سعداء معًا
لافتة نحاسية ضخمة مُثبتة بجانب باب الفيلا المكسُوَّة من الخارج بالطوب المُزجَّج: حرف الراء المحفور المنساب يواجه الزائر داعيًا إياه إلى الدخول، بينما يجد الضيف وجهه المنفعل مصغرًا ومنعكسًا على اللوحة النحاسية النظيفة البراقة. رب البيت يفتح بنفسه بعد دقة الجرس الأولى مباشرة، تلك النغمة المزدوجة لفرقة خماسية مرحة، قدم لي يده اليمنى التي يؤدي بها القسم، وبعبارات الترحيب النمطية قادني إلى غرفة المعيشة وقدَّم قهوة من الإبريق الموجود على الطاولة تحت قبعة من القماش تحفظه دافئًا.
وقع بصري أولًا — وكأن «ر» هو الذي وجهه إلى هناك — على حائط مُزيَّن بشهادات داخل إطار أنيق، وبجانبها، على حافَّة المدفأة، عدد من الكئوس. تولَّد لدي الفضول، لذا تردَّدتُ في الجلوس على الفوتيه الوثير الذي أشار إليه. فقال لي: أَلقِ نظرة حولك كما يحلو لك، فالقهوة لن تبرد سريعًا.
عرفتُ بسرعة خاطفة أن الشهادات أحكام، الصفحات الأولى من الأحكام القضائية المكتوبة وفق النموذج المعتاد: باسم الشعب الألماني. في القضية المرفوعة على (اسم المدَّعى عليه) أصدرَتْ محكمة الشعب العليا والمكونة من (أسماء القضاة) الحكم التالي: إننا نحكم بالإعدام على الذي (التي/الذين) فَقدَ شرَفه (فقَدَت شرَفها/فقدوا شرَفهم) إلى الأبد.
– أجمل ما أصدرتُ من أحكام. لم أستطع بالطبع أن أُعلِّقها كلها.
وضحك في صبيانِيَّة قبل أن أفهم ما يعنيه.
– لم أخترِع هذه النكتة من أَجْلِك. إنني أقولها دائمًا.
تنقَّلْتُ من إطار مُزيَّن إلى الآخَر، محاولًا أن أحفر الأسماء في ذاكرتي أو القضية: الخيانة العظمى، إشاعة الروح الانهزامية، الخيانة العظمى، الاستماع إلى إذاعات مُعادية، الخيانة العظمى، الخيانة العظمى. وسمِعتُه يقول: لا تقف متسمِّرًا هكذا أمام هذه الأحكام، إنها تتكرر، مع تغييرات طفيفة، الفروق الدقيقة تجدُها في الحيثيات والصِّيغ القانونية على الصفحات التالية. إنني أعرض هذا على كل زُواري، وعليك أيضًا بالطبع حتى ترى أنه ليس لدي ما أخفيه.
اقتربتُ من المدفأة، أربع كئوس مُتجاوِرة في صف واحد، أكبرها مُتوَّجة بمقصلة فضية يبلغ ارتفاعها عشرة سنتيمترات. على الفور أجاب «ر» على نظرتي المندهشة:
– كأس رولاند فرايزلر لعام ١٩٤٤م!
وإلى جانبها المقصلة نفسها ولكن مُصغَّرة ومن الصفيح، ومحفور عليها: كأس رولاند فرايزلر لعام ١٩٤٣م من الطبقة الثانية. وإلى يمينها وعلى عمود صغير العلامة المزدوجة للمواد القانونية § المكسُوَّة بالفضة، وإلى اليسار كِتاب برونزي مُزيَّن بالصليب المعقوف في حجم علبة سجائر، قانون العقوبات.
– تعالَ، القهوة ستبرد.
وابتسم وهو يجلس بجانبي على الأريكة في غرفة المعيشة، قرب الحليب والسكر ناحيتي، وطلَب مني أن أتناول أيضًا بعضًا من البسكويت. استرخَى وجهه، الملامح البارزة بدون تجاعيد المرارة. قال: لاحظتَ بالتأكيد أنني فخور بكأس رولاند فرايزلر على نحو خاص. رئيس المحكمة كان يمنحه مرةً في العام إلى أفضل معاونيه. كان الكأس الأخير الذي قام بتسليمه، ما زلتُ حتى اليوم أشعر بيده وهي تضغط بقوة ووُدٍّ على يدي.
