قطع الرأس
لا بُدَّ من أن أحكي الآن حكاية أكسل، ولكي أحكيها ينبغي الرجوع إلى الوراء كثيرًا، إلى سنوات الخمسينيات البعيدة، بل إلى الأربعينيات، ولا بُدَّ من أن نخرج من برلين، وننتقل إلى سلسلة الجبال الوسطى في ولاية هسن، ونبحث عن بلدة فيردا الواقعة بين مدينتي باد هرسفلد وفولدا، ونسافر على الطرق الزراعية في الشمال عبر رينا، ومن الجنوب عبر روتنكيرشن، من الشرق عبر أونترشتوبل، ومن الغرب عبر فتسلوس أو لانجنشفارتس، ونقترب إلى وسط الوادي، ناحية الكنيسة ذات البرج السميك بقمته البَصلية، في اتجاه المنازل العريقة المبنية بالخشب، ومخازن الغلال، والقصرين، وفي الخلف المروج الصاعدة، والحقول الواقعة أمام الغابات التي تغطي قمم الجبال المحيطة بالقرية.
هذا العُش النائي يلعب دورًا حاسمًا كمسرح للقصص التي أريد أن أبوح بها لكم؛ دافِعُ جريمتي ينبع من هنا.
سنستمع الآن إلى الحديث الذي جرى بين طفل المدينة أكسل الذي كان يعيش في فيردا وطفل القرية الذي كنْتُه آنذاك؛ إنهما في الثانية أو الثالثة عشرة من العمر، وتربط بينهما صداقة متينة، كعادة أكسل في العطلات الصيفية جاء مع أخيه رولف من برلين ليقضيَا بعض الوقت في مزرعة العمة. طفل المدينة وطفل القرية يَجريان ذات عصر يوم أحد في طرق الغابة الواقعة فوق القرية، وكما تعوَّدَا أن يفعلَا عندما يفقدان الرغبة في اللعب مع الإخوة والصِّبية الآخَرِين، ما زالت الشمس في كبد السماء، النسيم يداعب حقول القمح، والحصاد لم يبدأ بعدُ، ثم تأتي اللحظة التي يشكو فيها طفل القرية من أبيه الصارم الذي يختبره يوميًّا — عدا أيام الآحاد — فيما حفظه من مفردات لاتينية، فيقول له طفل المدينة: عليك أن تشعر بالفرح؛ لأن لديك أبًا. يفزع طفل القرية؛ لأنه يعلم منذ وقت طويل أن والد الصديق قضى نحبه في الحرب، ولكن بطريقة تختلف عن الآباء الآخَرِين. العصافير تطير وتحلق فوق الدروب، سنابل القمح وعِيدانه تتماوج مع الريح في نعومة، حُمرة زهور الخشخاش لم تكن دموية، فهي تلمع وتضيء إضاءة أجمل من الدم. بعد صمت طويل يتحدث طفل المدينة عن أبيه الطبيب الذي كان معارضًا للنازيين الذين بدءُوا الحرب وتسبَّبوا في موت الملايين من الناس. طفل القرية له أصدقاء آخَرون لديهم بدلًا من الآباء صور الآباء فحسب، الآباء اختَفَوا خلف كلمات مثل «سقط صريعًا» أو «مفقود» أو «قُتل في الحرب»، صور يمكن مشاهدتُها على الطاولات، كانت هناك حرب في الماضي، هذا يعلمه طفل القرية، وكان هناك قائد، «فوهرر»، تحيط به الأسرار، يطلقون عليه «هتلر» أو «أدولف»، وهي أسماء تُنطَق بسرعة واختصار، في سرية وتَحدٍّ، ولكلمة «النازيون» علاقة ما بالأمر، تلك الأشكال القاتمة التي لا يتحدث عنها أحد إلا بصوت خافِت وبعد أن يتلَفَّت حواليه، غير أنه لم يسمع أبدًا بأب مثل هذا؛ ولأنه كان معارضًا للحرب، يقول طفل المدينة، فقد قتلوه، هؤلاء المجرمون. في ثانية واحدة ينتاب طفلَ القرية نوعان من المشاعر: الفزع من أن الألمان قَتلوا ببساطة ألمانيًّا، طبيبًا؛ والرعب من الإدانة القاسية للنازيين ووصفهم بالمجرِمين. هذا جديد، جارح في وضوحه، إنه — بطريقة ما — يتجاوز الحدود؛ أبوه أيضًا يدين الحرب، أسوأ شيء في الدنيا، وأكثرها إثارة للحزن، هكذا يقول، افرحوا لأننا نعيش في سلام. طفل القرية يستشهد بأقوال أبيه أمام صديقه، ومع ذلك لم يقتله أحد، بل كان أسيرًا لدى الفرنسيين. بسرعة يبادره بالرد: ولكن أبي قالها أثناء الحرب، أبوك بعدها.
