زيادة قدرة الإنجاز البدني أثناء العمل بقناع الغاز
حتى القَتَلة يلتزمون باللوائح. يرسل فرايزلر و«ر» حكم محكمة الشعب العليا إلى المُدَّعي العام في الرايخ، هو أيضًا عيَّنَه هتلر، ثم يُقدِّم المدعي هذا الحكم إلى شركائه في الجريمة لدى وزير العدل في «فيلهلم-شتراسه». استبشر الرفاق في الوزارة خيرًا، وهم أشخاص مثقفون يحبون أن يتحكموا في مصائر الناس كالقياصرة، ثم يرفعون الإبهام إلى أعلى أو إلى أسفل. إلى أسفل يعني: إحالة الأوراق إلى الجلاد روتجر. إلى أعلى: تكليف الجلاد روتجر في البداية بأشياء أخرى، وتأجيل الإعدام بعض الشيء، وترك مرتكبي جريمة الخيانة العظمى في حق الشعب الألماني يتقلبون على أحر من الجمر، ترك الأمل يداعب جفونهم، عدة أيام أو أسابيع أو شهور على أقصى تقدير، هذا إذا كانت لهم فائدة للشعب الألماني، أو إذا كان من الممكن اعتصار أقوال منهم تُستخدم في قضايا أخرى. لا يمكن الطعن في أحكام الإعدام. أما التماس الرأفة فلا يؤدي في أفضل الحالات إلا إلى وقف تنفيذ الحكم مؤقتًا. إلى متى، وماذا تعني كلمة «مؤقتًا»؟ القرار في ذلك يرجع إلى عصابة «فيلهلم-شتراسه».
كان المحكوم عليهم يُقدِّمون مثل هذه الالتماسات. عن د. جروسكورت تَرافَع المحامي هندلر قائلًا: إن الطبيب والعالِم الذي يعترف الجميع بمهاراته الممتازة فَقدَ — ذهنيًّا — الأرض التي يقف عليها، فارتبك واختلَطَت عليه الأمور، وورَّط نفسه في أنشطة مُعادِية للدولة. إن جَسامة أفعاله أمْر غير مطروح للنقاش. إن المحكوم عليه يريد أن يُحرِّر نفسه من أفكاره الخطيرة، كما أنه ينبغي الحفاظ على حياته من أجْل العلم.
يضع هافَمان أمله في الزملاء المرموقين في كلية الصيدلة الذين يريدون أن يكلفوه بأبحاث لصالح القيادة العليا للجيش الألماني. يُنشِّط ريشتر علاقاته بمكتب جورينج، ويريد العمل في نظام لبناء الشقق السكنية سابقة التجهيز. يسعى رِنتش إلى اختراع عوَّامة لسلاح البحرية يمكن تشييدها في وقت قصير للغاية. عبْر الاستعانة بالمراجع وموقد «بِنزِن» وقطَّارة وما شابه، وهي أشياء يُسمح لزوجته بإحضارها، يخطط جروسكورت لكتابة مقالات وإجراء سلسلة من التجارب الطبية على نفسه للتوصل إلى التالي: زيادة قدرة الإنجاز البدني أثناء العمل بقناع الغاز.
السادة شركاء الجلاد الذين يجلسون في وزارة العدل في الرايخ غير سعداء بهذه الطلبات الكثيرة التي تُقدَّم من أجْل إجراء أبحاث مُهِمة للحرب. لقد أهان الخونة الفوهرر، وخَدَعوا الرايخ خدعة مُخزية، لقد أرادوا أن يُقدِّموا الشعب الألماني لقمة سائغة لأعدائه، وشَكَّكوا في النصر النهائي، والآن يقدمون مُساهَمات مُهمَّة للحرب؛ مَن يُصدِّق هذا؟! من يستطيع أن يحكم على صدقيته؟ حِيَل، تسويف، العلم في مُختَبر السجن، إلى أين سيصل بنا هذا الطريق؟! على كل حال، لا يمكن الاعتماد على آراء المؤيدين، أساتذة الجامعات والخبراء. إلى أين سيصل بنا الأمر إذا تطاول الباحثون على أحكام مَحكمة الشعب العليا؟! غير أن الإبهام صبور، هناك احتياج للخَوَنة في قضايا أخرى، لم يتم القضاء على وكر الجرذان بَعْد. بَعدَ أن تصدر أحكام الإدانة ضد كل المشارِكين الثانَوِيِّين، وبعد أن تغدو أوراقهم من نصيب الجلاد، عندئذٍ سنخفض الإبهام، فلندعهم يرتجفوا ويرتعشوا ويُمثِّلوا دور العلماء إلى أن يحين الوقت.
