِب هنا؟ إنكار المقاوَمة إذن بدافع من الانتهازية. لماذا
لا
يجعلونها تَنْعَم بتقدير صغير وسط هذا السيل من الكراهية الذي يهطل فوق رأسها؟ أما «ميدالية
كلارا
تستكين» فتمنح للنساء الجسورات، لقد أراد هافَمان أن يُكرِّمها بعد أن انسحبت من اللجنة.
ثم
الرحلة إلى بولندا، لم تكن تمر بأراضٍ ألمانية، بل كان هدَفُها
أوشفيتس، برفقة مُناضِلِين آخَرِين من حركة المقاوَمة، ولا سيَّما من فرنسا. هل تُهدِّد
زيارة
أوشفيتس الآن جمهورية ألمانيا الاتحادية؟ أما اللجنة التي هجرتها منذ زمن بعيد، اللجنة
التي
احتضرت منذ زمن بعيد، هل ستظل تهمة تواجهها حتى أبد الآبدِين؟
دعوى أُخرَى، الرابعة بعد الدعاوى التي رُفِعَت أمام محكمة العمل، ومحكمة الولاية،
والمحكمة
الإدارية لتنال تعويضًا، الآن أمام المحكمة الإدارية مرة ثانية من أجْل الحق في حيازة
جواز
السفر.
تَردُّ الأفعى الكامنة لدى رئيس الشرطة بالحجج القديمة التي استخدمتها محاكم العمل،
باقتباسات
مُسهَبة من صحف برلين الشرقية عن لجنة جروسكورت، وكأن السيدة جروسكورت مسئولة عما تكتبه
صحافة
الحزب الاشتراكي، وكأنها أولبرشت، بل أسوأ من أولبرشت؛ لأنها تَتخفَّى، والأسوأ في الأمر
أنها لا
تعيش لدى أولبرشت.
إذن الرد مرة أخرى، كل شيء من البداية. أناليزه مُعجَبَة بصبر محاميتها في مُواجَهة
عناد
الأفعى: المُساعدة القضائية كواجب من واجبات لجنة جروسكورت، براهين تُثبِت أن لا علاقة
لها
باللجنة منذ وقت طويل، ولا يد لها إطلاقًا فيما كُتِب عنها، ثم مرة أخرى الحديث عن مقاوَمة
جيورج.
مرة أخرى محاوَلة شرْح موقفها: إذا كانت المُدَّعِية تشعر بواجبها في أن
تساهم بجهدها لكي تمنع وقوع تعدِّيات وسط الصراع التعيس بين الشرق والغرب، وإذا كانت
وجَّهَت
نداءً إلى ضمائر الدوائر المشاركة كلها … الضمير، كلمة تُحِب الأفعى سماعها، ثم تكرر:
ليست
شيوعية، بل مناصرة للسلم أجرت اتصالات بناء على خبرتها المُرَّة مع تلك الدوائر التي
— حسب
رأيها — تُناهِض الفاشية والإرهاب، وتُناضِل من أجل السلام.
مرة أخرى يبصق الوحش بحكم قضائي، في فبراير ١٩٥٦م. تُرفض الدعوى، وعلى الطبيبة تَحمُّل
المصاريف: لا جواز سفر. السُّمُّ البرليني بدلًا من الاستجمام في دافوس.
وهل كان أحد ينتظر من المحكمة الإدارية شيئًا آخر، أو مِن الرءوس الأُخْرى للأفعى؟
المحكمة
الإدارية تستخدم حُجج مَحاكم العمل وما قامَتْ به من لَيِّ الحقائق، وكذلك ما قام به
رئيس الشرطة
من تَهويل للأمور، ثم تضخم كل ذلك مرة ثانية. ولأن السيدة جروسكورت تتمتع بثقة كبيرة
باعتبارها
أرملة أحد مُعارِضي النازية المُقتولين، وستجد في البلدان الأخرى آذانًا
صاغية وتفهُّمًا، فإن القضاة يخشون أن يُصدِّق الناس آراءها عن جمهورية ألمانيا الاتحادية
وبرلين، وهي آراء مُعادية للنظام الأساسي الديمقراطي الحُر. هذا هو سبب آخر يمنع
مَنْحَها جواز سفر.
فاتَ أوان رحلة سويسرا على كل حال، إلا أنها لا تريد أن تظل محبوسة في ألمانيا، الدعوى
الخامسة إذن، الاستئناف لدى المحكمة الإدارية العليا. تَطلُب المحامية النظر إلى السيدة
جروسكورت
أخيرًا على حقيقتها، امرأةً تريد مَنْع نُشوب حروب أخرى. مرة أخرى نداء إلى النزعة الديمقراطية
لدى الأفعى: من سِمات الديمقراطية الحقة إعطاء الفرصة للمُخالِفين في الفكر
السياسي لكي يُعبِّروا عن رأيهم وعدم إشعارهم بسطوة رأي الأغلبية.