القنابر تُحلِّق عاليًا، دفء الشمس أمسى مزعجًا، طفل القرية يشعر الآن باحمرار وجهه، كان يريد أن يتباهى بعض الشيء بالفترة التي قضاها أبوه في الأسر، وهو قضى ثلاث سنوات على كل حال، والآن يشعر بالانكسار والخجل.
فترة صمْت طويلة من جديد، ثم السؤال: وهل قتلوه بالرصاص؟ صمت. لا. صمت. شنقوه؟ صمت. لا. صمت. كيف قتلوه إذن؟ صمت. حدث ذلك في السجن. هيا، قل. لقد قطعوا رأسه، بماكينة ما، بشيء كالبلطة.
لحسن الحظ وصل الطِّفلان إلى حافَّة الغابة، مكان ظليل به جذوع شجر مقطوعة ليجلس عليها الناس. لم ينطق طفل القرية بكلمة. في منتصف الوادي تقع البيوت ومخازن الغلال والحظائر، سكون، ليست هناك جرارات زراعية تسير في الطُّرقات يوم الأحد، ولا عربات تجرها الدواب، الخنازير والبقر هادئة؛ لأن لديها ما تأكله. في وقت العصر تَصمُت حتى الكلاب والدجاج والأجراس. الضجيج الوحيد: القنابر فوق حقول القمح. قطعوا رأسه، صدى هاتين الكلمتين الذي يصم الآذان يتردَّد بلا صوت عبْر الوادي، ثم يرجع الصدى ويبتلعه الدماغ. قطعوا رأسه، إنهم يفعلون ذلك مع الدجاج، إنهم يقبضون على الدجاجة من الجناحين، ثم الرأس، تتدفق الدماء، ويقع الرأس على الأرض، ترتجف الدجاجة وترتعش مرة أخرى. ذات يوم رأى طفل يضعونها على القُرْمة، حيث تحاول التملُّص، ثم تَرفَع الفلَّاحة السكين — فهذا عمل تقوم به النساء — وتقطع الرأس، تتدفق الدماء ويقع الرأس على الأرض، ترتجف الجاجة وترتعش مرة أخرى، ذات يوم رأى طفل القرية الدجاجة تطير في الهواء بلا رأس، بضربات محمومة من الجناحَين طارت فوق نصف الحوش، ثم فجأة، وكأن رصاصة أصابتها، وقعت. قَطْعُ الرأس، الانتظار حتى تنزف الدجاجة كل دمائها، نَتْف الريش، الغسيل، التمليح، ثم إلى الطَّنْجرة، هذا هو قَدَر الدجاج. الأرانب مثلًا لا تقطع رءوسها، الخنازير تُقْتَل بتصويب ما يُشْبِه السهم الصغير على الجبهة، البقر يُساق إلى السلخانة، ليس هناك حيوان آخر يُقطع رأسه، لماذا يقطعون إذن رأس إنسان؟ لقد تُرك طفل القرية وحيدًا مع كلمتي «قطعوا رأسه»، لا يستطيع أن يتحدث عن ذلك مع الصديق الذي باح بالكثير. إنه يظل وحده مع الكلمتين: قطعوا رأسه.
تربط الصداقة بين الطفلين منذ أن تعلَّمَا المشي ومنذ أن استطاعَا الكلام، لقد كبرَا معًا تحت سقف واحد تقريبًا. هجر أكسل، ورولف برلين في الصيف قبل الأخير في الحرب، وسافرَا إلى جدتهما في الأرياف التي استأجرَت غرفة في بيت الكهنة المُلحَق بالكنيسة، هذه الجَدَّة هي والدة أناليزه جروسكورت. منزل العمَّة الفلاحة — أخت جيورج جروسكورت — كان يقع مباشرة بجانب بيت الكهنة. بعد إعدام زوجها هربت السيدة جروسكورت إلى هنا أيضًا، العائلة مُوزَّعة على منزلين متجاوِرَين، لا يفصل بينهما سوى باب الحديقة. لم تسقط على فيردَا قنابل، في فيردَا كان الطعام متوافرًا، بعد ذلك جاء الأمريكان، وكان الطعام متوافرًا أيضًا. الصَّدِيقان، وقد غادرَا معًا مرحلة الطفولة المبكرة البائسة، ظلَّا متلازمَينِ، حتى عندما أصبح أكسل طفلًا برلينيًّا بعد عامين من نهاية الحرب.