قبل أن تُرسل رسائل السجناء بالبريد لا بُدَّ من مرورها أولًا على السادة الموظفين للاطلاع عليها. ماذا يكتب الطبيب أول؟ هل يقوم مرة أخرى بتبذير الورق في توجيه النصائح إلى تلاميذه الذين يكتبون أطروحة الدكتوراه؟
يتناول الجلاد روتجر الفأس ويقطع شجرة عيد الميلاد، البرودة قارصة في يناير، والذين ينتظرون الحكم بالإعدام يرتعدون في ملابسهم الخفيفة. في الصحون الطعام الفاتر بالغ الرداءة، لا يكاد يحتوي على سعرات حرارية، هكذا يحسب جروسكورت، أما التدفئة فضعيفة لا تكاد تدفئ أي زنزانة. في الأسابيع الأولى يحالف الحظ هافَمان وجروسكورت، فيسكنان بجوار بعضهما بعضًا. عندما يكونان غير مشغولين بالعمل، يقفان بجانب المدفأة، أنصاف ليالي بأكملها يقفان هكذا، يبحثان عن بعض الدفء والأحاديث. يطوران نظامًا للأحرف وعبْره يتبادلان الحديث. يقسمان الأبجدية إلى ثلاث مجموعات، من الألف إلى السين، ومن الشين إلى الكاف، ومن اللام إلى الياء، وبالاستعانة بِزِرٍّ من سروال قديم يدقان بصوت خافت على أضلاع المدفأة. في البداية يتم تحديد مجموعة الأحرف بدقة أو دقتين أو ثلاث دقات، ثم يحددان مكان الحرف في المجموعة بعدد الدقات. وهكذا يتحدثان عن الحرب والتوقعات والأصدقاء. تك — تك. تكتكتك — تكتكتكتكتك. تك — تكتكتك. هذا معناه: أنت. بدقات صبورة يتم جيورج جملته المُوجَّهة إلى الزنزانة المُجاوِرة: أنتَ متفائل ميئوس منه.
يطلب جيورج من أناليزه أن تستطلع الجهات التي قد تكون مُهتمَّة بأبحاث مُعيَّنة، بينما كان هو في زنزانته عرقانًا ومبهور الأنفاس على الدرَّاجة التي يقيس بواسطتها الجهد العضلي المبذول وعلى وجهه قناع الغاز، مُسجِّلًا نِسبة حامض اللبنيك وارتفاعه أو انخفاضه. طلاب الدكتوراه يرسلون له أطروحاتهم، وهو يقوم بالتصحيح. ليس لدَى إدارة السجن مانع في أن يعالج د. جروسكورت موظَّفِي السجن. هؤلاء المَرضى يقابلونه بالتقدير أيضًا. أجمل أوقاته يقضيها مع عِلْم الفلك. يقرأ في المراجع المتخصصة عن الجاذبية وسُرعة الضوء والمَسار الذي يأخذه جُزَيء الطاقة والضَّباب المحيط بالنجوم.
تبعث أخته لويزه بفطائر «الكرابفن» من فيردا إلى برلين حيث تأخذها أناليزه وتُسلِّمها إلى قس السجن في براندنبورج. يخفي القس الفطائر ويهربها إلى الزنزانة، ويقف أمام ثقب المفتاح إلى ينتهي السجين من الأكل. يعرض القس على السيدة جروسكورت أن يوصل رسائل سرية إلى زوجها، بعيدًا عن أعين الرقابة.
ليس هناك سوى جونتر، مالك إحدى شركات الأدوية، والزملاء الصيادلة في الجامعة، هؤلاء لا يريدون على أية حال الاستغناء عن تَعاوُن جروسكورت وروحه البحثية الوقادة، ولكن منذ متى يهتم القياصرة الصغار في وزارة العدل بتقدُّم عِلْم الصيدلة؟ رغم ذلك ينجح المحامي هندلر في حثِّ الباحثِين ورجال الصناعة لكي يساندوا التماس الرأفة. يصل الالتماس إلى القتلة الذين يحتلون أعلى مكانة في الرايخ، إلى كالتنبرونر، رئيس شرطة الأمن والقائد الأعلى لفرق اﻟ إس إس. وتحدث المعجزة. يعترض هملر، قائد اﻟ إس إس في الرايخ، على الحكم بتنفيذ الإعدام، على ما يبدو دون أن يطلع على الملفات. لكن ذلك لا يعجب السادة القتلة في وزارة العدل. وبعد أن يتشاور هملر مع السيد تيسين يسحب اعتراضه.
عندما ترغب أناليزه بزيارة زوجها في براندنبورج، يتحتم عليها في كل مرة أن تقدم طلبًا للحصول على إذن خاص من محكمة الشعب العليا، تحصل عليه كل أربعة أسابيع تقريبًا. القطارات المسافرة إلى براندنبورج هدف دائم لقنابل الطائرات. من المسموح لهما أن يشجع كل منهما الآخَر بعيون حزينة. ترى أنه يبدو بائسًا ونحيفًا. وهو يرى أنها تبدو بائسة ونحيفة. ولكنهما لا يتحدثان عن ذلك. نصف ساعة: الولدان. العمل. المواد التي يحتاجها للأبحاث. العلاقات. أمها، والداهما، الأقارب. العمل. الأطفال. حبيبي، حبيبتي.
يُدوِّن أحد المُرْتدِين الزِّي الرسمي كل كلمة ينطقان بها، أو يُمثِّل أنه يفعل ذلك.