أرسلتُ نظري عبْر باب الشُّرفة إلى الحديقة، واستقرت نظراتي على عش صغير تحوم حوله طيور القُرقُف، وللحظة فكرتُ في الهرب.
– الكأس الأخرى … أنتَ تعلم، مَن يؤدِّي واجبه بضمير، يُكافَأ مكافآت صغيرة.
كانت القهوة فاترة. لم أنتبه إلى البساط الفاخر إلا الآن، بساط فارسي على الأرجح. مرةً أخرى حدس مُضيِّفي اليقظ ما أفكر فيه.
– أنت تتعجَّب لأنني لا أخفي شيئًا عن الأعين؟ ولكنك بالطبع لا تصدقني تمامًا. أنت تظن، هه، لا بُدَّ أنه يصمت عن شيء ما. كلَّا، أنا بالفعل لستُ بحاجة إلى أن أخفي شيئًا وأكنسه — كما يقول المثل — تحت السجادة.
ورفع طرف السجادة عاليًا، وقلبها حتى منتصفها، ثم الطرف الآخر، وبعد المرة الرابعة ضحك قائلًا: كل شيء نظيف، كله عن اقتناع. كله تمام؟ حتى رجال القانون من حقهم أن يتحلَّوا بالمرح، أم أن لك رأيًا آخر؟
الرشفة الأخيرة من القهوة كانت باردة، لم أُرد فنجانًا ثانيًا، وتناولتْ قطعة بسكويت ذابت في فمي.
– أعرف ما تريد أن تسأله. إنك مُؤرِّخ، كل زُوَّاري إما مؤرخون أو صحفيون. إجابتي بسيطة للغاية. كنتُ دائمًا رجلًا يتحدث لغة واضحة. لا ينبغي عليَّ أن أخجل من نفسي؛ لأني عملت قاضيًا. كما تعلم فإني لم أنتهك مواد القانون، ولذلك أستطيع أن أتحدث عن ذلك بصراحة وحرية. إن الصراحة هي مبدئي، مائة في المائة. هذا أفضل من عشرة أو خمسين أو تسعين في المائة من مشاعر الذنب الممزوجة بهذا الخوف الأحمق من الرأي العام. أتريد كأسًا من الكونياك أم من الشيري؟
أشرتُ إلى الكونياك، ووضعتُ ساقًا فوق الأخرى، فواصل «ر» المقابَلة الصحفية قائلًا: إذا أردتَ يمكنكَ أن تأخذ معك ألبوم قصائدي.
وذهب إلى كومود من طراز «بيدرماير» بجانب باب الشُّرفة، وأحضر ملفًا، ثم وزنه في يده ووضعه على المائدة بجانب البسكويت.
– هذه نسخة بالطبع تحتوي على منطوق أجمل الأحكام التي أصدرتُها، وأكثر الحيثيات أصالةً وابتكارًا. كنت آنذاك سريع الانفعال وأصغر سنًّا. هل يهمك أن تَطَّلِع عليها؟
أومأتُ، وظل هو يتحدَّث بحماسة عن الموضوع نفسه.
– تكاليف النُّسخ باهظة بالطبع، لا أستطيع أن أهديها لك. لا بُدَّ من أن أتقاضى منك للأسف ٤٩ ماركًا.
أومأتُ، وأخرجت ورقة نقدية من المحفظة، فأرجع لي ماركًا ثم نقش حرف الراء المنساب على الصفحة الأولى.
أومأتُ ونهضت.
– ليس هناك أية أسئلة أخرى؟
هكذا سألني وقد خاب أمله قليلًا، ثم أضاف:
– أم تسمح لي بدعوتك إلى زيارة القبو؟ القبو الذي أُمارِس فيه هوايتي؟
للحظة لم أستقر على رأي.
– فلنترك المزاح جانبًا، ليس لدي جُثَث في القبو، كما أن الزمن تغيَّر. اليوم يمشي الخونة أحرارًا طلقاء. اليوم …
وعند الباب: أسعدني لقاؤك. مع السلامة!
أي لحظة كانت هي اللحظة المناسبة لإنهاء اللقاء؟ هكذا تساءلتُ عندما استيقظتُ من النوم، قبل موعدي في شليزفيج بأسبوع. هل بالفعل لم أنطق حرفًا؟