على مائدة العشاء حاوَل طفل القرية أن يسأل الأب: ماذا فعلوا بوالد أكسل، هل قطعوا رأسه؟ غير أنه لم يستطع أن ينطق إلا بالجزء الأول. لم يجرؤ على التَّفوُّه بصوتٍ عالٍ بكلمة «قطعوا»، لقد تلعثم بسبب حرف القاف، وقد ملأتْ صِور الرعب رأسه أكثر من المعتاد. نعم، كانت تلك فترة سيئة، أجابه الأب، أعتقد أنهم أطلقوا النار عليه، لكنه كان شيوعيًّا. «لكن»، ماذا تعني «لكن» هنا، يسأل الطفل نفسه. شيوعي، كلمة مرعبة، رغم ذلك يتجرأ الطفل على توجيه سؤال آخر: ما معنى هذه الكلمة؟ الآن تأتي الإجابة أكثر ثباتًا وأقل ترددًا: واحد مثل الذين يعيشون في المنطقة الشرقية، حيث لا حرية، وحيث يريدون أن يمنعوا الدِّين. تَتقافَز أسئلة جديدة في ذهن الصبي، إلا أنه لا يجرؤ على طرحها؛ لأن كل شيء يزداد تعقيدًا وخطورة.
ثمة خطأ ما. إذا كان السيد جروسكورت مؤيدًا للمنطقة الشرقية، فلماذا تعيش السيدة جروسكورت هنا، ولماذا يعيش أولادها هنا؟ ثم الحرية، إذا كانت هناك امرأة تبدو حرة وطيبة وكريمة ومحبة للسفر والرحلات فهي أم أكسل ورولف.
لم يستطع طفل القرية أن يسأل طفل المدينة إلا في الصباح التالي: هل كان أبوك شيوعيًّا؟ لقد كان يَوَد أن يسأل: لماذا قطعوا رأس الشيوعيين؟ ولكن هذا السؤال ظل أيضًا محشورًا في حلقه. تأتي الإجابة سريعة: مَن يقول ذلك؟ والدي! يتطلع طفل المدينة طويلًا إلى طفل القرية، نظرة مُعاقَبة إلى الخائن. والداك لم يعرِفَا أبي، كل ما فعله أبي أنه كان يؤيد إنهاء الحرب والتوقف عن قتل البشر. ألم يكن — يسأل طفل القرية — يؤيد المنطقة الشرقية؟ لم يكن للمنطقة الشرقية آنذاك وجود يا مغفَّل! وشرع يضحك، طفل المدينة، ضحكة قاسية مُتبرِّمة لا تصدر إلَّا عن ابن المدينة، ضحكة لم يسمع طفل القرية مثلها في حياته؛ لذا ولَّى الفرار والخجل يغطيه، وانزوى في منزله.
طفل القرية يعرف أيضًا أن الحدود بين الشرق والغرب لم تقسم بلاده إلا بعد الحرب، غير أنه يشعر أن اللباقة تنقصه في مثل هذه الأحاديث، يشعر بأنه ضعيف وغبي، لا يستطيع أن يخطو فوق النيران التي أشعلتها الكلمتان «قطعوا رأسه»، أو أن يحاصرها أو يخمدها. أسوأ من ذلك هو الغضب المكتوم، الفشل أمام الصديق، بل خيانة الصديق. إنه في حالة بائسة لا تقبل العزاء، تمامًا كما حدث آنذاك، في الكارثة الأولى التي مر بها في الطفولة، عندما راح يبكي وينتحب لأنهم انتزعوا صديقه منه. كان على أكسل ورولف أن يعودَا إلى برلين، الحرب انتهت منذ عامين. يجب على رولف أن يذهب إلى المدرسة، ولكن لماذا لا يبقى أكسل في فيردا؟ طوفان الدموع كان هو الوسيلة الوحيدة التي واجه بها الفقدان الماثل، إلى أن جاءت السيدة جروسكورت وأهدَتْه كتابًا على سبيل العزاء، كتابَ أطفال حقيقيًا، وليس كتابًا مصورًا فحسب، بل كتابًا حقيقيًّا يستطيع أن يطالعه لاحقًا، بعنوان «رحلة نيلس هولجرسون».
أخَذ طفل القرية يبحث عن الكتاب القديم، لكنه لم يجده، لذلك تجنَّب صديقه المحبوب حتى المساء، ثم تصالحَا في الصباح التالي، وسحب طفل المدينة كلمة «مُغفَّل». لسنوات عديدة لم يجرؤ طفل القرية أن يكسر الصَّمْت المحيط ﺑ «الرأس المقطوع» وألغاز الشيوعية.
هنا، أستطيع أن أقول للخبير النفسي في المحكمة: تجد الخبرة الحاسمة في حياتي، ومن هنا يمكنك أن تبدأ في تحليل شخصيتي، ومن دموع ابن الرابعة وأوهام طفل القرية أرجوك أن تتوصل إلى النتائج.