عندئذٍ تفكر الأفعى في شيء جديد: التسويف والمماطَلة، استنزاف الخصم. طرحَتِ المحكمة
الإدارية
العليا عدة أسئلة بخصوص اللجنة: أيُّ الحقوق الديمقراطية أرادت لجنة
جروسكورت حمايتها؟ وما هي لائحة اللجنة؟ مَن هم الوطنيون؟ ومَن هم المُحرِّضون على الحروب؟
ومَن
هم — مِن فضلِكِ — الفاشيون؟
أجابَتْ حتى على هذه الأسئلة، رغمًا عن إرادتها، متعبة، بكل ضمير.
ما كادت تفرغ من هذا الواجب المدرسي لتنتزع حق كل مواطن في الحصول على جواز سفر، حتى
وصلها
كالقضاء المستعجل إخطار من مَحكمة التعويض، عدة أيام قبل عيد الميلاد في عام ١٩٥٦م: كل
الطلبات
والإثباتات والوثائق ليس لها قيمة، لا شيء، ولا مارك بسبب مُلاحَقة جيورج وقَتْلِه؛ لأنها
شاركَت
في أنشطة لجنة الاستفتاء الشعبي، وبذا حاربت الدستور، وسانَدتْ نظام حكم فردي غاشم.
لا تَتراجع الأفعى، مَخزُون السم لا يفرغ، إنها تريد أن ترى ضحيتها مُلقاة على الأرض،
مُنهكةً
وباكيةً مُستعطِفة. ليس أمام أناليزه اختيار آخر إلا أن تَرفَع دعوى أخرى، للمرة الأخيرة،
فموضوع
الدعوى هذه المرة هو جيورج، وليس رَبَّ عَمَل عنيدًا أو الحق في الحصول على جواز السفر.
دعوى أخرى، السادسة، في مايو ١٩٥٧م لدى محكمة ولاية برلين ضد ولاية برلين، ممثلةً
من خلال
وزير الداخلية وينوب عنه مدير مصلحة التعويض. تعليم الديمقراطية للأفعى مرة أخرى: إن وجود تَعارُض مع برنامج حكومة ألمانيا الاتحادية لا يعني في حد ذاته نشاطًا
معاديًا للدستور. إن مِن حق كل مواطن، بل من واجبه، أن ينتقد رأي إحدى المُنظَّمات الحكومية،
أو
قانونًا، أو لائحة من اللوائح، ولا سيَّما فيما يَتعلَّق بقضية مُهمَّة ومصيرية مثل إعادة
تسليح
ألمانيا. ومرة أخرى تذكر أسماء الذين تَبنَّوا آنذاك الرأي نفسه. ومرة أخرى تحيل إلى
المحاكم التي بَرَّأَت — حتى في برلين — أنصار الاستفتاء الشعبي من أي تُهمة. مرة أخرى
ترجو
الأفعى أن تدرك أن الطبيبة بعيدة كل البعد عن أي نشاط مُعادٍ للدستور، وأن مُساندة نظام
حكم فردي
غاشم لم يكن يومًا في نِيَّتها.
ليستِ الأفعى المسئولة عن التعويض كسولة، إنها تَنفُث سُمًّا مضاعفًا ومُثلثًا: لقد
أرادت
عبْر الاستفتاء الشعبي أن تُرغِم البرلمان والحكومة، مُنتهكةً بذلك مواد الدستور. تستند
الأفعى —
حتى تصيبها بالخرس — إلى الحكم الصادر من أفعى محكمة العمل في الولاية. ثم تنهال على
أذنها
بالاتهامات والتفسيرات المُلتَوية والأكاذيب التي نشرتها أفعى الشُّرطة عن لجنة جروسكورت
التي هي
وسيلة مُهمَّة من وسائل النشاط الشيوعي الهدام.
لم تَعدْ تستطيع قراءة كل ذلك أو سماعه، تقدم إقرارًا عَلَّهم يَفهمُونها أخيرًا.
أَودُّ أن
أطلق على هذا الإقرار اليوم «المرسوم الجروسكورتي»:
عندما أنظر إلى مَرْضاي، أجد ما يزيد عن نِصفهم بحاجة إلى المعونة
الطبية من جانبي؛ لأنهم يُعانُون من عواقب الحرب، ولم يستطيعوا بَعدُ التغلب جسديًّا
ونفسيًّا على هذه المُعاناة. لا يمكن، ولا يجوز في المستقبل، أن نطلب من الأطباء أن يزيلوا
الأضرار الصحية الناشئة عن الحرب والتي تَزدادُ إلحاحًا. إننا نعلم أن علينا مكافحة
المُعاناة المنتشرة في العالم التي لم يتسبب فيها الإنسان؛ مثل أمراض السرطان والأوبئة
وما
شابهها. وإننا عازمون على بذل الجهد للوصول إلى هذا الهدف. ولكن هذه المُهمَّة لا يمكن
إنجازها إلا إذا عَمَّ السلام، وعلى الطبيب أن يُشارِك مُشارَكة إيجابية من أجل أن يظل
السلام سائدًا.